- الموافق
- كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم
مناقب ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
(ح17) عمر رضي الله عنه يؤدب نفسه علانية
الحَمْدُ للهِ مُنْزِلِ الكِتَابْ، وَمُجْرِي السَّحَابْ، وَهَازِمِ الأَحْزَابِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا محمد، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أُولِي الأَلْبَابْ، وَعَلَى وَزِيرَيهِ: أَبِي بَكْرِ الصِّدِّيقْ، مَنْ لِدَعْوَةِ الحَقِّ استَجَابْ، وَالفَارُوقِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابْ، الحَاكِمِ بِالعَدْلِ، وَالنَّاطِقِ بِالصَّوَابْ، ارزُقنَا الَّلهُمَّ خَلِيفَةً مِثْلَهُ، يَخَافُكَ وَيَتَّقِيكَ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَتَرْضَى عَنْهُ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابْ، وَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحْشُرْنَا فِي زُمرَتِهِمْ، بِرَحْمَتِكَ يَا كَرِيمُ يَا وَهَابْ... آمِينَ.
أيها المؤمنون:
أحبتنا الكرام :
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"مَنَاقِبُ ثَانِي الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ t ". وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "عُمَرُ t يُؤَدِّبُ نَفْسَهُ عَلَانِيَةً". نَقُولُ وَبِاللهِ التَّوفِيقُ:
لَقَدْ حَثَّ الإِسْلَامُ عَلَى تَزكِيَةِ النَّفْسِ، وَمُحَاسَبَتِهَا، وَنَهْيِهَا عَنْ هواها. قال تعال: ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ ﴿٤٠﴾ فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ ﴿٤١﴾) (النازعات). وقال تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ﴿٧﴾ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴿٨﴾ قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ﴿٩﴾ وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ﴿١٠﴾.) (الشمس)
وَقَالَ ابنُ الخَطَّابِ t فِيمَا أُثِرَ عَنْهُ: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَعْمَالَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ عَلَيكُمْ، فَاليَومَ عَمَلٌ وَلَا حِسَابٌ، وَغَدًا حِسَابٌ وَلَا عَمَل. قَالَ اللهُ تَعَالَى: (فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ﴿٦﴾ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴿٧﴾ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ﴿٨﴾ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ﴿٩﴾ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ﴿١٠﴾ نَارٌ حَامِيَةٌ ﴿١١﴾) ( القارعة ) . وَقَالَ الإِمَامٌ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ-:
صُنِ النَّفْسَ وَاحْمِلْهَا عَلَى مَا يَزِينُهَا ... تَعِـشْ سَالـِمـــًا، وَالقَـــــولُ فِيكَ جَمِيلُ
وَقَالَ الإِمَامُ البُوصِيرِي - رحمه الله - فِي قَصِيدَةِ البُردَةِ:
وَخَالِفِ النَّفْسَّ وَالشَّيطَانَ وَاعْصِهِمَا ... وَإِنْ هُمــــــا مَحَّضَـــــاكَ النُّصْــــــــحَ فَاتَّهِــــــــــــمِ
ومِنْ رَوَائِعِ أَمِيرِ المؤْمِنِينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ t فِي هَذَا البَابِ: أَنَّهُ صَعَدَ الـمِنْبَرَ ذَاتَ يَومٍ، وَقَالَ: الصَّلَاةَ جَامِعَةْ، فَتَجَمَّعَ النَّاسَ. فَقَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُنْتُ صَغِيرًا أَرْعَى الغَنَمَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَرْعَى لِخَالَاتِي بِمَكَّةَ الغَنَمَ، فَكُنُتُ آخُذُ الغَنَمَ فَأَسْقِيْهَا، وَأَحْلِبُهَا، وَأُنَظِّفُ مِنْ تَحتِهَا، وَيُعطُونَنِي أَجْرِي عَلَى حِفْنَةٍ مِنَ التَّمْرِ يَضَعُونَهَا بَينَ يَدَيَّ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ أَنِّي كُنْتُ أَفْعَلُ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا".
ثُمَّ نَزَلَ t مِنْ عَلَى الـمِنْبَرِ. فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بنُ أَبِي طَالِبٍ t : يَا أَمَيرَ المؤْمِنِينَ، وَاللهِ مَا أَرَاكَ إِلَّا أَهَنْتَ نَفْسَكَ. قَالَ عُمَرُ t : ذَلِكَ مَا أَرَدْتُ، حَدَّثَتْنِي نَفْسِي أَنِّي أَمِيرُ المؤْمِنِينَ؛ فَأَرَدْتُ أَنْ أَضَعَهَا: أي أَخْفِضَهَا، وَأُنْزِلَ مِنْ قِيمَتِهَا، وَذَلِكَ كَي أُؤَدِّبَهَا، وَأُعَرِّفَهَا قَدْرَهَا.
وَوَقَفَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ t، ذَاتَ مَرَّةٍ عَلَى الـمِنْبَرِ وَقَالَ: "يَا مَعْشَرَ المسْلِمِينَ، مَاذَا تَقُولُونَ لَوْ مِلْتُ بِرَأْسِي إِلَى الدُّنْيَا كَذَا؟؟- وَمَيَّلَ رَأْسَهُ-". فَقَامَ إِلَيهِ رَجُلٌ فَقَالَ: أَجَلْ، كُنَّا نَقُولُ بِالسَّيفِ كَذَا -وَأَشَارَ إِلَى القَطْعِ -. فَقَالَ عُمَرُ: إِيَّايَ تَعْنِي بِقَولِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِيَّاكَ أَعْنِي بِقَولِي. فَقَالَ عُمَر بنُ الخَطَّابِ t : رَحِمَكَ اللهُ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَ فِي رَعِيَّتِي مَنْ إِذَا اعْوَجَجْتُ قَوَّمَنِي!
مَا أَجْمَل قِصَّةَ سِيِّدِنَا عُمَرَ تِلْكَ!! هَذَا الموْقِفُ المشَرِّفُ يَدُلُّ عَلَى وَعْيٍ كَبِيرٍعَلَى أَفكَارِ وَمَفَاهِيمِ وَأَحْكَامِ الإِسْلَامِ مِنْ قِبَلِ خَلِيفَةِ المسْلِمِينَ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، وَوَعْيٍ كَبِيرٍ مِنَ المسْلِمِينَ آنَذَاكَ عَلَى دَورِ الرَّاعِي، وَخُطُورَةِ مَسؤُولِيَّتِهِ، وَدَورِ الرَّعِيَّةِ تُجَاهَهُ، وَتُجَاهَ وَاجِبِ مُحَاسَبَتِهِ، وَأَطْرِهِ عَلَى الحَقِّ أَطْرًا، فَالمسْلِمُونَ قَامُوا تُجَاهَهُ بِأُمُورٍ مَا أَحْوَجَنَا إِلَى تَدَبُّرِهَا فِي زَمَانِنَا هَذَا:
- لَمْ يُمهِلُوهُ t ، لَم يَقُلْ أَحَدُهُمْ: انتَظِرُوهُ بِضْعَ سِنِينَ؛ لَعَلَّ اعْوِجَاجَهُ يَسْتَقِيمُ.
- لَمْ يَسْمَحُوا بِانْحِرَافِهِ t عَنْ أَحْكَامِ الإِسلَامِ قَيدَ أُنْمُلَةٍ كَونَهُ ذَا قَدْرٍ كَبِيرٍ، وَإِيمَانٍ عَرِيضٍ.
- لَمْ يَقُلْ أَحَدُهُمْ: لَا تَنْسَأَنَّهُ t سَاهَمَ بِجَمْعِ القُرآنِ، وَقَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَهُوَ الفَارُوقُ، فَلَا بَأْسَ إِنِ اعْوَجَّ قَلِيلًا.
- لَمْ يُبَرِّرُوا اعْوِجَاجَهُ t ؛ فَلَمْ يَقُلْ أَحَدُهُمْ: لَعَلَّهُ تَكْتِيكٌ مِنهُ؛ لِتَأْمِينِ مَصَالِحَ لِلمُسْلِمِينَ عَنْ طَرِيقِ إِرْضَاءِ الكُفَّارِ، أَوْ مُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ!! وَلَعَلَّ مَيْلَهُ إِلَى الدُّنيَا مِمَّا يَحِقُّ لَهُ تَحْتَ حُكْمِ الضَّرُورَةِ ...
- وَقَدْ رَأَيْتُمْ فَرَحَ عُمَرَ t بِوُجُودِ أُنَاسٍ فِي رَعِيَّتِهِ يَتَوَعَّدُونَهُ بِالتَّحَرُّكِ لِخَلْعِهِ، إِنْ هُوَ خَالَفَ حُكْمَ اللهِ، فَحَمِدَ اللهَ، وَأَثْنَى عَلَيهِ أَنْ جَعَلَ فِي المسْلِمِينَ مَنْ يُقَوِّمُ اعْوِجَاجَهُ بِسَيفِهِ!!
فَأَينَ حُكَّامُ المسْلِمِينَ اليَومَ عَنْ مِثْلِ هَذَا السُّلُوكِ القَوِيمِ، وَهَذَا التَّصَرُّفِ الحَكِيمِ فِي مُحَاسَبَةِ النَّفْسِ، وَتَزكِيَتِهَا، وَحَمْلِهَا عَلَى مَا يَزِينُهَا؟؟ وَأَينَ المسْلِمُونَ، وَعُلَمَاؤُهُمُ اليَومَ مِنَ المسْلِمِينَ الأَوَائِلِ وَعُلَمَائِهِمُ الَّذِينَ كَانُوا حُرَّاسًا أُمَنَاءَ عَلَى كُلِّ ثَغْرَةٍ مِنْ ثُغَرِ الإِسْلَامِ؟؟
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.
كتبها لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
الأستاذ: محمد أحمد النادي