الثلاثاء، 24 محرّم 1446هـ| 2024/07/30م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول (ح 26)  الثـغـرات في السـلوك

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 26)

 الثـغـرات في السـلوك

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

 

أحبّتنا الكرام:

 

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ السَّادِسَةِ والعشرين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "الثغرات في السلوك".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "يشاهد في كثير من المسلمين ظهور أعمال تخالف عقيدتهم الإسلامية. ويشاهد في كثير من الشخصيات الإسلامية سلوك يتناقض مع كونهم شخصيات إسلامية. فيظن البعض أن ما صدر من أعمال تخالف العقيدة الإسلامية قد أخرجت الشخص عن الإسلام. وإن ما برز من سلوك يتناقض مع صفات المسلم المتمسك بدينه يُخرج الشخص عن كونه شخصية إسلامية. والحقيقة أن وجود ثغرات في سلوك المسلم لا يخرجه عن كونه شخصية إسلامية. ذلك أنه قد يغفو الإنسان فيُغفل ربط مفاهيمه بعقيدته، أو قد يجهل تناقض هذه المفاهيم مع عقيدته أو مع كونه شخصية إسلامية، أو قد يطغى الشيطان على قلبه فيجافي هذه العقيدة في عمل من الأعمال، فيقوم بأعمال تخالف هذه العقيدة، أو تتناقض مع صفات المسلم المتمسك بدينه أو ضد أوامر الله ونواهيه. ويقوم بذلك كله أو بعضه في الوقت الذي لا يزال يعتنق هذه العقيدة ويتخذها أساسًا لتفكيره وميوله.

 

ولذلك لا يصح أن يُقال إنه في مثل هذه الحال خرج عن الإسلام أو أصبح شخصية غير إسلامية. لأنه ما دامت العقيدة الإسلامية تُعتنق من قِبَله فهو مسلم، وإن عصى في عمل من الأعمال. وما دامت العقيدة الإسلامية تُتخذ لديه أساسًا لتفكيره وميوله فهو شخصية إسلامية وإن فسق في سلوك معين من سائر سلوكه. لأن العبرة باعتناق العقيدة الإسلامية واتخاذها أساسًا للتفكير والميول، ولو وجدت ثغرات في الأعمال والسلوك".

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: اللهم اغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.

 

يَا مَن لَهُ عَنَتِ الوُجُوهُ بِأسْرِهَا ... رَغَبــًا وَكُـلُّ الكَائِنَــاتِ تُوَحِّــدُ

 

أنتَ الإلـهُ الواحِـدُ الحَـقُّ الذي ... كــلُّ القلــوبِ لَـهُ تُقِرُّ وَتَشْــهَدُ

 

وصلى الله وسلم وبارك على عين الرحمة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، سيدنا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: لدينا في هذه الحلقة عدة تساؤلات:

 

السؤال الأول: طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في تكوين الشخصية الإسلامية هل تنتج شخصيات ملتزمة التزاما كاملًا بأحكام الإسلام، وعقيدة الإسلام، ولا يصدر منها أي سلوك أم أي تصرف يخالف الإسلام؟ أم أن هناك شخصيات إسلامية يظهر منها أعمال تخالف عقيدتهم الإسلامية؟ والجواب على ذلك أنه يشاهد في كثير من المسلمين ظهور أعمال تخالف عقيدتهم الإسلامية. ويشاهد في كثير من الشخصيات الإسلامية سلوك يتناقض مع كونهم شخصيات إسلامية.

 

السؤال الثاني: هل إن صدور الأعمال التي تخالف العقيدة الإسلامية من قبل الشخص المسلم يخرجه عن الإسلام؟ أو إليكم السؤال بطريقة أخرى وهي: هل إن وجود ثغرات في سلوك المسلم يخرجه عن كونه شخصية إسلامية؟

 

والجواب هو أن  بعض الناس يظن أن ما صدر من أعمال تخالف العقيدة الإسلامية قد أخرجت الشخص عن الإسلام. وإن ما برز من سلوك يتناقض مع صفات المسلم المتمسك بدينه يُخرج الشخص عن كونه شخصية إسلامية. والحقيقة أن وجود ثغرات في سلوك المسلم لا يخرجه عن كونه شخصية إسلامية.

 

السؤال الثالث: كيف يتأتى للمسلم أن يجافي العقيدة الإسلامية، أو يخالف بسلوكه أحكام الإسلام؟ والجواب على ذلك أن المسلم قد يحدث معه واحد من الأمور الآتية:

  1. قد يغفو المسلم، فيُغفل ربط مفاهيمه بعقيدته.
  2. أو قد يجهل تناقض هذه المفاهيم مع عقيدته أو مع كونه شخصية إسلامية.
  3. أو قد يطغى الشيطان على قلبه فيجافي هذه العقيدة في عمل من الأعمال، فيقوم بأعمال تخالف هذه العقيدة، أو تتناقض مع صفات المسلم المتمسك بدينه أو ضد أوامر الله ونواهيه. ويقوم بذلك كله أو بعضه في الوقت الذي لا يزال يعتنق هذه العقيدة ويتخذها أساساً لتفكيره وميوله.

السؤال الرابع: لماذا لا يصح أن يقال: إن المسلم خرج عن الإسلام في حال مجافاته للعقيدة الإسلامية ومخالفته لأحكام الإسلام؟

 

والجواب لا يصح أن يُقال: إنه في مثل هذه الحال خرج عن الإسلام أو أصبح شخصية غير إسلامية. لأنه ما دامت العقيدة الإسلامية تُعتنق من قِبَله فهو مسلم، وإن عصى في عمل من الأعمال. وما دامت العقيدة الإسلامية تُتخذ لديه أساسًا لتفكيره وميوله فهو شخصية إسلامية، وإن فسق في سلوك معين من سائر سلوكه. لأن العبرة باعتناق العقيدة الإسلامية واتخاذها أساسًا للتفكير والميول، ولو وجدت ثغرات في الأعمال والسلوك.

 

والضابط المانع لمثل هذه الثغرات في السلوك، والحد منها في حال غياب النظام الإسلامي، الذي يزيل من الحياة العامة جميع المحفزات على الثغرات في السلوك هو البيئة الصالحة، والصحبة الخيرة، فخير الأصحاب من يذكرك إذا نسيت، ويعينك إذا ذكرت.

 

لقد خلق الله تعالى الإنس، والجن، والملائكة، وجعل بينهم فروقًا كثيرة، وأهم هذه الفروق ثلاثة:

 

الأول: إن الإنس خلقوا من طين، ووهبهم العقل المفكر، وخلق فيهم الشهوة، وهداهم النجدين - طريق الخير، وطريق الشر- وجعلهم مخيرين في اختيار إحداهما، فمنهم المسلم الآمر بالخير، ومنهم الكافر الآمر بالشر.   

 

الثاني: أن الملائكة خلقوا من نور، وهم منزوعو الشهوة. وهم جميعًا مؤمنون، ومعصومون من الوقوع في الذنوب، ولا يأمرون غيرهم إلا بالخير. من هنا أتت المقولة التي سبق أن قلناها - وهي مقولة حق-: "يخطئ كثيرًا أولئك الذين يتصورون الشخصية الإسلامية بأنها ملاك، وضرر هؤلاء في المجتمع عظيم جداً لأنهم يبحثون عن الملاك بين البشر فلا يجدونه مطلقًا، بل لا يجدونه في أنفسهم فييأسون وينفضون أيديهم من المسلمين".  

 

الثالث: أن الجن خلقوا من نار، وهم كالإنس وهبهم الله العقل، وخلق فيهم الشهوة، وهداهم النجدين، وجعلهم مخيرين، فمنهم المسلم الطائع، ومنهم الكافر العاصي، ومنهم الآمر بالخير، ومنهم الآمر بالشر.

 

والإنس والجن موجودون على الأرض كما دل على ذلك الكتاب والسنة. قال الله تعالى عن إبليس أبي الجن، وآدم أبي البشر، وحواء أم البشر: (قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ* قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ). (الأعراف25)

 

وقال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ* قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ). (الأحقاف 30)

 

والجن - كما سبق أن ذكرنا - منهم المؤمنون ومنهم الكافرون، والدليل على ذلك قوله تعالى: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً* وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (الجـن 15) وقوله تعالى: (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ* وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). (الأحقاف32).

 

والحاصل أن الخطأ جائز حتى على العلماء، وعلى عامة الناس من باب أولى. عن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون». ومما لا شك فيه أن العلماء كغيرهم من الناس بل هم عرضة للخطأ، والغفلة، والسهو. فقد تقع منهم الأخطاء، ولذلك نسب النبي صلى الله عليه وسلم الخطأ إلى أبي بكر الصديق. فقال له: «أصبت بعضًا وأخطأت بعضًا». وذلك لما طلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح له بتعبير رؤيا.

 

قال شيخ الإسلام رحمه الله - كما في مجموع الفتاوى -: "فأما الصديقون، والشهداء، والصالحون فليسوا بمعصومين، وهذا في الذنوب المحققة، وأما ما اجتهدوا فيه، فتارة يصيبون، وتارة يخطئون؛ فإذا اجتهدوا، وأصابوا فلهم أجران، وإذا اجتهدوا، وأخطئوا فلهم أجر على اجتهادهم، وخطؤهم مغفور لهم".

 

ثم إن من صفات الله تعالى، ومن أسمائه الحسنى أنه "الغفار". قال تعالى: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ). ‎(طه ٨٢). فكيف يكون الله تبارك وتعالى غفارًا إذا لم يخطئ الناس، ولم يتوبوا؟

 

رَوَى مسلم في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عَنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِه لو لَمْ تُذْنِبوا لَذَهبَ اللهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ».

 

في هذا الحديثِ يُقسِمُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالَّذي نَفسُه بِيدِه، لَو لم تُذنِبوا، أَيُّها المُؤمنونَ لَذهَبَ اللهُ بِكمْ، ولَجَاءَ بِقومٍ مِن جِنْسِكم أَوْ مِن غَيرِكم، يُذنِبونَ، فيَستَغفِرون اللهَ فيَغفِرُ لَهم؛ لأنَّ العِبادَ لَو لم يُذنِبوا لَخِيفَ عَليهِم ما هُوَ أَكبرُ مِن ذَلك، أَلا وَهُوَ العُجْبُ. ولَجَاءَ بِقَومٍ يُذنِبونَ؛ وذَلكَ لأنَّ اللهَ عَزَّ وجلَّ يُحِبُّ مِن عَبدِه مَقامَ العُبوديَّةِ الَّذي هُو مُنتَهى الذُّلِّ مَع مُنتَهى الحُبِّ، ولَيسَ في الحديثِ مُواساةٌ للمُنهَمِكينَ في الذُّنوبِ، وإنَّما فيه بَيانُ عَفوِ اللهِ تَعالى وتَجاوزِه عنِ الُمذنِبينَ التَّائبينَ، لِيرْغَبوا في التَّوبةِ إِلى اللهِ فَيَتُوبوا، ويُبَيِّنُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ اللهَ سُبحانَه كَما يُجازي المُحسنينَ بإحْسانِهم، فإِنَّه يَعفو ويَصفَحُ عنِ الُمذنِبينَ. وفي الحديثِ: بَيانُ رَحمَةِ اللهِ بعِبادِه ومَغفِرتِه لذُنوبِهم، وتَجاوزُه سبحانَه عنِ المُسيءِ.

 

أيها المؤمنون:

 

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

 

 

إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي

آخر تعديل علىالإثنين, 17 نيسان/ابريل 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع