- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 9)
أهمية تزكية نفس الإنسان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
مستمعينا الكرام مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ التاسعةِ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "أهمية تزكية نفس الإنسان".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "أما الميول فهي الدوافع التي تدفع الإنسان للإشباع مربوطة بالمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء التي يُراد منها أن تشبع. وتحدثها عند الإنسان الطاقة الحيوية التي تدفعه لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، والربط الجاري بين هذه الطاقة وبين المفاهيم. وهـذه الميول وحدها أي الدوافع مربوطة بالمفـاهيم عن الحياة هي التي تكوّن نفسية الإنسان. فالنفسية هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضـوية. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي تربط فيها دوافع الإشـباع بالمفـاهيم. فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعياً في داخل الإنسان بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء مربوطة بمفاهيمه عن الحياة".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: خلق الله الإنسان، وزوده بالطاقة الحيوية، وأودع فيه الحاجات العضوية التي تتطلب الإشباع الحتمي؛ لكي يبقى الإنسان حياً، وأودع فيه أيضاً الغرائز، والميول التي تتطلب الإشباع كي يعيش الإنسان في راحة وطمأنينة، وقد وضع الإسلام أحكاماً خاصة تبين الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز، والحاجات العضوية، ثم دعا المسلم إلى تزكية نفسه وتطهيرها، وحملها على الالتزام بهذه الأحكام الشرعية، والقبول والتسليم بها طواعية عن رضا واختيار. والتزكية مهمة للإنسان من عدة أوجه:
أهمية تزكية النفس للإنسان:
أولا: إن الله عز وجل - وهو الحق وقوله الصدق - أقسم في كتابه أحد عشر قسماً على فلاح من زكى نفسه، وعلى خسران من أهمل تزكيتها، وتطيرها قال تعالى: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا). (الشمس١ - ١٠)
ثانيا: إن النفس من أشد أعداء الإنسان الداخليين؛ لأنها تدعو إلى الطغيان، وإيثار الحياة الدنيا، وسائر أمراض القلب إنما تنشأ من جانبها، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من شرها كثيراً، كما في حديث أبي هريرة عند ابن أبي حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: (فألهمها فجورها وتقواها) فقال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها». ورحم الله الشاعر حيث يقول:
والنفس كالطفل إن تهمله شب على ... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فإن أمارتـي بالســوء مــا اتعظــت ... مــن جهلها بنذير الشيب والهرم
وفي المسند والترمذي أنه صلى الله عليه وسلم علم حصين بن عبيد أن يقول: «اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي».
ثالثا: إن التزكية طريق الجنة، قال الله تعالى: ( فَأَمَّا مَن طَغَىٰ (٣٧) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ). (النازعات) فهي إذن شرط لدخول الجنة. وقال تعالى محذرا من اتباع الهوى: (فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ). (القصص٥٠)
رابعا: إن الإنسان محب للكمال فينبغي لـه أن يعمل على إكمال نفسه بتزكيتها وتربيتها، فهذه النفس تصاب بالأعراض التي تصاب بها الأبدان، فهي تحتاج إلى تغذية دائمة، وتحتاج إلى رعاية، وتحتاج كذلك إلى متابعة للازدياد من الخير كما يزداد البدن من الطاقات والمعارف، فلذلك احتاج الإنسان إلى أن يراقب تطورات نفسه، ويعلم أنها وعاء إيمانه، وأهم ما عنده هو هذا الإيمان، فإذا سُلبَهُ فلا فائدة في حياته، فلا بد من العمل على تنمية هذا الإيمان وزيادته عن طريق تزكية هذه النفس وتهذيبها.
يقول سيد قطب - رحمه الله - في الظلال: "إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة، مزدوج الاستعداد، مزدوج الاتجاه، بمعنى أنه في طبيعة تكوينه: من طين الأرض، ومن نفخة الله فيه من روحه، وهو لذلك مزود باستعدادات متساوية للخير والشر، والهدى والضلال، فهو قادر على التمييز بين ما هو خير، وما هو شر، كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى أيهما أراد، وهذه قدرة كامنة في كيانه يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها)، ويعبر عنها بالهداية تارة: (وهديناه النجدين). وإلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان هي التي تناط بها التبعة، فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه، وتطهيرها، وتنمية استعدادات الخير فيها، وتغليبها على استعدادات الشر فقد أفلح، ومن أظلم هذه القوة، وخبأها، وأضعفها فقد خاب. (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)". انتهى الاقتباس!!
وقد دل على وجوب محاسبة النفس قول الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد" وقوله صلى الله عليه وسلم: "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني"(22)، دان نفسه: أي حاسبها. وأخرج الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية". وقال الحسن البصري: "إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة من همته"، وقال ميمون بن مهران: "لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه" وقال الحسن: "المؤمن قوام على نفسه، يحاسب نفسه لله، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة..." وكتب عمر بن الخطاب إلى أحد عماله فقال: "حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة، فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن ألهته حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة" وكان الأحنف ابن قيس يجيء إلى المصباح فيضع أصبعه فيه ثم يقول: حِس يا حنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟. وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: (مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه، ويصدقونه عن نفسه، وساعة يخلى فيها بين نفسه وبين لذاتها فيما يحل ويجمل، فإن في هذه الساعة عوناً على تلك الساعات، وإجماماً للقلوب).
عن عبد الله بن عمرو قال: قيل لرسول الله ﷺ: أي الناس أفضل؟ قال: «كل مخموم القلب، صدوق اللسان قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي، ولا غل، ولا حسد». (رواه ابن ماجه 4216).
قال الشيخ محمد الغزالي - رحمه الله - قرأت قولا لبعض الحكماء: إذا فعلت الخير، وأحببت أن تظهر به؛ ففيك بقية شر. وإذا فعلت الشر، وكرهت أن تظهر به؛ ففيك بقية خير.
وإن قال قائل: لم؟ قلنا: لأن الذي يحب أن يظهر في الخير يغلب عليه الرياء. والذي يكره أن يظهر في الشر فيه بقية حياء تجعله إنسانا صالحا كما يحب الله ويرضى. وذاك ما يريده الدين أن تكون لنا قلوب واعية زاكية.
عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال: أخذ رسول الله بمنكبي فقال: «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل». وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: «إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك». (رواه البخاري)
هذا الحديث أصل في قصر الأمل في الدنيا، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يتخذ الدنيا وطنًا ومسكنًا، فيطمئن فيها، ولكن ينبغي أن يكون فيها كأنه على جناح سفر: يهيئ جهازه للرحيل، قال تعالى: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ). [غافر:39]. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «مالي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب قال في ظل شجرة، ثم راح وتركها». (رواه أحمد والترمذي).
قال بعض الحكماء: عجبت ممن الدنيا مولية عنة، والآخرة مقبلة إليه؛ فيتمسك بالمدبرة، ويعرض عن المقبلة.
وقال عمر ابن عبد العزيز في خطبته: "إن الدنيا ليست بدار قراركم، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها منها الظعن، فأحسنوا – رحمكم الله – منها الرحلة بأحسن ما بحضرتكم من النقلة، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى (أبو نعيم - الحلية)
حال المؤمن في الدنيا: وإذا لم تكن الدنيا للمؤمن دار إقامة ولا وطناً، فينبغي للمؤمن أن يكون حاله فيها على أحد حالين:
إما أن يكون كأنه غريب مقيم في بلد غربة، همه التزود للرجوع إلى وطنه، أو يكون كأنه مسافر غير المقيم البتة، بل هو ليله ونهاره، يسير إلى بلد الإقامة، فلهذا وصى النبي ابن عمر أن يكون في الدنيا على أحد هذين الحالين.
فأحدهما: أن ينزل المؤمن نفسه كأنه غريب في الدنيا يتخيل الإقامة، لكن في بلد غربة، فهو غير متعلق القلب في بلد الغربة، بل قلبه معلق بوطنه الذي يرجع إليه. قال الحسن: المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها، ولا ينافس في عزها، له شأن وللناس شأن. لما خلق آدم أسكن هو وزوجته الجنة، ثم أهبطها منها، ووعدا الرجوع إليها، وصالح ذريتهما، فالمؤمن أبداً يحن إلى وطنه الأول.
الحال الثاني: أن ينزل المؤمن نفسه في الدنيا كأنه مسافر غير مقيم البتة، وإنما هو سائر في قطع منازل السفر حتى ينتهي به السفر إلى آخره، وهو الموت. ومن كانت هذه حاله في الدنيا، فهمته تحصيل الزاد للسفر، وليس له همة في الاستكثار من الدنيا، ولهذا أوصى النبي جماعة من أصحابه أن يكون بلاغهم من الدنيا كزاد الراكب. قيل لمـحمد بن واسع: كيف أصبحت؟ قال: ما ظنك برجل يرتحل كل يوم مرحلة إلى الآخرة؟؟.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم عَلى حُسنِ استِمَاعِكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.