- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح88) الحُكمُ الشَّرعِيُّ
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّامِنَةِ وَالثَّمَانِينَ, وَعُنوَانُهَا: "الحُكمُ الشَّرعِيُّ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ السَّادِسَةِ وَالسَّبعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ وَالمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ.
يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ: "الحُكمُ الشَّرعِيُّ: هُوَ خِطَابُ الشَارِعِ المُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ العِبَادِ، وهُوَ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ كالقُرْآنِ الكَرِيمِ والحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ، أَوْ ظَنِّيَّ الثُبُوتِ كالحَدِيثِ غَيْرِ المُتَوَاتِرِ: فإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ يُنْظَرُ، فإِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الدّلالَةِ يَكُونُ الحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَطْعِيَّاً كَرَكَعَاتِ الفَرَائِضِ كُلِّهَا، فإِنَّهَا وَرَدَتْ في الحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ، وكَتَحْرِيمِ الرِبَا وقَطْعِ يَدِ السَارِقِ وجَلْدِ الزَانِي، فإِنَّهَا أَحْكَامٌ قَطْعِيَّةٌ، والصَوَابُ فِيهَا مُتَعَيِّنٌ، ولَيْسَ فِيهَا إِلاَّ رَأْيٌ وَاحِدٌ قَطْعِيٌّ.
وإِنْ كَانَ خِطَابُ الشَارِعِ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ ظَنِّيَّ الدّلالَةِ فإِنَّ الحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ظَنِّيٌّ مِثْلَ آيَةِ الجِزْيَةِ، فإِنَّهَا قَطْعِيَّةُ الثُبُوتِ، ولَكِنَّهَا ظَنِّيَّةُ الدّلالَةِ في التَفْصِيلِ، فالحَنَفِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تُسَمَّى جِزْيَةً، وأَنْ يَظْهَرَ الذُّلُّ عَلَى مُعْطِيهَا حِينَ إِعْطَائِهَا. والشَافِعِيَّةُ لا يَشْتَرِطُونَ تَسْمِيَتَهَا جِزْيَةً، بَلْ يَصِحُّ أَنْ تُؤْخَذَ بِاسْمِ زَكَاةٍ مُضَاعَفَةٍ، ولا ضَرُورَةَ لإِظْهَارِ الذُلِّ، بَلْ يَكْفِي الخُضُوعُ لأَحْكَامِ الإِسْلامِ.
أمَّا إِنْ كَانَ خِطَابُ الشَارِعِ ظَنِّيَّ الثُبُوتِ كالحَدِيثِ غَيْرِ المُتَوَاتِرِ، فيَكُونُ الحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ظَنِّيَّاً، سَوَاءً أَكَانَ قَطْعِيَّ الدّلالَةِ كَصِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ بالسُنَّةِ، أَوْ ظَنِّيَّ الدّلالَةِ كَمَنْعِ إِجارَةِ الأَرْضِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بالسُنَّةِ.
وخِطَابُ الشَارِعِ يُفْهَمُ مِنْهُ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ باجتهاد صَحِيحٍ، ولِذَلِكَ كَانَ اجتهاد المُجْتَهِدِينَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ، وعَلَى ذَلِكَ فَحُكْمُ اللهِ في حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ هُوَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجتهادهُ وغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.
فالمُكَلَّفُ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهاد بِتَمَامِهَا في مَسْأَلَةٍ مِنَ المَسَائِلِ أو في المَسَائِلِ جَمِيعِها فَإِنِ اجتهد فِيهَا وأَدَّاهُ اجتهادهُ إِلَى حُكْمٍ فِيهَا، فَقَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، في خِلافِ ما أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ، وَلاَ يَجُوزُ لَهُ تَرْكُ ظَنِّهِ إِلاَّ في أَرْبَعِ حَالاَتٍ:
الأُولى: إذا ظَهَرَ له أنَّ الدَّليلَ الذي استَنَدَ إليهِ في اجتهادِهِ ضَعيفٌ، وأنَّ دَليلَ مجتَهِدٍ آخَرَ غَيْرِهِ أَقْوى مِنْ دَليلِه. ففي هذه الحالةِ يَجِبُ عليهِ تَرْكُ الحُكْمِ الذي أَدَّاهُ إليه اجتهادُه في الحالِ، وأَخْذُ الحُكْمِ الأَقْوى دَليلاً.
الثانية: إذا ظَهَرَ له أنَّ مجتَهِداً غَيْرَهُ هو أَقْدَرُ منهُ على الرَّبْطِ أو أَكْثَرُ إطِّلاعاً على الواقعِ وأَقْوى فَهْماً للأَدلَّة أو أَكْثَرُ إطِّلاعاً على الأَدلَّة السَّمْعيَّةِ، فإنَّه يَجُوزُ له في هذه الحالةِ أنْ يَتْرُكَ الحُكْمَ الذي أَدَّاهُ إليه اجتهادُه، ويُقَلِّدَ ذلك المجتَهِدَ الذي يَثِقُ بِاجتهادِه أَكْثَرَ مِنْ ثِقَتِهِ بِاجتهادِ نفسِه.
الثالثة: أنْ يَكونَ هناك رأيٌ يُرادُ جَمْعُ كلمةِ المسلمين عليه لِمصلحةِ المسلمين، فإنَّه في هذه الحالةِ يَجُوزُ للمجتَهِدِ تَرْكُ ما أَدَّاهُ إليه اجتهادُه، وأَخْذُ الحُكْمِ الذي يُرادُ جَمْعُ كلمةِ المسلمين عليه، وذلك كما حَصَلَ مع عثمانَ رضي الله عنه عند بيعته.
الرابعة: إذا تَبَنّى الخليفةُ حُكْماً شَرْعِياً يُخالفُ الحُكْمَ الذي أدّاهُ إليه اجتهادُه، ففي هذه الحالةِ يَجِبُ عليه تَرْكُ العملِ بما أدّاهُ إليه اجتهادُه، والعملُ بالحُكْمِ الذي تَبَنّاهُ الإمامُ، لأنَّ إجماعَ الصحابةِ قد انْعَقَدَ على أنَّ «أَمْر الإمامِ يَرْفَعُ الخِلافَ» وأنَّ أّمْرَهُ نافذٌ على جميعِ المسلمين.
أمّا إذا لَمْ يجتَهِدْ مَنْ له أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ فإنَّه يَجُوزُ له تقليدُ غَيْرِهِ مِنَ المجـتهـِدين، لأنَّ إجماعَ الصحابةِ مُنْعَقِدٌ على أنَّه يَجُوزُ لِلمجتَهِدِ أنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مِنَ المجتَهِدِين.
وأ مَّا مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ فَهُوَ المُقَلِّدُ، وهُوَ قِسْمَانِ مُتَّبِعٌ وعَامِّيٌّ: فالمُتَّبِعُ هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُحَصِّلاً لِبَعْضِ العُلُومِ المُعْتَبَرَةِ في الاجتهادِ، فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ المُجْتَهِدَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُ اللهِ في حَقِّ هَذَا المُتَّبِعِ هُوَ قَوْلَ المُجْتَهِدِ الَّذِي اتَّبَعَهُ. وأَمَّا العَامِّيُّ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُحَصِّلاً لِبَعْضِ العُلُومِ المُعْتَبَرَةِ في الاجتهادِ فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ المُجْتَهِدَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ. وهذا ا لعَامِّيُّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ قَوْلِ المُجْتَهِدِينَ والأَخْذُ بالأَحْكَامِ الَّتِي استنبطوهَا، ويَكُونُ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ في حَقِّهِ هُوَ الَّذِي استنبطهُ المُجْتَهِدُ الَّذِي قَلَّدَهُ. وعَلَى ذَلِكَ فالحُكْمُ الشَرْعِيُّ هُوَ الَّذِي استنبطهُ مُجْتَهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ، وهُوَ في حَقِّهِ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ ويَتَّبِعَ غَيْرَهُ مُطْلَقَاً، وكذَلِكَ هُوَ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ.
والمُقَلِّدُ إِذَا قَلَّدَ بَعْضَ المُجْتَهِدِينَ في حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الحَوَادِثِ وعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، فلَيْسَ لَهُ الرُجُوعُ عَنْهُ في ذَلِكَ الحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مُطْلَقَاً. وأَمَّا تَقْلِيدُ غَيْرِ ذَلِكَ المُجْتَهِدِ في حُكْمٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ مِنْ تَسْوِيغِ اسْتِفْتَاءِ المُقَلِّدِ لِكُلِّ عَالِمٍ في مَسْأَلَةٍ. وأَمَّا إِذَا عَيَّنَ المُقَلِّدُ مَذْهَبَاً كَمَذْهَبِ الشَافِعِيِّ مَثَلاً وقَالَ أَنَا عَلَى مَذْهَبِهِ ومُلْتَزِمٌ بِهِ فَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ في ذَلِكَ وهُوَ: إِنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنَ المَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدَهُ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِهَا فلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا مُطْلَقَاً، وما لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِهَا فَلا مَانِعَ مِنَ اتِّباع غَيْرِهِ فِيهَا".
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: بَعدَ أنْ بَيَّنَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ - رَحِمَهُ اللهُ - أنَّ الإِسلامَ عَقِيدَةٌ وَنُظُمٌ, بَدَأ يُؤَسِّسُ لِعِلْمٍ جَدِيدٍ مِنْ عُلُومِ الإِسلامِ الضَّرُورِيَّةِ, وَاللازِمَةِ لَنَا أثنَاءَ السَّيرِ فِي حَملِنَا لِلدَّعوَةِ, يُرَسِّخُهُ فِي عُقُولِنَا شَيئًا فَشَيئًا؛ لِنَكُونَ قَادِرِينَ عَلَى أدَاءِ مُهِمَّتِنَا عَلَى أكمَلِ وَجْهٍ. ذَلِكَ العِلْمُ هُوَ "عِلمُ أُصُولِ الفِقهِ". وَبَدَأَ بِتَعرِيفِ الحُكْمِ الشَّرعِيِّ, وَيُمكِنُ إِجْمَالُ الأفكَارِ الوَارِدَةِ فِي هَذِهِ الفَقْرَةِ بِالنُّقَاطِ الآتِيَةِ:
1. الحُكمُ الشَّرعِيُّ: هُوَ خِطَابُ الشَارِعِ المُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ العِبَادِ.
2. خِطَابُ الشَارِعِ يُفْهَمُ مِنْهُ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ باجتهاد صَحِيحٍ.
3. اجتهاد المُجْتَهِدِينَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُ الحُكْمَ الشَرْعِيَّ.
4. حُكْمُ اللهِ في حَقِّ كُلِّ مُجْتَهِدٍ هُوَ مَا أَدَّى إِلَيْهِ اجتهادهُ وغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ.
5. خِطَابُ الشَارِعِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ كالقُرْآنِ الكَرِيمِ والحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ. وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ظَنِّيَّ الثُبُوتِ كالحَدِيثِ غَيْرِ المُتَوَاتِرِ.
6. إِنْ كَانَ خِطَابُ الشَارِعِ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ يُنْظَرُ:
أولاً: إِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ, قَطْعِيَّ الدّلالَةِ يَكُونُ الحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَطْعِيًّا كَرَكَعَاتِ الفَرَائِضِ كُلِّهَا، فإِنَّهَا وَرَدَتْ في الحَدِيثِ المُتَوَاتِرِ، والصَوَابُ فِيهَا مُتَعَيِّنٌ، ولَيْسَ فِيهَا إِلاَّ رَأْيٌ وَاحِدٌ قَطْعِيٌّ.
ثانيًا: إِنْ كَانَ قَطْعِيَّ الثُبُوتِ, ظَنِّيَّ الدّلالَةِ فإِنَّ الحُكْمَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ظَنِّيٌّ مِثْلَ آيَةِ الجِزْيَةِ، فإِنَّهَا قَطْعِيَّةُ الثُبُوتِ، ولَكِنَّهَا ظَنِّيَّةُ الدّلالَةِ في التَفْصِيلِ, وَتَوضِيحُ ذَلِكَ كَالآتِي:
1) الحَنَفِيَّةُ يَشْتَرِطُونَ أَنْ تُسَمَّى جِزْيَةً، وأَنْ يَظْهَرَ الذُّلُّ عَلَى مُعْطِيهَا حِينَ إِعْطَائِهَا.
2) الشَافِعِيَّةُ لا يَشْتَرِطُونَ تَسْمِيَتَهَا جِزْيَةً، بَلْ يَصِحُّ أَنْ تُؤْخَذَ بِاسْمِ زَكَاةٍ مُضَاعَفَةٍ، ولا ضَرُورَةَ لإِظْهَارِ الذُلِّ، بَلْ يَكْفِي الخُضُوعُ لأَحْكَامِ الإِسْلامِ.
7. إِنْ كَانَ خِطَابُ الشَارِعِ ظَنِّيَّ الثُبُوتِ كالحَدِيثِ غَيْرِ المُتَوَاتِرِ، فيَكُونُ الحُكْمُ الَّذِي تَضَمَّنَهُ ظَنِّيًّا, وَهُوَ نَوعَانِ اثنَانِ أيضًا:
أولا: ظَنِّيَّ الثُبُوتِ, قَطْعِيَّ الدّلالَةِ: كَصِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّهَا ثَبَتَتْ بالسُنَّةِ.
ثانيا: ظَنِّيَّ الثُبُوتِ, ظَنِّيَّ الدّلالَةِ: كَمَنْعِ إِجارَةِ الأَرْضِ فَإِنَّهُ ثَبَتَ بالسُنَّةِ.
8. بَيَّنَ لَنَا الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ بَعضَ الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالاجتِهَادِ نَذكُرُ مِنهَا:
1) المُكَلَّفُ إِذَا حَصَلَتْ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهاد بِتَمَامِهَا، فَقَدْ اتَّفَقَ الكُلُّ عَلَى أَنَّهُ لا يَجُوزُ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ مِنَ المُجْتَهِدِينَ، في خِلافِ ما أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ.
2) إذا لَمْ يجتَهِدْ مَنْ له أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ فإنَّه يَجُوزُ له تقليدُ غَيْرِهِ مِنَ المجتهِدين، لأنَّ إجماعَ الصحابةِ مُنْعَقِدٌ على ذَلِكَ.
3) لاَ يَجُوزُ لِلمُجتَهِدِ تَرْكُ ظَنِّهِ إِلاَّ في أَرْبَعِ حَالاَتٍ:
الأُولى: أخذُ الدَّلِيلِ الأقوَى: إذا ظَهَرَ له أنَّ دَليلَ مجتَهِدٍ آخَرَ غَيْرِهِ أَقْوى مِنْ دَليلِه وَجَبَ عليهِ تَرْكُ الحُكْمِ الذي أَدَّاهُ إليه اجتهادُه في الحالِ، وأَخْذُ الحُكْمِ الأَقْوى دَليلاً.
الثَّانِيَة: ثِقَةُ المُجتَهِدِ بِاجتَهَادِ غَيرِه أكثَرَ مِن ثِقَتِهِ بِاجتِهَادِ نَفسِهِ: إذا ظَهَرَ له أنَّ مجتَهِدًا غَيْرَهُ هو أَقْدَرُ منهُ عَلَى الاجتِهَادِ, فإنَّه يَجُوزُ له أنْ يَتْرُكَ الحُكْمَ الذي أَدَّاهُ إليه اجتهادُه، ويُقَلِّدَ ذلك المجتَهِدَ.
الثَّالِثَة: جَمعُ كَلِمَةِ المُسلِمِينَ: يَجُوزُ للمجتَهِدِ تَرْكُ ما أَدَّاهُ إليه اجتهادُه، وأَخْذُ الحُكْمِ الذي يُرادُ جَمْعُ كلمةِ المسلمين عليه.
الرَّابِعَة: العَمَلُ بِمَا تَبَنَّاهُ الخَلِيفَةُ: إذا تَبَنّى الخليفةُ حُكْمًا شَرْعِيًا يُخالفُ الحُكْمَ الذي أدّاهُ إليه اجتهادُ المجتهد، وَجَبَ عليه تَرْكُ العملِ بما أدّاهُ إليه اجتهادُه، والعملُ بالحُكْمِ الذي تَبَنّاهُ الإمامُ.
9. عَرَّفَ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ المُقَلِّدَ فَقَالَ: "مَنْ لَيْسَ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ فَهُوَ المُقَلِّدُ"، وهُوَ قِسْمَانِ مُتَّبِعٌ وعَامِّيٌّ:
1) المُقَلِّدُ المُتَّبِعُ: هُوَ الَّذِي يَكُونُ مُحَصِّلاً لِبَعْضِ العُلُومِ المُعْتَبَرَةِ في الاجتهادِ، فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ المُجْتَهِدَ بَعْدَ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُ اللهِ في حَقِّ هَذَا المُتَّبِعِ هُوَ قَوْلَ المُجْتَهِدِ الَّذِي اتَّبَعَهُ.
2) المُقَلِّدُ العَامِّيُّ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُحَصِّلاً لِبَعْضِ العُلُومِ المُعْتَبَرَةِ في الاجتهادِ فَإِنَّهُ يُقَلِّدُ المُجْتَهِدَ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ دَلِيلَهُ.
10. بَيَّنَ لَنَا الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ بَعضَ الأحكَامِ الشَّرعِيَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِالتَّقلِيدِ نَذكُرُ مِنهَا:
1) ا لعَامِّيُّ يَلْزَمُهُ تَقْلِيدُ قَوْلِ المُجْتَهِدِينَ والأَخْذُ بالأَحْكَامِ الَّتِي استنبطوهَا، ويَكُونُ الحُكْمُ الشَرْعِيُّ في حَقِّهِ هُوَ الَّذِي استنبطهُ المُجْتَهِدُ الَّذِي قَلَّدَهُ.
2) الحُكْمُ الشَرْعِيُّ هُوَ الَّذِي استنبطهُ مُجْتَهِدٌ لَهُ أَهْلِيَّةُ الاجتهادِ، وهُوَ في حَقِّ مَنْ قَلَّدَهُ حُكْمُ اللهِ لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُ.
3) المُقَلِّدُ إِذَا قَلَّدَ بَعْضَ المُجْتَهِدِينَ في حُكْمِ حَادِثَةٍ مِنَ الحَوَادِثِ وعَمِلَ بِقَوْلِهِ فِيهَا، فلَيْسَ لَهُ الرُجُوعُ عَنْهُ في ذَلِكَ الحُكْمِ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مُطْلَقَاً.
4) يَجُوزُ لِلمُقَلِّدِ تَقْلِيدُ غَيْرِ ذَلِكَ المُجْتَهِدِ في حُكْمٍ آخَرَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الصَحَابَةِ مِنْ تَسْوِيغِ اسْتِفْتَاءِ المُقَلِّدِ لِكُلِّ عَالِمٍ في مَسْأَلَةٍ.
5) إِذَا عَيَّنَ المُقَلِّدُ مَذْهَبَاً كَمَذْهَبِ الشَافِعِيِّ مَثَلاً وقَالَ أَنَا عَلَى مَذْهَبِهِ ومُلْتَزِمٌ بِهِ فَهُنَاكَ تَفْصِيلٌ في ذَلِكَ وهُوَ: إِنَّ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مِنَ المَذْهَبِ الَّذِي قَلَّدَهُ اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِهَا فلَيْسَ لَهُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ فِيهَا مُطْلَقَاً، وما لَمْ يَتَّصِلْ عَمَلُهُ بِهَا فَلا مَانِعَ مِنَ اتِّباع غَيْرِهِ فِيهَا.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.