- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
الميزان
ميزان الفكر والنفس والسلوك
الحلقة الثانية
يقول الحق جل وعلا: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ {14} قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، فالله سبحانه وتعالى أخبر أن الإنسان زُيِّنَ له حب الشهوات، وذكر منها النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والزرع، وأخبر أن كل ذلك إنما هو متاعٌ قليل زائل من متاع الحياة الدنيا، وأن حسن المآب والمرجع إنما هو عند الله تعالى، حيث هناك الجنات التي فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين، وهم فيها خالدون، وفيها الأزواج المطهرة من كل عيب، وفوق ذلك كله الرضوان من الله سبحانه، وهو سبحانه بصير بالعباد مطلع على أعمالهم.
ويقول سبحانه وتعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) فإن الفطرة السليمة التي فطر اللهُ الناسَ عليها هي الدينونة لله سبحانه، الذي هو الدين الحق، وأنه لا تبديل لخلق الله، فالإنسان هو الإنسان منذ الإنسان الأول آدمَ عليه السلام، وحتى آخر بشر تقوم عليه الساعة يوم القيامة، مفطور على إقامة وجهه للدين الذي ارتضاه الله سبحانه، حنيفاً مائلاً عن الباطل إلى الحق، وهذا هو المقياس الصحيح والميزان الحق، وختم الله سبحانه قوله ذاك بقوله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، وسنرى بعد قليل موقع العقل في الحكم على الأشياء في بحث الجهة الثانية من جهات الحكم عند الإنسان المجرد من نظام الله تعالى.
فغرائز الإنسان، وحاجاته العضوية ما هي إلا مجرد دوافع للسلوك والإشباع، وليس فيها مقياس للإشباع الصحيح، ولا فيها توجيه لسلوك دون غيره، وإنما تدفع الإنسان ليبحث عن المشبع الصحيح، والميل المصاحب للدافع، أو أن الدافع قد يكون مجرد ميل نحو شيء معين، فإن اتبع الإنسان هذا الميل دون محاكمة عقلية مستندة إلى مرجعية صحيحة كان قد اتبع هواه.
والهوى أو الميل متقلب لا يستقر على شيء، بل إنه يدفع صاحبه إن سار بحسبه فقط إلى التخبط في مستنقعات الشهوات، ويعيش حياة الشقاء في الدنيا، ويكون مصيره النار في الآخرة، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حفّت النار بالشهوات)، ويقول الحق سبحانه وتعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال: كذلك أتتك أياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى، وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى).
أما العقل فإن حكمه على الأشياء مقيّد بآليات عمله، وبمعرفة أركان عملية التفكير: الواقع، الحس، الدماغ الصالح للربط، المعلومات السابقة، ندرك أنه مقيّد في أحكامه بقدر قوة هذه الأركان أو ضعفها، فإن ازدادت معلوماته السابقة المتعلقة بالواقع المبحوث قوي حكمه عليه، ولكنه لن يصل إلى حد الإطلاق لمحدودية معلوماته السابقة مهما بلغت، ولن يصل فيها إلى حد الإحاطة المطلقة. وإن تكرّر الإحساس مرتبطاً بالفكر تكوّن لديه الإحساس الفكري، لكنه لن يصل إلى الإحساس المطلق، وإن استخدم في حياته كل أنواع الربط وكررّها فإنه يصل إلى مستوى عال من قوة الربط وسرعته، ولكنه سيبقى محدوداً، وإن اطلع على وقائع كثيرة ارتفع لديه مستوى الإحاطة، ولكنه لا يمكن أن يصل إلى الإحاطة المطلقة، لعدم قدرته على الإحاطة بالوقائع السابقة على وجوده ولا التالية لوجوده.
وتبعاً لمحدودية عناصر عملية التفكير عند الإنسان فإن الحكم الناتج عنها يكون عرضةً للاختلاف والتفاوت والتناقض إضافة إلى التأثر بالبيئة.
كتبها للإذاعة وأعدها: خليفة محمد- الأردن