- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح215)
تملك الأرض الموات وغير الموات، منع المزارعة ومنع تأجير الأرض للزراعة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ، وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ، وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ، وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ، والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ، خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ، الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ، وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ، فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ، وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ، وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا: "بُلُوغُ المَرَامِ مِنْ كِتَابِ نِظَامِ الِإسْلَامِ"وَمَعَ الحَلْقَةِ الخَامِسَةَ عَشْرَةَ بَعْدَ المِائَتَينِ، وَعُنوَانُهَا: "تملك الأرض الموات وغير الموات، منع المزارعة ومنع تأجير الأرض للزراعة". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَتين: الثَّالِثَةِ وَالرَّابِعَةِ والعِشْرين بَعْدَ الـمِائَةِ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 134: الأَرْضُ الـمَوَاتُ تُـمْلَكُ بِالإِحْيَاءِ وَالتَّحْجِيرِ، وَأَمَّا غَيرُ الـمَوَاتِ، فَلَا تُـمْلَكُ إِلَّا بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ كَالإِرْثِ وَالشِّرَاءِ وَالإِقْطَاعِ.
المادة 135: يُـمْنَعُ تَأْجيرُ الأَرضِ لِلزِّرَاعَةِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ أَكَانَتْ خرَاجيَّةً أَمْ عُشرِيَّةً، كَمَا تُـمْنَعُ الـمُزَارَعَةُ. أَمَّا الـمُسَاقَاةُ فَجَائِزَةٌ مُطْلَقًا.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: يَا أُمَّةَ الإِيمَانْ، يَا أُمَّةَ القُرآنْ، يَا أُمَّةَ الإِسلَامْ، يَا أُمَّةَ التَّوحِيدْ، يَا مَنْ آمَنتُمْ بِاللهِ رَبًّا، وَبِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم نَبِيًّا وَرَسُولًا، وَبِالقُرآنِ الكَرِيمِ مِنهَاجًا وَدُستُورًا، وَبِالإسلَامِ عَقِيدَةً وَنِظَامًا لِلْحَياَة، أَيُّهَا الـمُسلِمُون فِي كُلِّ مَكَانْ، فَوقَ كُلِّ أَرضٍ، وَتَحتَ كُلِّ سَمَاءْ، يَا خَيرَ أُمَّةٍ أُخرِجَتْ لِلنَّاسِ، أَيُّهَا الـمُؤمِنُونَ الغَيُورُونَ عَلَى دِينِكُمْ وَأُمَّتِكُمْ. أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ، وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيكُمْ حَتَّى تدرُسُوهُ وَأنتمْ تَعْمَلُونَ مَعَنَا لإِقَامَتِهَا، وَهَاتَانِ هُمَا الـمَادَّتَانِ الرَّابِعَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الـمِائَةِ، وَالخَامِسَةُ وَالثَّلَاثُونَ بَعْدَ الـمِائَةِ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
أولًا: المادة 134: دَلِيلُهَا قَولُهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ». (أَخرَجهُ البُخَارِيُّ مَوقُوفًا عَنْ عُمَرَ، وَأخرَجَهُ مَرفُوعًا أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ طَرِيقِ جَابِرَ). وَقَولُهُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ». (أَخرَجَهُ أحمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ بِإِسنَادٍ صَحَّحَهُ ابنُ الجَارُودِ وَالزَّينُ)، وَقَولُهُ r : «عَادِيُّ الأَرْضِ للهِ وَلِرَسُولِهِ، ثُمَّ هِيَ لَكُمْ». (أَخرَجهُ أَبُو عُبَيدٍ بِإِسنَادٍ مُرسَلٍ صَحِيحٍ).
وَذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الخرَاجِ عَنْ سَالِـمِ بْنِ عَبدِ اللهِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ عَلَى الـمِنْبَرِ: «مَنْ أَحْيَا أَرضًا مَيتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيسَ لـِمُحْتَجرٍ حَقٌّ بَعدَ ثَلَاثِ سِنِينَ»، فَإِنَّ نُصُوصَ هَذِهِ الأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الأَرْضَ الـمَيتَةَ إِذَا أَحْيَاهَا شَخْصٌ أَو حَجَرَهَا أَيْ جَعَلَ حَولَـهَا حِجَارَةً أَو سِيَاجًا أَوْ حَائِطًا كَانَتْ مِلْكًا لَهُ، وَمَفْهُومُهَا أَنَّهُ إِذَا لَـمْ تَكُنِ الأَرْضُ مَوَاتًا فَإِنَّهُ لَا يَـمْلِكُهَا بِالإِحْيَاءِ وَالتَّحْجيرِ، وَلَو كَانَتْ غَيرَ مَزْرُوعَةٍ، أَوْ غَيرَ صَالِحَةٍ لِلزَّرْعِ إِلَّا بَعْدَ عَمَلٍ فِيهَا، وَلَوْ لَـمْ يَكُنْ لَـهَا صَاحِبٌ مَعْرُوفٌ. فَإِنَّ الأَرْضَ إِذَا لَـمْ تَكُنْ مَوَاتًا لَا تُـمْلَكُ إِلَّا بِسَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمَلُّكِ إِنْ كَانَ لَـهَا صَاحِبٌ مَعْرُوفٌ، وَإِنْ لَـمْ يَكُنْ لَـهَا صَاحِبٌ مَعْرُوفٌ لَا تُـمْلَكُ إِلَّا بِإِقْطَاعِ الخَلِيفَةِ إِيَّاهَا، فَتُمْلَكُ بِهَذَا الإِقطَاعِ.
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مَوَاتًا فَتُمْلَكُ بِالإِحْيَاءِ أَوْ بِوَضْعِ اليَدِ عَلَيهَا وَلَو كَانَتْ مِنْ غَيرِ إِحْيَاءٍ. وَالأَرْضُ الـمَوَاتُ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي لَـمْ يَظْهَرْ عَلَيهَا أَنَّهُ جَرَى عَلَيهَا مِلْكُ أَحَدٍ، فَلَمْ يَظْهَرْ فِيهَا تَأثِيرُ شَيءٍ مِنْ إِحَاطَةٍ أَو زَرْعٍ أَوْ عَمَارَةٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَلَا مَالِكَ لَـهَا وَلَا يَنتَفِعُ بِـهَا أَحَدٌ. هَذِهِ هِيَ الأَرْضُ الـمَوَاتُ، وَمَا عَدَاهَا لَا يَكُونُ أَرْضًا مَوَاتًا، وَلَو كَانَتْ لَا مَالِكَ لَـهَا وَلَا يَنتَفِعُ بِهَا أَحَدٌ.
ثانيًا: المادة 135: أَدَلَّتُهَا كَثِيرَةٌ وَكُلُّهَا نَصٌّ فِي مَنْعِ إِجَارَةِ الأَرْضِ، فَقَدْ رَوَى رَافِعُ بْنُ خَدِيجٍ قَالَ: «كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ r ، فَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعاً، وَطَوَاعِيَةُ رَسُولِ اللهِ r أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ r: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلا بِرُبُعٍ وَلا بِطَعَامٍ مُسَمًّى». (أخرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ).
وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: «مَا كُنَّا نَرَى بِالْمُزَارَعَةِ بَأْساً حَتَّى سَمِعْنَا رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ r عَنْهَا». (أخرَجَهُ ابنُ قُدَامَةَ فِي الـمُغْنِي، وَرَوَاهُ مُسْلِمُ وَالشَّافِعِيُّ مَعَ اختِلَافٍ يَسِيرٍ). وَقَالَ جَابِرُ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ الْمُخَابَرَةِ». (رَوَاهُ مُسْلِمُ مِنْ طَرِيقِ جَابِرَ)، وَالـمُخَابَرَةُ: الـمُزَارَعَةُ.
وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنْ جَابِرَ قَالَ: كَانُوا يَزْرَعُونَـهَا بِالثُّلُثِ وَالرُّبٌعِ وَالنِّصْفِ فَقَالَ النَّبِيُّ r : «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ».
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ زَيدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ الْمُخَابَرَةِ، قُلْتُ: وَمَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَأْخُذَ الأَرْضَ بِنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ»، وَرَوَى رَافِعُ: «أَنَّ النَّبِيَّ r نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ. وَرَوَى ظَهير بن رافع قال: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ r قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ أَوْ عَلَى الأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ قَالَ: لا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا». (أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمُ)
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٌ الخُدْرِيُّ قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r عَنْ الْمُحَاقَلَةِ». أخرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَمُسْلِمُ، وَالـمُحَاقَلَةُ: استِكْرَاءُ الأَرْضِ بِالحِنْطَةِ، وَفِي صَحِيحِ البُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ r قَالَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ»، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِم مِنْ طَرِيقِ جَابِر: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ r أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ».
وَفِي سُنَنِ النَّسَائِيُّ عَنْ أُسَيدِ بْنِ ظَهِير: «نَهَى رَسُولُ اللهِ r عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا نُكْرِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَبِّ، قَالَ: لا، قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ، فَقَالَ: لا، وَكُنَّا نُكْرِيهَا عَلَى الرَّبِيعِ، قَالَ: لا، ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ»، وَالرَّبِيعُ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ، أَيْ الوَادِي، أَيْ كُنَّا نَكْرِيهَا عَلَى زِرَاعَةِ القِسْمِ الَّذِي عَلَى الرَّبِيعِ أَيْ عَلَى جَانِبِ الـمَاءِ. وَرُوِيَ أَنَّ عَبدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ لَقِيَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: سَمِعْتُ عَمَّيَّ وَكَانَا قَدْ شَهِدَا بَدْرًا يُـحَدِّثَانِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ». (أخرَجَهُ مُسْلِمُ) وَذَكَرَ الحَدِيثَ وَفِيهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ.
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي نَهْيِ الرَّسُولِ r عَنْ تَأْجيرِ الأَرْضِ. وَالنَّهْيُ وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى مُجَرَّدِ طَلَبِ التَّركِ غَيرَ أَنَّ القَرِينَةَ هُنَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الطَّلَبَ لِلجَزْمِ.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَحْرِيمِ الـمُزَارَعَةِ، فَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ r يَقُولُ: «مَنْ لَمْ يَذَرْ الْمُخَابَرَةَ، فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ». (صَحَحَّهُ ابنُ حِبَّانَ وَالحَاكِمُ وَسَكَتَ عَنهُ الـمُنْذِرِيُّ).
وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِكِرَاءِ الأَرْضِ مُطْلَقًا فَقَدْ قَالُوا لِلرَّسُولِ حِينَ نَـهَاهُمْ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، نُكْرِيهَا بِشَيءٍ مِنَ الحَبِّ، قَالَ: لَا، ثُـمَّ قَالُوا لَهُ نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ فَقَالَ: لَا، ثُـمَّ قَالُوا: نُكْرِيهَا عَلَى الرَّبِيعِ فَقَالَ: لَا، ثُـمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَولِهِ: «ازْرَعْهَا أَوِ امْنَحْهَا أَخَاكَ». وَهَذَا وَاضِحٌ فِيهِ الإِصْرَارُ عَلَى النَّهْيِ، وَهُوَ لِلتَّأْكِيدِ.
وَالحَدِيثُ ظَاهِرٌ فِيهِ الجَزْمُ، فَإِنَّ الرَّسُولَr نَـهَاهُمْ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ عَلَى الإِطْلَاقِ، فَأَرَادُوا أَنْ يَسْتَثْنُوا مِنْ هَذَا الإِطْلَاقِ حَالَاتٍ، فَعَرَضُوا أَوَّلَ حَالَةٍ عَلَى الرَّسُولِ؛ لِيُبِيحَهَا لَـهُمْ فَقَالُوا: إِذَنْ نُكْرِيهَا بِشَيءٍ مِنَ الحَبِّ، فَأَجَابَـهُمُ الرَّسُولُ رَافِضًا مَا طَلَبُوا، فَقَالَ: لَا.
ثُـمَّ عَرَضُوا حَالَةً ثَانِيَةً غَيرَ الأُولَى لِيُبِيحَهَا لَـهُمْ، فَقَالُوا: نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ فَأَجَابَـهُمْ رَافِضًا ذَلِكَ أَيضًا فَقَالَ: لَا. ثُـمَّ عَرَضُوا لَهُ حَالَةً ثَالِثَةً غَيرَ الحَالَتَينِ الأُولَيَينِ لِيُبِيحَهَا لَـهُمْ فَقَالُوا: كُنَّا نُكْرِيهَا عَلَى الرَّبِيعِ، فَأَجَابَـهُمْ لِلمَرَّةِ الثَّالِثَةِ رَافِضًا مَا طَلَبُوا فَقَالَ: لَا. ثُـمَّ لَـمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ، بَلْ حَصَرَ كَيفِيَّةَ التَّصَرُّفِ بِالأَرْضِ بِوَاحِدَةٍ مِنَ اثْنَتَينِ فَقَالَ: «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ».
فَهَذَا التِّكْرَارُ فِي الرَّفْضِ مَعَ تَنَوُّعِ الحَالَاتِ يَدُلُّ وَحْدَهُ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلجَزْمِ، ثُـمَّ هَذَا الحَصْرُ وَحْدَهُ أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى الجَزْمِ، إِذْ إِنَّ قَولَهُ: «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ» لِلْحَصْرِ، وَحَرْفُ "أَو" يَأْتِي لِلإِبَاحَةِ إِذَا كَانَ يُمْكِنُ الجَمْعُ بَينَ الاثنَينِ مِثْلُ قَولِنَا: جَالِسِ الكُتَّابَ أَوِ الشُّعَرَاءَ، فَهُوَ هُنَا لِلإِبَاحَةِ وَلَيسَ فِيهِ حَصْرٌ. وَأَمَّا إِذَا كَانَ بَينَ شَيئَينِ لَا يـُمْكِنُ الجَمْعُ بَينَهُمَا فَهُوَ لِلتَّخْيِيرِ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا، وَهُوَ يُفِيدُ الحَصْرَ فِي هَذِهِ الحَالَةِ. وَمَعْنَى "أو" فِي قَولِ الرَّسُولِ r «ازْرَعْهَا أَوِ امْنَحْهَا» هِيَ لِلْحَصْرِ؛ لِأَنَّ الجَمْعُ بَينَ (ازْرَعْهَا أَوِ امْنَحْهَا) غَيرُ مُـمْكِنٍ، فَلَا تُزْرَعُ وَتُـمْنَحُ فِي الوَقْتِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّ "أَو" هِيَ هُنَا لِلتَّخْيِيرِ بَينَ شَيئَينِ: (افْعَلْ هَذَا أَو هَذَا)، أَيِ الحَصْرُ فِي وَاحِدَةٍ مِنهُمَا لَا غَيرَ.
وَعَلَيهِ فَإِنَّ الحَدِيثَ فِي التِّكْرَارِ الَّذِي فِيهِ، وَفِي كَيفِيَّةِ التِّكْرَارِ، وَفِي الحَصْرِ الَّذِي فِيهِ، يَدُلُّ عَلَى الجَزْمِ، فَهُوَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ الوَارِدَ فِي أَحَادِيثِ النَّهْيِ عَنْ إِجَارَةِ الأَرْضِ مُطْلَقًا نَـهْيٌ جَازِمٌ.
وَيُؤَيِّدُ أَنَّ النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ رَافِعٍ وَصَحَّحَهُ الحَاكِمُ قَالَ: «أَنَّهُ زَرَعَ أَرْضًا فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ r وَهُوَ يَسْقِيهَا، فَسَأَلَهُ: لِمَنْ الزَّرْعُ وَلِمَنْ الأَرْضُ؟ فَقَالَ: زَرْعِي بِبَذْرِي وَعَمَلِي، لِي الشَّطْرُ وَلِبَنِي فُلاَنٍ الشَّطْرُ، فَقَالَ: أَرْبَيْتُمَا، فَرُدَّ الأَرْضَ عَلَى أَهْلِهَا وَخُذْ نَفَقَتَكَ».
فَقَدْ وَصَفَ النَّبِيُّ r هَذِهِ الـمُعَامَلَةَ بِأَنـَّهَا رِبًا، وَالرِّبَا حَرَامٌ بِالنَّصِّ القَطْعِيِّ، وَأَيضًا طَلَبَ الرَّسُولُ مِنْ رَافِعٍ أَنْ يَرُدَّ الأَرْضَ عَلَى صَاحِبِهَا بِمَا فِيهَا مِنُ زَرْعٍ، وَيَأْخُذَ نَفَقَتَهُ، أَيْ طَلَبَ مِنهُ فَسْخَ الـمُعَامَلَةَ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ نَـهْيٌ جَازِمٌ فَهُوَ حَرَامٌ.
فَهَذِهِ الأَحَادِيثُ الثَّلَاثَةُ: حَدِيثُ جَابِرٍ فِي الوَعِيدِ عَلَى الـمُخَابَرَةِ أَيِ الـمُزَارَعَةِ، وَحَدِيثُ النَّسَائِيِّ فِي التِّكْرَارِ وَالحَصْرِ، وَحَدِيثِ رَافِعٍ فِي وَصْفِ إِجَارَةِ الأَرْضِ بِالرِّبَا، وَفَسْخِ الـمُعَامَلَةِ، قَرِينَةٌ قَاطِعَةٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِلْجَزْمِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ إِجَارَةِ الأَرْضِ مُطْلَقًا. فَمِنْ مَنطُوقِ هَذِهِ الأَحَادِيثِ وَمَفْهُومِهَا لَا تُوجَدُ أَدْنَى شُبْهَةٍ فِي حُرْمَةِ تَأْجيرِ الأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ مطلقًا. غَيرَ أَنَّهُ وُجِدَ فِي الأَئِمَّةِ مَنْ يُـجِيزُ إِجَارَةَ الأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ، لِذَلِكَ فَإِنَّنَا نُبَيِّنُ الأَدِلَّةَ الَّتِي استَنَدَ إِلَيهَا بَعْضُ الأَئِمَّةِ فِي جَوَازِ إِجَارَةِ الأَرْضِ لِلزِّرَاعَةِ؛ لِنَقْضِهَا، وَلَيسَ لِنَقْدِهَا فَحَسْب.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.