الأحد، 22 محرّم 1446هـ| 2024/07/28م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول (ح 55) من مواقف الصحابة الدالة على إيمانهم بالجنة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول

(ح 55)

من مواقف الصحابة الدالة على إيمانهم بالجنة

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:

 

أيها المؤمنون:

 

 

أحبّتنا الكرام:

 

السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الخامسةِ والخمسين، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "من مواقف الصحابة الدالة على إيمانهم بالجنة".

 

يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: "ومن الإيمان بالجنة الإيمان بأن نعيمها نعيمٌ محسوسٌ، وأن أهلها يأكلون ويشـربون ويطئون ويلبسون ويتلذذون".

 

ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: يروي أنس بن مالك رضي الله عنه في أحداث عزوة بدر كما في صحيح مسلم وعند الإمام أحمد يقول: "فَدَنَا الْمُشْرِكُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «قُومُوا إِلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ»، كم مرة سمعنا قول الله تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ). (آل عمران133) ولم نمتثل لأمر الله جل في علاه، لكن عمير بن الحمام الأنصاري - رضي الله عنه - سمع الكلمات، وتدبر معناها جيدًا، جنة عرضها السموات والأرض، هذا شيء ضخم جدًا، شيء مهول وعظيم، وكأن عميرًا - رضي الله عنه - يسمع هذا الكلام للمرة الأولى، قَالَ: "يَقُولُ عُمَيْرُ بْنُ الْحُمَامِ الْأَنْصَارِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ؟". حجم كبير جدًا، مهول وضخم، لا يستطيع العقل تصوره، فكل ما نراه إنما هو السماء الدنيا، فما بالنا بالسموات السبع، قال صلى الله عليه وسلم مجيبًا عن سؤال عمير بكلمةً واحدةً فقط. قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: "بَخٍ، بَخٍ"، وهي كلمة تطلق لتعظيم الأمر، وتفخيمه في الخير، وقد خشي النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون عمير غير مصدق بهذا الكلام، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ: بَخٍ بَخٍ»، قَالَ عمير: "لَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا رَجَاءَ أَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا"، فلما وجد الرسول صلى الله عليه وسلم الصدق في وجه عمير قَالَ: «فَإِنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا»، وهذا ما كان يعيش له عمير، وما كان يتمناه، وما كان يرجوه، وقد علم - رضي الله عنه - بإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم له أنه من أهل الجنة، ولا يمنعه من دخولها إلا أن يموت ويفارق الدنيا. "فَأَخْرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ - أي الوعاء الذي يحمل فيه الزاد- فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ، ثُمَّ قَالَ: لَئِنْ أَنَا حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هَذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ"، لئن عشت دقيقة أو اثنين أو ثلاث دقائق آكل فيها تمراتي هذه إنها لحياة طويلة، لقد كان عمير بالفعل يعيش في الجنة، ولم يكن - رضي الله عنه - ليتكلف هذا الأمر أو هذا الكلام، إنه بالفعل صادق في كل ما يقوله، وهو يعلم أنه بمجرد موته سيكون قبره روضة من رياض الجنة، ثم يكون النعيم الكبير، والدائم في جنة الخلد، قَالَ: «فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى قُتِلَ»، نال رضي الله عنه الأمنية التي كان يتمناها، في حين نرى الكثير من الناس يتمنى أن يكتب له عمر ثانٍ، ويتمنى أن يعيش السنين الطوال، ويطول الأمل، أما عمير رضي الله عنه، فكان يتمنى صادقًا أن يموت، وقد صدق الله فصدقه الله.

 

وفي بيعة العقبة الأولى كان إيمان الصحابة بالجنة عجبًا، ففي مسند الإمام أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كُنْتُ فِيمَنْ حَضَرَ الْعَقَبَةَ الْأُولَى، وَكُنَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا، فَبَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى بَيْعَةِ النِّسَاءِ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُفْتَرَضَ الْحَرْبُ -أي قبل أن يُفرَضَ الجِهَادُ- عَلَى أَنْ لَا نُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا نَسْرِقَ، وَلَا نَزْنِيَ، وَلَا نَقْتُلَ أَوْلَادَنَا، وَلَا نَأْتِيَ بِبُهْتَانٍ نَفْتَرِيهِ بَيْنَ أَيْدِينَا، وَأَرْجُلِنَا وَلَا نَعْصِيَهُ فِي مَعْرُوفٍ"، هذه ستة شروط يشترطها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وهم في بداية إسلامهم، فما هو الثمن إذًا؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فَإِنْ وَفَّيْتُمْ فَلَكُمْ الْجَنَّةُ، وَإِنْ غَشِيتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَأَمْرُكُمْ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَكُمْ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَكُمْ»، ومع كل هذه الشروط الصعبة لم يتخلف أحد منهم عن الوفاء بكل هذه الشروط، ذلك لأن الثمن هو الجنة.

 

أما بيعة العقبة الثانية، فكانت أصعب من الأولى، ففي مسند الإمام أحمد عن جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قال: "قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلَامَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «تُبَايِعُونِي»، ونعرض عناصر هذه البيعة بشيءٍ من التفصيل:

 

أولًا: «عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ». لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم أن هؤلاء الذين يبايعونه هم من تُبنى عليهم الأمة، وهم من سيحملون لواء الدعوة، فبيّن لهم صلى الله عليه وسلم في وضوح تام ما يجب عليهم من تبعات عظيمة أولها السمع والطاعة، ليس هذا فحسب، بل السمع والطاعة في النشاط والكسل، فمن استطاع أن يسمع ويطيع في النشاط والكسل، كان جديرًا بحمل الراية، وعلى هذا ربّى النبي صلى الله عليه وسلم الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.

 

ثانيًا: «وَعَلَى النَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ». الإنفاق حال اليسر لا بأس به، أما الإنفاق حال العسر والحاجة والفقر، فشيءٌ صعب، لكن النبي صلى الله عليه وسلم اشترط ذلك عليهم أيضًا.

 

ثالثُا: «وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ». وهذا الأمر أيضًا من الأمور الصعبة على النفوس.

 

رابعًا: «وَعَلَى أَنْ تَقُولُوا- وفي رواية: وعلى أن تقوموا- فِي اللَّهِ لَا تَأْخُذُكُمْ فِيهِ لَوْمَةُ لَائِمٍ». أيضًا هذا الشرط في منتهى الصعوبة، فكم تكون المواجهة شديدة أمام الدعاة! لكن على كل حال لا يكون هذا مبررًا لأن يقف الدعاة عن العمل لله والدعوة إليه.

 

خامسًا: «وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي إِذَا قَدِمْتُ يَثْرِبَ، فَتَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ».

 

فهذه هي الشروط الخمسة، في منتهى الصعوبة، وهذا لأن الإسلام دين يحتاج إلى مجهود عظيم، وتضحية كبيرة، يحتاج إلى من يريد أن يدفع لا إلى من يريد أن يأخذ، يحتاج إلى من يريد أن يأخذ أجره في الآخرة فقط، ولا يريد شيئًا من حطام الدنيا، بعد كل هذه الشروط والصعوبات الكبيرة، ما هو الأجر؟ وما هو المقابل لكل هذا؟ ما هو الثمن إذا صرفنا حياتنا لله؟ وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة واحدة فقط: «وَلَكُمُ الْجَنَّةُ»، الشروط أكثر من أربعين كلمة، والثمن كلمة واحدة: «الْجَنَّةُ»، ومع هذا كله، فإن من يفِ بهذه الشروط هو الرابح، وإذا عرفت معنى الجنة وقيمتها لن تستكثر ما تدفع من ثمن مهما قدمت، وستكون بلا شك رابحًا.

 

يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: «فَقُمْنَا نُبَايِعُهُ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ أَصْغَرُ السَّبْعِينَ، فَقَالَ: رُوَيْدًا، يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، إِنَّا لَمْ نَضْرِبْ إِلَيْهِ أَكْبَادَ الْمَطِيِّ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، إِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنْ تَعَضَّكُمْ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى السُّيُوفِ إِذَا مَسَّتْكُمْ، وَعَلَى قَتْلِ خِيَارِكُمْ، وَعَلَى مُفَارَقَةِ الْعَرَبِ كَافَّةً، فَخُذُوهُ وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ خِيفَةً، فَذَرُوهُ فَهُوَ أَعْذَرُ عِنْدَ اللَّهِ، قَالُوا: يَا أَسْعَدُ بْنَ زُرَارَةَ، أَمِطْ عَنَّا يَدَكَ، فَوَاللَّهِ لَا نَذَرُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ، وَلَا نَسْتَقِيلُهَا، فَقُمْنَا إِلَيْهِ رَجُلًا رَجُلًا يَأْخُذُ عَلَيْنَا بِشُرْطَةِ الْعَبَّاسِ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ».

 

ومع أنهم رضي الله عنهم وأرضاهم جميعًا في مرحلة الطفولة في الإسلام، فمنهم من أسلم منذ يوم واحد فقط، ومنهم من أسلم منذ يومين، ومنهم من أسلم منذ شهر، أو شهرين، وأقدمهم إسلامًا من أسلم منذ سنتين، وهم الستة الأوائل من الخزرج، ومع هذا، فكان لديهم من وضوح الرؤية، وعمق الفهم ما ارتفع بهم إلى هذه المنزلة السامية العالية، فهذا هو جيل الصحابة، وهذه هي قيمة الجنة عندهم.

 

أيها المؤمنون:

 

 

نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.

آخر تعديل علىالإثنين, 10 تموز/يوليو 2023

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع