- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد: ...
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
(ح 30)
الأساس هو سلامة العقيدة الإسلامية عند الشخص
وبناؤه تفكيره وميوله عليها
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
أحبّتنا الكرام:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الثلاثين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "الأساس هو سلامة العقيدة الإسلامية عند الشخص وبناؤه تفكيره وميوله عليها".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "فالأساس هو سلامة العقيدة الإسلامية عند الشخص وبناؤه تفكيره وميوله عليها حتى يكون شخصية إسلامية. فما دام الأساس سليماً والبناء في التفكير والميول محصوراً في العقيدة الإسلامية فإنه لا يطعن في كون المسلم شخصية إسلامية حصول هفوات نادرة منه أي حصول ثغرات في سلوكه. فإذا طرأ خلل على العقيدة خرج الشخص عن الإسلام ولو كانت أعماله مبنية على أحكام الإسلام لأنها لا تكون حينئذ مبنية على الاعتقاد بل مبنية على غير الاعتقاد - إما مبنية على العادة أو على مجاراة الناس أو على كونها نافعة أو على غير ذلك - وإذا طرأ خلل على البناء بأن صار يجعل المنفعة الأساس الذي يبني عليه سلوكه أو جعل العقل الأساس الذي يبني عليه سلوكه، فإنه يكون مسلمًا لسلامة عقيدته ولكنه لا يكون شخصية إسلامية ولو كان من حملة الدعوة الإسلامية، ولو كان سلوكه كله وفق أحكام الإسلام. لأن بناء التفكير والميول على العقيدة الإسلامية بناء على الاعتقاد بها هو الذي يجعل الإنسان شخصية إسلامية".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: اللهم اغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.
يَا مَن لَهُ عَنَتِ الوُجُوهُ بِأسْرِهَا ... رَغَبــًا وَكُـلُّ الكَائِنَــاتِ تُوَحِّــدُ
أنتَ الإلـهُ الواحِـدُ الحَـقُّ الذي ... كــلُّ القلــوبِ لَـهُ تُقِرُّ وَتَشْــهَدُ
وصلى الله وسلم وبارك على عين الرحمة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، سيدنا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد: لدينا في هذه الحلقة ستة أسئلة نذكرها تباعًا، ثم نجيب عنها واحدًا فواحدًا، حسب الترتيب، وهذه الأسئلة هي:
- ما الذي يجعل الإنسان شخصية إسلامية؟
- هل إن حصول هفوات نادرة من المسلم يطعن في كونه شخصية إسلامية؟
- متى يخرج الشخص عن الإسلام؟
- كيف يكون بناء المسلم تفكيره، وميوله على غير العقيدة الإسلامية؟
- متى يكون الشخص مسلمًا، وفي الوقت نفسه لا يكون شخصية إسلامية؟
- هل لكم أن تَعرِضُوا علينا نموذجا لمسلم لا يكون شخصية إسلامية؟
السؤال الأول: ما الذي يجعل الإنسان شخصية إسلامية؟ جوابه: إن بناء الشخصية الإسلامية كأي بناء يحتاج إلى أساس يقوم عليه، فالأساس الذي يقوم عليه بناء الشخصية الإسلامية يشترط فيه أمران اثنان، إذا طرأ خلل على أحدهما؛ فإن المسلم حينها لا يكون شخصية إسلامية، وهذان الأمران هما:
الأمر الأول: سلامة العقيدة الإسلامية عند المسلم.
الأمر الثاني: بناؤه تفكيره، وميوله على العقيدة الإسلامية.
السؤال الثاني: هل حصول هفوات نادرة من المسلم يطعن في كونه شخصية إسلامية؟ جوابه: ما دام الأساس سليمًا، والبناء في التفكير والميول محصورًا في العقيدة الإسلامية؛ فإنه لا يطعن في كون المسلم شخصية إسلامية حصول هفوات نادرة منه أي حصول ثغرات في سلوكه.
السؤال الثالث: متى يخرج الشخص عن الإسلام؟ وجوابه: يظل الشخص مسلمًا ما دام الأساس الذي بنيت عليه شخصيته، وهو العقيدة سليمًا، أي ما لم يطرأ خلل على العقيدة، فإذا طرأ خلل على العقيدة خرج الشخص عن الإسلام.
السؤال الرابع: كيف يكون بناء المسلم تفكيره، وميوله على غير العقيدة الإسلامية؟ جوابه: إذا طرأ خلل على العقيدة خرج الشخص عن الإسلام، ولو كانت أعماله مبنية على أحكام الإسلام؛ لأنها لا تكون حينئذ مبنية على الاعتقاد، بل مبنية على غير الاعتقاد، بل تكون مبنية على واحد من الأمور الآتية:
- إما أن تكون أعماله مبنية على العادة.
- أو تكون مبنية على مجاراة الناس.
- أو تكون مبنية على كونها نافعة، أو على غير ذلك.
السؤال الخامس: متى يكون الشخص مسلمًا، وفي الوقت نفسه لا يكون شخصية إسلامية؟ جوابه: إذا طرأ خلل على البناء بأن صار يجعل المنفعة الأساس الذي يبني عليه سلوكه، أو جعل العقل الأساس الذي يبني عليه سلوكه، فإنه يكون مسلمًا لسلامة عقيدته، ولكنه لا يكون شخصية إسلامية ولو كان من حملة الدعوة الإسلامية، ولو كان سلوكه كله وفق أحكام الإسلام. لأن بناء التفكير والميول على العقيدة الإسلامية بناء على الاعتقاد بها هو الذي يجعل الإنسان شخصية إسلامية.
السؤال السادس: هل لكم أن تَعرِضُوا علينا نموذجا لمسلم لا يكون شخصية إسلامية؟ وجوابه: حبا وكرامة، سنعرض عليكم نموذجًا من النماذج التي كانت تعيش في مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم، وهاجرت معه إلى المدينة المنورة حين أقام دولة الإسلام الأولى، ولم تكن هجرته لله ورسوله، بل كانت من أجل امرأة ينكحها، فجعل عمله مبنيا على المنفعة، ولم يجعله مبنيًا على العقيدة:
روى الإمامان البخاري ومسلم ما رواه الإمام النووي في حديثه الأول من الأربعين النووية حيث قال: عَنْ أَمِيرِ المُؤمِنينَ أَبي حَفْصٍ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ يَقُولُ: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإنَّمَا لِكُلِّ امْرِئ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلى اللهِ وَرَسُوله فَهِجْرتُهُ إلى اللهِ وَرَسُوُله، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيْبُهَا، أَو امْرأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ».
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى: "وقد روى أن سبب هذا الحديث أن رجلا كان قد هاجر من مكة إلى المدينة؛ لأجل امرأة كان يحبها تدعى أم قيس فكانت هجرته لأجلها، فكان يسمى "مهاجر أم قيس"، فلهذا ذكر فيه: «أو امرأة يتزوجها» وفى رواية: «ينكحها»، فخص المرأة بالذكر لاقتضاء سبب الحديث لذلك، والله أعلم". وقال الإمام النووي في شرح هذا الحديث: إنَّ جميع الأعمال مقصورة ومحصورة ومتعلقة بالنية، وهنا (الأعمال) معرف بأل فيشمل جميع الأعمال، ومن هنا قال جمهور العلماء: كل عمل لا بد أن يتعلق بالنية، وبعض العلماء يقول: هذا العام مخصوص خرج منه ما لا يحتاج إلى نية، كالأمور التي ليست مقصودة للتعبد، كالأمور الجبلية، كالأكل والشرب والنوم واللبس، فهذه أمور جبلية لا تحتاج إلى نية، وتحصل بدون النية، فإذا أكلت شبعت ولو ما نويت الشبع، وإذا لبست سترت وإن لم ترد الستر.
ويقول الآخرون: الحديث على عمومه ولا يخرج منه شيء، حتى الأمور الجبلية داخلة في هذا الحديث؛ لأنك إذا أكلت لتشبع شكرًا لله على النعمة، أو لتتقوى على طاعة الله، فإن نيتك في الأمور العادية تحولها إلى عبادة، فإذا لبست تنوي الستر كان لك أجر، وإذا لبست تنوي الفخر والخيلاء كان عليك وزر، إذاً: ما خرج من هذا الحديث شيء. إذًا: النية لها دخل حتى في العادات، فإذا كان الإنسان يريد عملًا ما من أمور الدنيا، أو أمور الآخرة؛ فله من الجزاء بحسب نيته، مثل إنسان بنى بيتًا يستتر فيه ويأوي إليه عياله، ويتركه لعياله من بعده فله أجر على هذا العمل، ألا ترون الحديث في قوله صلى الله عليه وسلم: «حتى اللقمة يضعها في فيِّ امرأته فله بها أجر»، وقال: «أيأتي أحدنا شهوته وله فيها أجر؟ قال: أرأيت لو وضعتها في حرام أليس عليك وزر».
وهكذا الأعمال التي يقصد بها وجه الله فالنية فيها بمعنى القصد. قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا). (الكهف 110)، ولهذا جاء في الحديث القدسي أنه سبحانه وتعالى يقول: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا، وأشرك معي فيه غيري تركته وشركه، ويُؤتى يوم القيامة، ويُنادى: من عمل عملًا يرائي به غيرَ الله، فليطلب جزاءه ممن كان يرائي». والأحاديث في هذا كثيرة. وفيما يتعلق بالرياء هل هو يحبط جميع الأعمال أو العمل الذي راءى فيه، وإذا قصد بعمله وجهًا سوى وجه الله، هل يكون له في ذلك حظ؟ كمن حج ليتجر، وكمن قاتل ليغنم مع إعلاء كلمة الله، يقول العلماء: إن كان القصد الأول هو وجه الله، وما جاء من غيره فإنما هو تبع، فلا شيء في ذلك، والمسلمون كانوا يخرجون، ويقاتلون وكانوا يغنمون، ولا يؤثر ذلك على قصدهم في إعلاء كلمة الله، وبعضهم يقول: إن قاتلوا وغنموا فقد فاتهم ثلثا أجر الغزاة، وإن قاتلوا ولم يغنموا فلهم أجر الغزاة كاملة.
ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يغزو، ويقاتل، ويغنم، ويأخذ من الغنيمة خمسها ويقسم على أصحابه، ولا يؤثر ذلك؛ لأن القصد الأول إنما هو إعلاء كلمة الله، وهكذا نية القصد تأتي في الأعمال التي يراد بها وجه الله، فهذا الذي حج ويتجر إن كان خروجه للحج، وإنما يتجر ليستعين على نفقة الحج، فلا مانع من ذلك؛ لأن القصد هو الحج والاتجار إنما هو وسيلة وليس بغاية، أما إذا كانت غايته التجارة والحج جاء تبعاً فهذا بقدر جزئية النية في الحج يكون له أجر، وهكذا في جميع الأعمال.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.