- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 28)
لا يستغرب أن يعصي المسلم فيخالف أوامر الله ونواهيه
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
أحبّتنا الكرام :
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا:"وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الثامِنَةِ والعشرين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "لا يستغرب أن يعصي المسلم فيخالف أوامر الله ونواهيه".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "ولذلك لا يُستغرب أن يعصي المسلم فيخالف أوامر الله ونواهيه في عمل من الأعمال. فقد يرى المرء الواقع يتناقض مع ربط السلوك بالعقيدة. وقد يُخيَّل إليه أن مصلحته موجودة فيما فعله ثم يندم ويدرك خطأ ما فعل ويرجع إلى الله. فهذه المخالفة لأوامر الله ونواهيه لا تطعن في وجود العقيدة عنده، وإنما تطعن في تقيده بهذا العمل وحده بالعقيدة. ولذلك لا يعتبر العاصي أو الفاسق مرتداً، وإنما يعتبر مسلماً عاصياً في العمل الذي عصى به وحده، ويعاقب عليه وحده، ويبقى مسلماً ما دام يعتنق عقيدة الإسلام. ولذلك لا يقال إنه شخصية غير إسلامية لمجرد أن غفا غفوة أو طغاه الشيطان مرة، ما دام اتخاذه العقيدة الإسلامية أساساً لتفكيره وميوله لا يزال موجوداً ولم يتطرق إليه خلل أو ارتياب".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: اللهم اغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.
يَا مَن لَهُ عَنَتِ الوُجُوهُ بِأسْرِهَا ... رَغَبــًا وَكُـلُّ الكَائِنَــاتِ تُوَحِّــدُ
أنتَ الإلـهُ الواحِـدُ الحَـقُّ الذي ... كــلُّ القلــوبِ لَـهُ تُقِرُّ وَتَشْــهَدُ
وصلى الله وسلم وبارك على عين الرحمة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، سيدنا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: لدينا في هذه الحلقة عدة أسئلة: يقول الشاعر:
فَيا عَجَبًا كَيفَ يُعصى الإِلَهُ ... أَم كَيـــفَ يَجحَــدُهُ الجاحِــدُ
وَفــي كُــلِّ شَـيءٍ لَـــهُ آيَــةٌ ... تَــــدُلُّ عَلــى أَنَّـــهُ واحِــــدُ
وَلِلَّهِ فـــي كُـــــلِّ تَحريكَـــةٍ ... وَتَسكينَـــةٍ أَبَــــدًا شاهِــــــدُ
فالشاعر يتعجب ويستغرب من معصية الإنسان لله تعالى، على الرغم مما يراه من الأدلة والبراهين على وحدانيته سبحانه، ويقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "لا يُستغرب أن يعصي المسلم، فيخالف أوامر الله ونواهيه في عمل من الأعمال.
السؤال الأول: في حلقتنا هذه هو: لِمَ لا يُستغرب أن يعصي المسلم فيخالف أوامر الله ونواهيه في عمل من الأعمال؟؟ وجواب هذا السؤال أن المسلم تعتريه حالة من الحالتين الآتيتين:
- قد يرى الواقع يتناقض مع ربط السلوك بالعقيدة.
- وقد يُخيَّل إليه أن مصلحته موجودة فيما فعله ثم يندم، ويدرك خطأ ما فعل ويرجع إلى الله.
السؤال الثاني: هل تطعن هذه المخالفة لأوامر الله ونواهيه في وجود العقيدة عند المسلم؟؟ وجوابه أن هذه المخالفة لأوامر الله ونواهيه لا تطعن في وجود العقيدة عنده، وإنما تطعن في تقيده بهذا العمل وحده بالعقيدة.
السؤال الثالث: هل يعتبر العاصي أو الفاسق مرتدًا؟؟ وجوابه: لا يعتبر العاصي أو الفاسق مرتدًا، وإنما يعتبر مسلمًا عاصيًا في العمل الذي عصى به وحده، ويعاقب عليه وحده، ويبقى مسلمًا ما دام يعتنق عقيدة الإسلام.
السؤال الرابع: هل يقال: إن العاصي شخصية غير إسلامية لمجرد أن غفا غفوة أو طغاه الشيطان مرة؟؟ وجوابه: لا يقال: إنه شخصية غير إسلامية؛ لمجرد أن غفا غفوة، أو طغاه الشيطان مرة، ما دام اتخاذه العقيدة الإسلامية أساسًا لتفكيره، وميوله لا يزال موجودًا، ولم يتطرق إليه خلل أو ارتياب.
والحاصل أن الإنسان لا يُصنّف على أنه من الكائنات الكاملة التي لا تخطئ، فهو مزيج من الخطأ والصواب، من الخير والشر، من الحق والباطل، ولكن الإنسان الخيِّر هو من انتصر في داخله الصواب على الخطأ، والخير على الشر، والحق على الباطل. إنّ الإنسان يعدُّ واحدًا من الكائنات الفريدة التي لم ولن يرتقِ إلى مستواها أيّ كائنٍ آخر مهما كان، فجمال التجربة الإنسانيّة يتلخّص في ضرورة أن يجرب، وأن يخطئ، وأن يتعلّم من هذه الأخطاء، فلو لم يفعل الإنسان إلّا الصواب لكان من الكائنات المبرمجة، والمخلوقات المسيرة التي ليس لها اختيار، ولما كانت له ميزات، ولما كان هناك معنى لحسابه وعقابه أيضًا. فالذنوب والمعاصي هي الأخطاء الدينيّة التي يقترفها الإنسان بحق نفسه دينيًا، وهي من المذمومات لأنها تبعد الإنسان عن الصراط المستقيم الذي ارتضاه الله تعالى له، فذنوب الإنسان ومعاصيه تفصله عن طريق الحق، والخير والصواب، وتحول بينه وبين المعروف، ولكن هذا لا يعني أنّ كل من يقترف ذنبًا حتى لو كان ذنبًا عظيمًا أو معصية معيّنة هو إنسان سيئ، فالإنسان قد يضعف في لحظات، وقد يقوى في لحظات أخرى، فكلّ من أخطأ يجب أن نأخذ بيده حتى يُصلح خطأه، ويعود إلى جادة الصواب، فالمتديّن أيًا كان دينه يكره المعاصي من الإنسان، ولا يكره الإنسان نفسه. والسؤال الأخير في هذه الحلقة هو: كيف تتخلص من الذنوب والمعاصي؟ وجوابه هو أن ترك الذنوب والمعاصي يكون بما يأتي:
أولاً: بإدراك أنّ هذا الفعل الشنيع هو حقاً معصية؛ فبعض الناس قد يرتكبون المعاصي، ويصرّون عليها، بل ويبرّرون لها، بحيث يكونوا مرتاحين إلى أنّ ما يقومون به هو أمر حسن ومقبول، وهذا هو أصعب أنواع الذنوب والمعاصي؛ فالمعصية إن اقترنت باطمئنان الضمير إليها استقرت واستمرت، والمسلم اليقظ ذو القلب العامر بالإيمان فإن قلبه هو المنبّه الأوّل لوجود المعصية، وهو الذي يدفع الإنسان إلى تركها، والابتعاد عنها.
ثانيا: بعد أن يتيقّن الإنسان من أنّ ما يقوم به هو حقاً من المعاصي والمنكرات، يجب أن يبدأ بجهاد نفسه، ومحاولة الإقلاع عن المعصية التي يقوم بها، ويكون ذلك من خلال ما يلي:
- البعد عن الأسباب التي تُيسّر الوقوع في المعصية، والبعد أيضًا عن الأماكن التي تذكّر بهذه المعصية.
- إشغال النفس بما هو خيِّر ونافع، فأوقات الفراغ الكبيرة هي أساس المعاصي، والأعمال القبيحة، لهذا فقد وجب على كلّ إنسان أن يملأ وقت فراغه جيدًا، وأن يسعى في الأرض إصلاحًا، وإعمارًا لا فسادًا.
- إيجاد البدائل الجيّدة للأعمال السيئة، فعلى سبيل المثال، من كان يتكسّب من السرقة عليه أن يبحث عن عمل يسترزق منه.
- البحث الدائم، والمستمر عن الحقيقة، وكلّ الناس مطالبون بذلك، ذلك لأنّ الحقيقة هي الطريقة التي يمكن من خلالها التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والصواب.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.
إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي