- الموافق
- 3 تعليقات
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة - أبو مالك
(الحلقة الثانية والأربعون – هل يُشرع القتالُ طريقةً لتغيير دار الكفر إلى دار إسلام وإقامة الدولة الإسلامية؟)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
أثر الأحكام التي شُرِعتْ في المدينة المنورة بعد قيام الدولة في أحكام الطريقة التي شُرِعَتْ في مكة المكرمة قبل قيام الدولة
هل يُشرع القتالُ طريقةً لتغيير دار الكفر إلى دار إسلام وإقامة الدولة الإسلامية؟
شرع القتال في جميع صوره في المدينة المنورة ولم يكن مشروعاً في جلّ صوره في مكة المكرمة، فلِمَ لم تؤخذ أحكام القتال في طريقة العمل لإقامة الدولة تطبيقاً لما ذكرناه آنفاً من عدم تأثير المكان في التشريع؟
وقبل الرد على هذه المسألة أؤكد قاعدة للفهم وهي أن أحكام الإسلام منها ما أنيط تطبيقه بالخليفة أي بالدولة وذلك كالجهاد لحمل الدعوة إلى العالم[1]، وإقامة الحدود، وقتال أهل البغي، وقتال المرتدين، وعقد المعاهدات، والإلزام بالتبني ظاهراً وباطناً، وإنزال الناس قهراً على أحكام الشرع. وصلة الأفراد والجماعات بهذه الأحكام هي وجوب إيجاد الخليفة الذي يطبقها وفقاً لقاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) والأدلة مستفيضة في ذلك.
وهناك أحكام تتعلق بالأفراد والجماعات وقد أنيط تطبيقها بوجود الخليفة أي الدولة وذلك كمحاسبة الحكام، والسمع والطاعة لولي الأمر، ومنح الأمان للمستأمن، فهذه الأحكام يقوم بها الأفراد والجماعات بشروطها إذا كانت هناك دولة وما كان واجباً منها يدخل تحت القاعدة السابقة.
وهناك نوع أخير من الأحكام تتعلق بالأفراد والجماعات ويجب التزامها سواء وجد خليفة أم لم يوجد، وذلك كالأحكام المتعلقة بالأفراد في علاقاتهم الثلاث (علاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره من الناس)، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنشاء الجماعات السياسية، وهذه الأحكام واجبة (مع مراعاة العينية والكفائية في الوجوب) في ظل وجود الخلافة أو في عدم وجودها وإن كان وجود الخلافة ييسر أمر تطبيقها، فضلاً عن ارتباطها بالخلافة من ناحية الإلزام بما كان واجباً منها.
وعوداً على موضوع القتال أقول: إن القتال الذي شرع في المدينة المنورة أو استكملت بعض تشريعاته فيها كان على الوجوه الآتية:
1ـ الجهاد في سبيل الله لحمل الدعوة إلى العالم وفتح البلاد بالإسلام وهذا مُناطٌ تطبيقه بالدولة قولاً واحداً.
2 ـ قتال المرتدين: وهو من أعمال الدولة مما لا يجوز للأفراد القيام به.
3 ـ قتال أهل البغي: وهو كذلك من أعمال الدولة، إذ لا وجود للبغي إن لم توجد الدولة.
4 ـ قتال المحتلين والمعتدين من الكفار وهو مشرّع حال وجود الدولة وفي حال عدم وجودها.
5 ـ قتال الحاكم إذا أمر بالمعصية أو الكفر أمراً بواحاً، ولا مناط لتطبيقه إن لم يوجد الحاكم [الذي يحكم بشرع الله ومن ثم أظهر الكفر البواح في دار الإسلام، وسيرد نقاشه إن شاء الله].
6 ـ قتال الأفراد فيما بينهم كدفع الصائل، ومقاتلة المغتصب، ورد الاعتداء على المال أو العرض وهذا من أعمال الأفراد وقد ورد شيء من تشريعه في مكة كما سيأتي بيانه.
ولن نناقش أحكام القتال المناط تطبيقها بوجود الخليفة فهي ليست مرادنا، بل سنتطرق لتلك الأحكام التي شرعت للأفراد وتحتاج إلى بيان وهو التفريق بين أعمال الكتلة وأعمال الأفراد.
وللوقوف على تفصيل هذا الأمر نذكر الأدلة برواياتها الصحيحة:
أولاً: بعض ما ورد من تعذيب قريش للمسلمين والذي يستوجب العقل رده بالقوة:
قال ابن اسحق: «ثم إنهم عدوا على من أسلم فوثبت كل قبيلة على من فيها من المسلمين، فجعلوا يحبسونهم، ويعذبونهم، بالضرب والجوع والعطش وبرمضاء مكة إذا اشتد الحر، يفتنونهم عن دينهم، فمنهم من يفتن من شدة البلاء الذي يصيبه ومنهم من يصلب لهم ويعصمه الله منهم»، وجاء في البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «رأيت عقبة بن أبي معيط جاء إلى النبي ﷺ وهو يصلي فوضع رداءه في عنقه، فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء أبو بكر حتى دفعه عنه، فقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم» وجاء في الروض الأنف للسهيلي: «قال أبو جهل لسمية أم عمار بن ياسر: ما آمنت بمحمد إلا لأنك عشقته لجماله، ثم طعنها بالحربة في قبلها» وجاء في سيرة ابن هشام عن سعيد بن جبير قال: «قلت لعبد الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله ﷺ من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم، والله إن كانوا ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: آللات والعزى إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، حتى إن الجعل ليمر بهم فيقولون له: أهذا الجعل إلهك من دون الله؟ فيقول: نعم، افتداءً منهم مما يبلغون من جَهد».
قال ابن اسحق بعد استعراضه لحادثة إسلام عمر: «فتفرق أصحاب رسول الله ﷺ من مكانهم، وقد عزوا في أنفسهم حين أسلم عمر مع إسلام حمزة، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله ﷺ، وينتصفون بهما من عدوهم».
فهذه الأدلة وغيرها، تدل دلالة واضحة على أن ما كان يصيب المسلمين من المشركين يستوجب عقلاً الرد عليهم ودفع أذاهم، لا سيما وأن المسلمين قادرون على دفع الأذى، وهذا ما لم يفعله الرسول ﷺ لعدم وجود الإذن الشرعي به[2].
ثانياً: موقف الرسول ﷺ الذي هو موقف الكتلة من هذا الأمر:
الدليل الأول: كان الرسول ﷺ قادراً على الاستنصار بمنعته، جاء في البخاري فيما رواه جبير بن مطعم قوله ﷺ:«إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد» وقد ذكره البيهقي في سننه والطبري في جامعه بزيادة: «إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد». ثم شبك رسول الله ﷺ يديه إحداهما بالأخرى[3]. ولعل موقفي حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه من أبي جهل وعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين إسلامه مشهوران.
الدليل الثاني: روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله ﷺ، وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا،ألاتدعو الله لنا؟ قال: «كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه. ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمن هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون».
الدليل الثالث: جاء في السيرة بعد بيعة العقبة الثانية، قال رسول الله ﷺ:«ارفضُّوا إلى رحالكم. فقال له العباس بن عبادة بن نضلة: والله الذي بعثك بالحق: إن شئت لنميلن على أهل منى غدا بأسيافنا؟ قال: فقال رسول الله ﷺ: لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم. قال: فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها حتى أصبحنا».
الدليل الرابع: جاء في سبب نزول الآية: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً﴾ للنيسابوري (وقاله الطبري، وقاله الكلبي): «نزلت هذه الآية في نفر من أصحاب رسول الله ﷺ منهم: عبد الرحمن بن عوف والمقداد بن الأسود وقدامة بن مظعون وسعد بن أبي وقاص، كانوا يلقون من المشركين أذى كثيراً ويقولون: يا رسول الله، ائذن لنا في قتال هؤلاء، فيقول لهم: كفوا أيديكم عنهم فإني لم أومر بقتالهم[4]، فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، وأمرهم الله بقتال المشركين، كرهه بعضهم، وشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى هذه الآية» انتهى والآية مدنية فهي من سورة النساء، وفي سنن النسائي زيادة «فقالوا: يا نبي الله، كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة؟ فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم[5]». قال الحسن: هي في المؤمنين؛ لقوله: ﴿يخشون الناس﴾ أي مشركي مكة ﴿كخشية الله﴾ فهي على ما طبع عليه البشر من المخافة لا على المخالفة. وقال السدي: هم قوم أسلموا قبل فرض القتال فلما فرض كرهوه.
فهذه الأدلة يفهم منها أن الأمر بالقتال [وهو الجهاد هنا] لم يكن مأذوناً به من قبل الشرع ولم يقم به الرسول ﷺ ولم يأمر به مع إمكانية القيام به ووجود القدرة عليه.
ثالثاً: المواقف الفردية التي تدل على حصول قتال أو أعمال مادية والتي حصلت في مكة:
الدليل الأول: جاء في السيرة في قصة إسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه دون ذكر القصة كاملة: «فأخذ عمر سيفه فتوشحه، ثم عمد إلى رسول الله ﷺ وأصحابه، فضرب عليهم الباب؛ فلما سمعوا صوته، قام رجل من أصحاب رسول الله ﷺ، فنظر من خَلل الباب فرآه متوشحاً السيف، فرجع إلى رسول الله ﷺ وهو فزع، فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحاً السيف؛ فقال حمزة بن عبد المطلب: فأذنْ له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه؛ فقال رسول الله ﷺ: ائذن له، فأذن له الرجل، ونهض إليه رسول الله ﷺ حتى لقيه في الحجرة، فأخذ حُجْزته، أو بمجمع ردائه، ثم جَبَذه به جبذة شديدة،... إلى أن قال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله وبرسوله، وبما جاء من عند الله؛ قال: فكبر رسول الله ﷺ تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله ﷺ أن عمر قد أسلم».
الدليل الثاني: قال ابن إسحاق: «وكان أصحاب رسول الله ﷺ إذا صلوا، ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص في نفر من أصحاب رسول اللهﷺ في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليهم نفر من المشركين وهم يصلون، فناكروهم، وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم، فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بِلَحْي بعير، فشجه، فكان أول دم هُريق في الإسلام».
الدليل الثالث: أورد ابن الجوزي ـ بسنده ـ عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «كان الرجل إذا أسلم تعلق به الرجال فيضربونه،ويضربهم».
الدليل الرابع: أخرج البزار فيما رواه محمّد بن عقيل عن علي رضي الله عنه أنه خطبهم فقال: يا أيها النّاس: من أشجع النّاس؟ فقالوا: أنت يا أمير المؤمنين! فقال أما إني ما بارزني أحد إلاّ انتصفت منه، ولكن هو أبو بكر رضي الله عنه؛ إنا جعلنا لرسول الله ﷺ عريشاً ـ يعني في غزوة بدر الكبرى ـ فقلنا: من يكون مع رسول الله ﷺ لئلا يهوي إليه أحد من المشركين؟ فوالله! ما دنا منا أحد إلاّ أبو بكر رضي الله عنه شاهراً بالسيف على رأس رسول الله ﷺ لا يهوي إليه أحد إلاّ أهوى إليه؛ فهذا أشجع النّاس. قال: ولقد رأيت رسول الله ﷺ وأخذته قريش فهذا يحادُّه وهذا يتلتله ويقولون: أنت جعلت الآلهة إلهاً واحداً، فوالله! ما دنا منا أحد إلاّ أبو بكر يضرب هذا ويجاهد هذا ويتلتل هذا وهو يقول: ويلكم! أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ ثمّ رفع عليّ رضي الله عنه بردة كانت عليه فبكى حتى اخضلَّت لِحيته ثمّ قال: أنشدكم الله! أمؤمن آل فرعون خيرٌ أم هو؟ فسكت القوم. فقال علي رضي الله عنه: فوالله! لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون، ذاك رجل يكتم إيمانه وهذا رجل أعلن إيمانه».
الدليل الخامس: قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُور﴾ الشورى.
قال القرطبي: قوله تعالى: ﴿والذين إذا أصابهم البغي﴾ أي أصابهم بغي المشركين. قال ابن عباس: وذلك أن المشركين بغوا على رسول الله ﷺ وعلى أصحابه وآذوهم وأخرجوهم من مكة فأذن الله لهم بالخروج ومكن لهم في الأرض ونصرهم على من بغى عليهم؛ وذلك قوله في سورة الحج: ﴿أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أُخرجوا...﴾الآية.
وقال الطبري: قوله تعالى: ﴿والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون﴾ يدل ظاهره على أن الانتصار في هذا الموضع أفضل؛ ألا ترى أنه قرنه إلى ذكر الاستجابة لله سبحانه وتعالى وإقام الصلاة؛ وهو محمول على ما ذكر إبراهيم النخعي أنهم كانوا يكرهون للمؤمنين أن يذلوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق؛ فهذا في من تعدى وأصر على ذلك. والموضع المأمور فيه بالعفو إذا كان الجاني نادماً مقلعاُ. وقد قال عقيب هذه الآية: ﴿ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل﴾. ويقتضي ذلك إباحة الانتصار لا الأمر به، وقد عقبه بقوله: ﴿ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور﴾. وهو محمول على الغفران عن غير المصر، فأما المصر على البغي والظلم فالأفضل الانتصار منه بدلالة الآية التي قبلها. وقيل: أي إذا أصابهم البغي تناصروا عليه حتى يزيلوه عنهم ويدفعوه.
وقال القرطبي: قوله تعالى: ﴿ولمن صبر وغفر﴾ أي صبر على الأذى ﴿وغفر﴾ أي ترك الانتصار لوجه الله تعالى؛ وهذا فيمن ظلمه مسلم. ويحكى أن رجلاً سب رجلاً في مجلس الحسن رحمه الله فكان المسبوب يكظم ويعرق فيمسح العرق، ثم قام فتلا هذه الآية؛ فقال الحسن: عقلها والله! وفهمها إذ ضيعها الجاهلون. وبالجملة العفو مندوب إليه، ثم قد ينعكس الأمر في بعض الأحوال فيرجع ترك العفو مندوباً إليه كما تقدم؛ وذلك إذا احتيج إلى كف زيادة البغي وقطع مادة الأذى.
الدليل السادس: قال ابن جرير: «حدثني به المثنى، قال: ثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذٍ قليل، وليس لهم سلطان يقهر المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين من يجازي منهم أن يجازي بمثل ما أوتي إليه أو يصبر أو يعفو فهو أمثل فلما هاجر رسول الله إلى المدينة، وأعز الله سلطانه أمر المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سلطانهم، وأن لا يعدو بعضهم على بعض كأهل الجاهلية» والآية التي ذكرها من البقرة وهي مدنية، ولكن يبدو أنه يريد الحكم الشرعي الذي ورد في الآيات السابقة من سورة الشورى وهي مكية.
[الدليل السابع: ورد في مسند علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «حَدَّثَنَا أَسْبَاطُ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَكِيمٍ الْمَدَائِنِيُّ عَنْ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: انْطَلَقْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّ ﷺ حَتَّى أَتَيْنَا الْكَعْبَةَ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: اجْلِسْ، وَصَعِدَ عَلَى مَنْكِبَيَّ فَذَهَبْتُ لِأَنْهَضَ بِهِ فَرَأَى مِنِّي ضَعْفًا فَنَزَلَ، وَجَلَسَ لِي نَبِيُّ اللَّهِ ﷺ وَقَالَ: اصْعَدْ عَلَى مَنْكِبَيَّ، قَالَ: فَصَعِدْتُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، قَالَ: فَنَهَضَ بِي، قَالَ: فَإِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي لَوْ شِئْتُ لَنِلْتُ أُفُقَ السَّمَاءِ حَتَّى صَعِدْتُ عَلَى الْبَيْتِ وَعَلَيْهِ تِمْثَالُ صُفْرٍ أَوْ نُحَاسٍ فَجَعَلْتُ أُزَاوِلُهُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ حَتَّى إِذَا اسْتَمْكَنْتُ مِنْهُ قَال: لي: رَسُولُ اللَّهِ ﷺ اقْذِفْ بِهِ فَقَذَفْتُ بِهِ فَتَكَسَّرَ كَمَا تَتَكَسَّرُ الْقَوَارِيرُ ثُمَّ نَزَلْتُ، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ ﷺ نَسْتَبِقُ حَتَّى تَوَارَيْنَا بِالْبُيُوتِ خَشْيَةَ أَنْ يَلْقَانَا أَحَدٌ مِنْ النَّاسِ».[6] ففي هذا الحديث ما يشير إلى استخدام الرسول عليه الصلاة والسلام القوة المادية لإزالة المنكر في الفترة المكية؛ وهو الصنم الذي كان موضوعاً فوق الكعبة المشرفة. ولا شك أن هذه الحوادث هي من قبيل الاستخدام الفردي للقوة، وهو مباح، ولكن الحظر على استخدام القوة والأساليب المادية من قبل الجماعة والكتلة، فما فعله الرسول ﷺ وعلي بن أبي طالب كان من هذا القبيل[7]، وذلك لأن الجمع بين دليل الحظر وهذا الدليل يقتضي أن الحظر عن استعمال الأعمال المادية خاص بالكتلة، وأن الإباحة هي للأفراد، "والحديث صحيح، ولكنه لا يدل على جواز الأعمال المادية لأن الرسولﷺ فعله سراً هو وعلي، فهو عمل فردي، وليس محل قدوة ولا طلب، لأن الرسول ﷺ يقوم بأعماله جهرة أما هذا العمل فقام به سراً، ولذلك لا يدل على جواز الأعمال المادية من المسلمين"[8].]
فهذه الأدلة تبين حالاتٍ قام بها الأفراد برد الاعتداء بالعمل المادي، كما تبين وجود الإذن برد الاعتداء، وبالنظر إلى الأدلة التي نهى فيها الرسول ﷺ عن القتال وطلب من صحابته كف الأيدي، وأمرهم بالصبر والعفو، نجد أن هذه الأدلة تعلقت بعمل الكتلة، فيما يكون فيه المبادأة بالقتال أو الاعتداء أو الأعمال المادية عموماً، بالشكل الذي تتحقق فيه المبادأة كالاستعداد وتشكيل الفرق وتدريب الأفراد وما يسمى اليوم بالميليشيات، ولم تتعارض هذه الأدلة مع الأدلة التي ذكرناها عن الأعمال الفردية،فللأفراد أن يردوا الاعتداء ويدفعوه عنهم، كما فعل أبو بكر وسعد وعمر وأبو ذر وغيرهم من الصحابة، ولهم أن يعفوا ويصبروا وهو أفضل.
[1] بينما جهاد الدفع غير مرتبط بالخليفة، فهو فرض سواء وجد الخليفة أم لم يوجد
[2]قال الرازي في تفسيره للآية 39 من سورة الحج: ﴿أَذِنَ﴾ بنصب ألف و﴿يُقاتِلون﴾ بكسر التاء. قال الفراء والزجاج يعني أذن الله للذين يحرصون على قتال المشركين في المستقبل، ومن قرأ بفتح التاء ﴿يُقاتَلون﴾ فالتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال. المسألة الثانية في الآية محذوف والتقدير أذن للذين يقاتلون في القتال فحذف المأذون فيه لدلالة يقاتلون عليه. أما قوله ﴿بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ﴾ فالمراد أنهم أذنوا في القتال بسبب كونهم مظلومين وهم أصحاب رسول الله ﷺ كان مشركوا مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله ﷺ من بين مضروب ومشجوج يتظلمون إليه فيقول لهم «اصبروا فإني لم أومر بقتال» حتى هاجر فأنزل الله تعالى هذه الآية وهي أول آية أذن فيها بالقتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين آية. انتهى قول الرازي.
قال أبو بكر: فعرفت أنه سيكون قتال،... قال ابن زيد، فـي قوله: ﴿أُذِنَ للَّذِينَ يُقاتَلُونَ بأنَّهُمْ ظُلِـمُوا﴾ قال: أذن لهم فـي قتالهم بعد ما عفـا عنهم عشر سنـين.... قال ابن جُرَيج: يقول: أوّل قتال أذن الله به للـمؤمنـين.... قال قَتادة: وهي أوّل آية نزلت فـي القتال، فأذن لهم أن يقاتلوا.(المرجع: تفسير الطبري.)
وفي قوله ﷺ لم أؤمر بقتال بدلالة الإشارة وبدلالة فحوى الخطاب، دليل على أن القصد من الشكوى الإذن بالقتال، أو أن الرد الطبيعي كان ليكون بالقتال فهمه رسول الله ﷺ منهم وأعلمهم أنه لم يؤمر بالقتال ردا على تلك الاعتداءات من الكفار.
[3]أما عن القدرة على القتال، فعصبة الرسول ﷺ بنو هاشم يشكلون نسبة كبيرة من المجتمع المكي، كما أن بنو تيم دافعت عن ابنها أبي بكر رضي الله عنه، لما ضربه الكفار وهو يدافع عن رسول الله ﷺ في الحادثة المشهورة، وأنذرت قريشا بأنه إذا جرى أمر مكروه لأبي بكر فستتنقم له من قريش. ومن جهة أخرى،
فاستنصار الرسول ﷺ للمسلمين كان كفيلا بأن ينزل نصر الله، لذلك سأله الخباب أن يستنصر لهم، فكان بالإمكان أن يستنصر الله تعالى وتقوم معه عصبته فينتصر! لكنه لم يفعل!
[4]يقول الأستاذ محمد قطب رحمه الله في كتاب: كيف ندعو الناس: لقد كانت ﴿كفوا أيديكم﴾ هي سر الموقف كله! كانت هي التي أتاحت لقضية لا إله إلا الله – وهي قضية الرسل جميعاً من لدن آدم عليه الصلاة والسلام إلى محمد ﷺ - أن تبرز نقية شفافة واضحة، غير مختلطة بأي قضية أخرى على الإطلاق، فتنفذ إلى القلوب التى أراد الله لها الهداية صافية من كل غبش، فتتمكن من تلك القلوب، ويرسخ فيها الإيمان، كما تنفذ إلى القلوب التى لم يرد الله لها الهداية، صافية من كل غبش، فيكفر أصحابها كفراً لا شبهة فيه، كفراً غير مختلط لا بالدفاع عن النفس، ولا الدفاع عن المال، ولا الدفاع عن الأمن والاستقرار؛ إنما هو الرفض الصريح الواضح للا إله إلا الله، وذلك توطئة لقدر قادم من أقدار الله، هو سنة من السنن الجارية: ﴿ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة﴾ (الأنفال: 42).
هذا الوضوح الذي أتاحته للقضية ﴿كفوا أيديكم﴾، هو من مستلزمات الدعوة.. فبغير استبانة سبيل المجرمين، على أساس ((لا إله إلا الله))، واستبانة سبيل المؤمنين فى المقابل، على ذات الأساس، لا يمكن أن تتسع القاعدة بالقدر المعقول فى الزمن المعقول، وتظل الدعوة تراوح مكانها، إن لم يحدث لها انتكاس بسبب من الأسباب، وحين وضحت القضية على هذا النحو من خلال ﴿كفوا أيديكم﴾، جاء الأنصار! وحين جاء الأنصار اتسعت القاعدة، وحدث تحول في التاريخ!
[5]قد يقال جدلا: كان بإمكان صناديد المسلمين القتال ولو بصورة حرب ميليشيات أو كما فعل أبو بصير فيما بعد، يقطعون الطريق على الحجيج فيؤذون الكفار في مكة، أو أي أمر مشابه قد يخطط له، ومع ذلك لما استأذنوا رسول الله ﷺ أن يقوموا بشيء من قتال نهاهم!
[6]أخرجه أحمد (1/84) وابنه عبد الله في زوائده (المسند 1/151) والحاكم (2/366، 3/5) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (6/23) وقال: ((رواه أحمد وابنه وأبو يعلى والبزار. ورجال الجميع ثقات)) وصححه الشيخ أحمد شاكر في شرحه على المسند (2/57) وقال ((ومن الواضح أن هذه القصة كانت قبل الهجرة)) وصححه الحاكم (2/366)
[7]الباحث عن الخلافة، زياد أحمد سلامة.
[8]مجموعة النشرات التكتلية، 6 من صفر 1389هـ ــ 23/4/ 1969م.
وسائط
3 تعليقات
-
بارك الله فيكم ونفع بكم الامة
-
بارك الله فيكم
-
بارك الله فيكم