الأحد، 22 محرّم 1446هـ| 2024/07/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول (ح 48) الإيمان بالقدر الوارد في حديث عمر بن الخطاب يقصد به علم الله

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 48)

الإيمان بالقدر الوارد في حديث عمر بن الخطاب يقصد به علم الله

 

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

 

أحبّتنا الكرام:

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الثامنةِ والأربعين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "الإيمان بالقدر الوارد في حديث عمر بن الخطاب يقصد به علم الله".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "نعم قد ورد الإيمان بالقدر في حديث جبريل في بعض الروايات فقد جاء قال: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» أخرجه مسلم من طريق عمر بن الخطاب. إلا أنه خبر آحاد علاوة على أن المراد بالقدر هنا علم الله وليس القضاء والقدر الذي هو موضع خلاف في فهمه. وأما مسألة الإيمان بالقضاء والقدر بهذا الاسم وبمسماها الذي جرى الخلاف في مفهومه فلم يرد بها نص قطعي. إلا أن الإيمان بمسماها من العقيدة فهي مما يجب الإيمان به. ولم تُعرف بهذا الاسم وهذا المسمى في عصر الصحابة مطلقاً فلم يرد نص صحيح بورودها بهذا الاسم والمسمى، وإنما اشتهرت في أوائل عصر التابعين. وصارت تُعرف وتُبحث منذ ذلك الحين. والذي أتى بها وجعلها موضوع البحث هم المتكلمون. فإنها لم توجد قبل نشأة علم الكلام ولم يبحثها باسمها هذا (القضاء والقدر) وبمسماها سوى المتكلمين بعد انتهاء القرن الأول الهجري". 

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: اللهم اغننا بالعلم، وزينا بالحلم، وأكرمنا بالتقوى، وجملنا بالعافية.

 

يَا مَن لَهُ عَنَتِ الوُجُوهُ بِأسْرِهَا ... رَغَبــًا وَكُـلُّ الكَائِنَــاتِ تُوَحِّــدُ

 

أنتَ الإلـهُ الواحِـدُ الحَـقُّ الذي ... كــلُّ القلــوبِ لَـهُ تُقِرُّ وَتَشْــهَدُ

 

وصلى الله وسلم وبارك على عين الرحمة وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، سيدنا محـمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

 

إن الله سبحانه، وتعالى عالم بكل شيء تفصيلًا من الأزل إلى الأبد. وإن علم الله تبارك وتعالى محيط بكل شيء، وإن الله - جل في علاه - لا تخفى عليه خافية، ولا تغيب عنه غائبة في السماوات، ولا في الأرض، إن الله بكل شيء عليم، يعلم ما كان في الماضي، وما يكون في الحاضر، وما سيكون في المستقبل، بل إن الله - تبارك وتعالى - يعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون!! ومثال ذلك قوله تعالى: (بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ‎(٢٨) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ‎(٢٩)‏ وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ وُقِفُوا عَلَىٰ رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَٰذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَىٰ وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ)

 

ويدل على إحاطة علمه - سبحانه وتعالى - بكل شيء آياتٌ، منها قوله تعالى في سورة الأنعام: (وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) (الأنعام 80)، وقوله تعالى في سورة الشورى: (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الشورى 12)

 

لقد وردت آيات تدل صراحةً على علمه تعالى بما يكون في المستقبل، منها قوله تعالى في سورة البقرة: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ). (البقرة 235)، وقوله في سورة البقرة أيضًا: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ). (البقرة 255)، وفي سورة الرعد: (اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ). (الرعد 8)، وفي سورة الرعد أيضًا: (يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ). (الرعد 42)، وفي سورة المزمل: (عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَىٰ). (المزمل 20)

 

هذا، وقد يثير بعض المشككين شبهة، أو إشكالا حول بعض آيات الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ). (البقرة 143).

 

هذه الآية في ظاهرها تقتضي أن الله سبحانه لا يعلم من يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ممن ينقلب مرتدا على عقبيه إلا بعد أن جعل تلك القبلة، فكيف يصح ذلك مع أننا نعتقد أن الله تعالى عليم بما كان وما يكون؟ هذا في الواقع سؤال وارد. وللعلماء فيه تأويلات كثيرة منها:

  1. معنى (لِنَعْلَمَ) في الآية: ليتعلق علمنا بذلك موجودًا لا مقدّرًا أن يوجد في المستقبل. فالله سبحانه يعلم أن هذا الشيء قد وقع، فوقوع ذلك الشيء معلوم وحاصل. ويعلم أن ذلك الشيء سيقع، فوقوعه معلوم لكنه غير حاصل.
  2. المراد: العلم الحالي الواقعي الذي يدور حوله الجزاء، فالله سبحانه لا يؤاخذ الناس إلا على ما فعلوا في الواقع، لا على ما يعلم أنهم سيفعلونه.
  3. معنى (لِنَعْلَمَ): لنميّز أهل اليقين من أهل الشك. فعبّر عن التمييز بالعلم، لأن التمييز من ثمرات العلم.
  4. معناه: ليعلم الناس، لا ليعلمه الله. ويؤيد هذا قراءة ابن مسعود (ليُعْلَمَ) بالبناء لما لم يسم فاعله.

ومن الآيات الكريمة الدالة على إحاطة علم الله تعالى بكل شيء قول الله تعالى في سورة لقمان: (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ). (لقمان 33) فلا يعلم متى تقوم الساعة أحد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا يعلم ما في الأرحام إلا الله قبل تعليمه لمن شاء من خلقه، ولا تدري نفس ماذا تكسب غدًا إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله تعالى.

 

وهذه الآية الكريمة من أعظم الآيات تفصيلًا لعلم الله المحيط بكل شيء وأنه شامل للغيوب كلها التي يطلع منها من شاء من خلقه وكثير منها طوى علمه عن الملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين فضلًا عن غيرهم من العالمين، وأنه يعلم ما في البراري والقفار من الحيوانات والأشجار والرمال والحصى والتراب. وما في البحار من حيواناتها، ومعادنها، وصيدها، وغير ذلك مما تحويه أرجاؤها ويشتمل عليه ماؤها (وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ) من أشجار البر، والبحر، والبلدان، والقفار، والدنيا، والآخرة إلا يعلمها. (وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ) من حبوب الثمار، والزروع، والبذور التي يبذرها الخلق، وبذور النوابت البرية التي ينشأ منها أصناف النباتات (وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ) مما تقدم وغيره، وهذا عموم بعد خصوص (إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، وهو اللوح المحفوظ قد حواها، واشتمل عليها، وهذا مما يبهر عقول العقلاء.

 

ما يستفاد من هذه الآية الكريمة:

  1. اختصاص الله تعالى بعلم مفاتح الغيب الخمس المذكورة في الآية.
  2. عظمة الرب العظيم، وكماله في أوصافه كلها.
  3. أن الخلق من أولهم إلى آخرهم لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض صفات الله لم يكن لهم قدرة، ولا وسع في ذلك.
  4. الدلالة على علم الله المحيط بجميع الأشياء الظاهرة والباطنة والبارزة والخفية.
  5. الإيمان باللوح المحفوظ أصل الكتب، ومادتها، وينبوعها المحيط بجميع الحوادث، فتبارك الرب العظيم، الواسع العليم، الحميد المجيد، الشهيد المحيط، وجل من إله لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه عباده.

 

بعد هذه النبذة القصيرة عن علم الله تعالى، نأتي إلى عرض ما جاء في الفقرة التي اقتبستها لكم من كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول: ميَّز الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله - بين مسألتين من مسائل الإيمان بالقدر:

 

  1. الإيمان بالقدر - خيره وشره - الوارد في حديث جبريل عليه السلام، والذي كان يعني الإيمان بعلم الله تعالى في اللوح المحفوظ.
  2. الإيمان بمسألة "القضاء والقدر" أو "الجبر والاختيار" أو "حرية الإرادة" وهي كلها تدور حول مسألة هل الإنسان مسير في أفعاله فهو مجبر على فعلها، أم هو مخير في فعلها، يقوم بها بمحض إرادته وحرية اختياره؟ هذه المسألة  استجدت بعد عصر الصحابة حين اتسعت رقعة الدولة الإسلامية بعد انتشار الفتوحات، ودخول الناس في دين الله أفواجًا، واختلاط المسلمين بغيرهم من الشعوب التي اعتنقت الإسلام، وكانت تحمل أفكارًا، ومفاهيم لا عهد للمسلمين بها.

وفي هذا يقول الشيخ - رحمه الله -: "نعم قد ورد الإيمان بالقدر في حديث جبريل في بعض الروايات فقد جاء قال: «وتؤمن بالقدر خيره وشره» أخرجه مسلم من طريق عمر بن الخطاب. إلا أنه خبر آحاد علاوة على أن المراد بالقدر هنا علم الله وليس القضاء والقدر الذي هو موضع خلاف في فهمه. وأما مسألة الإيمان بالقضاء والقدر بهذا الاسم وبمسماها الذي جرى الخلاف في مفهومه فلم يرد بها نص قطعي. إلا أن الإيمان بمسماها من العقيدة فهي مما يجب الإيمان به. ولم تُعرف بهذا الاسم، وهذا المسمى في عصر الصحابة مطلقـًا، فلم يرد نص صحيح بورودها بهذا الاسم والمسمى، وإنما اشتهرت في أوائل عصر التابعين. وصارت تُعرف وتُبحث منذ ذلك الحين. والذي أتى بها وجعلها موضوع البحث هم المتكلمون. فإنها لم توجد قبل نشأة علم الكلام ولم يبحثها باسمها هذا (القضاء والقدر) وبمسـمـاهـا سـوى المتكلـمـين بعد انتهاء القرن الأول الهجري".

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه». (رواه الترمذي في صحيحه). ومعنى قوله: «خيره وشره»: أي بخير القدر وشره. فالنعمة قدر، والبلاء قدر، والفرح قدر، والحزن قدر، فكما أن القدر يأتي بالخير؛ فهو يأتي بالشر أيضًا. قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير القرآن العظيم: "ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء الله، وقدره؛ فصبر، واحتسب، واستسلم لقضاء الله؛ هدى الله قلبه، وعوضه الله عما فاته من الدنيا هدىً في قلبه، ويقينًا صادقًا، وقد يُخلف عليه ما كان أخذ منه، أو خيرًا منه".

أيها المؤمنون:

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

 

 

 

إعداد الأستاذ محمد أحمد النادي

آخر تعديل علىالثلاثاء, 06 حزيران/يونيو 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع