- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول
المتكلمون أوجبوا على الله العدل كما يتصوره الإنسان،
وأوجبوا عليه أن يعمل ما هو الأصلح (ح 71)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وآله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين، واجعلنا معهم، واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين. أما بعد:
أيها المؤمنون:
أحبّتنا الكرام:
السَّلَامُ عَلَيكُمْ وَرَحْـمَةُ اللهِ وبركاتُه، وَبَعْد: نُواصِلُ مَعَكُمْ حَلْقَاتِ كِتَابِنَا: "وقفات تأملية مع كتاب الشخصية الإسلامية - الجزء الأول". وَمَعَ الحَلْقَةِ الحادية والسَّبعينَ، وَهِيَ بِعُنْوَانِ: "المتكلمون أوجبوا على الله العدل كما يتصوره الإنسان، وأوجبوا عليه أن يعمل ما هو الأصلح".
يقول الشيخ تقي الدين النبهاني - رحمه الله -: " إن المتكلمين خرجوا على الواقع المحسوس، وتجاوزوه إلى غير المحسوس فهم بحثوا فيما وراء الطبيعة، في ذات الله وفي صفاته، فيما لم يصل إليه الحس، وشبكوا ذلك مع الأبحاث المتعلقة بالمحسوس، وأفرطوا في قياس الغائب على الشاهد، أعني في قياس الله على الإنسان، فأوجبوا على الله العدل كما يتصوره الإنسان في الدنيا وأوجبوا على الله أن يعمل ما فيه الصلاح بل أوجب بعضهم على الله أن يعمل ما هو الأصلح لأن الله حكيم ولا يفعل فعلاً إلا لغرض أو حكمة، والفعل من غير غرض سفه وعبث، والحكيم إما أن ينتفع هو وإما أن ينفع غيره، ولما تقدس الله تعالى عن الانتفاع تعين أنه إنما يفعل لينفع غيره... وهكذا مما جعلهم يخوضون في أبحاث ليست مما يقع عليه الحس، وليست مما يمكن الحكم عليها بواسطة العقل، فوقعوا فيما وقعوا فيه. وفاتهم أن المحسوس مدرك وأن ذات الله غير مدركة فلا يمكن أن يقاس أحدهما على الآخر، ولم يفطنوا إلى أن عدل الله لا يصح أن يقاس على عدل الإنسان، ولا يجوز إخضاع الله لقوانين هذا العالم، وهو الذي خلق العالم، وهو الذي يُديره حسب هذه القوانين التي جعلها له. وإذا كنا نرى أن الإنسان إذا ضاق نظره يفهم العدل فهمًا ضيقًا، ويحكم على الأشياء حكمًا معينًا، فإذا اتسع نظره تغيرت نظرته إلى العدل، وتغير حكمه فكيف نقيس رب العالمين الذي يحيط علمه بكل شيء فنعطي عدله المعنى الذي نراه نحن للعدل؟".
ونقول راجين من الله عفوه ومغفرته ورضوانه وجنته: كتب الأستاذ الفاضل أبو مالك ثائر سلامة - حفظه الله - مقالة بعنوان: "عدل الله، تأملات في مناظرة رائعة" أنقل لكم ما جاء فيها - بتصرف يسير - يقول:
قابلت شابًا ولد، ونشأ في كندا، مقبلا على الإسلام، وسألني فقال: نحن لم نُسْتَشَرْ في أن نُقدِمَ على هذه الدنيا، ونخضع لامتحان رهيب فيها، نتيجته إما جنةٌ عرضها السموات والأرض، وإما نارٌ تلظَّى!! ولو كان لي الخيار لربما رفضت دخول الامتحان أصلًا؛ لأني لا أعلم ما يكون مني من إيمان؛ فأدخل الجنة، أو ما عليَّ من كفر؛ فأدخل النار!!
ذكرني سؤاله بقصة، تُدْرَسُ في إطار مسألة أخرى، لكنها تصلح تمامًا للإجابة على سؤاله!
في تفسير القرآن العظيم تصنيف الشيخ فخر الدين الرازي في سورة الأنعام: أن الإمام أبا الحسن الأشعري لما فارق مجلس الأستاذ أبي علي الجبائي، وترك مذهبه، وكثر اعتراضه على أقاويله عظمت الوحشة بينهما، فاتفق يومًا أن الجبائي عقد مجلس التذكير، وحضر عنده عالمٌ من الناس، فذهب الأشعريُّ إلى ذلك المجلس، وجلس في بعض النواحي مُختفيا عن الجبائي، وقال لبعض من حضره من النساء: أنا أعلمكِ مسألة فاذكريها لهذا الشيخ، ثم علَّمها سؤالا بعد سؤال، فقالت: أيها الشيخ، ما قولك في ثلاثة: مؤمن، وكافر، وصبي؟
فقال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.
فقالت المرأة: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟
قال الجبائي: لا، يقال له: إن المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثله.
فقالت: فإن قال: التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن.
قال الجبائي: يقول له الله: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت، وعوقبت، فراعيت مصلحتك، وأَمَتُّكَ قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.
قالت: فلو قال الكافر: يا ربُّ، علمتَ حالَهُ كما عَلِمْتَ حالي، فهَلَّا راعيت مصلحتي مثله؟ فانقطع الجبائي عن الإجابة، ولم يُجِبْ!!
تذكر هذه الحادثة في مجال الرد على المعتزلة في قولهم: إن الله تعالى يتوجب عليه أن يختار الأصلح لعباده، وليست هذه مسألتنا هنا، فلن نخوض فيها، ولكني أذكرها هنا لأبين لكم مسألة أخرى تظهر جلية من هذه المسألة، وهي ما أجبت به السائل آنفا!
وهي أن الله تعالى وهو الحَكَمُ العَدْلُ، القائمُ بِالقسط، الرحيمُ بعباده، إذ يُقارَنُ عدلُهُ في صبي مات، ولم يستحقَّ عذابًا، وكان في هذا عدلًا مقارنة بتعذيب مُجرمٍ بالنار، فهما متكافئان في الاشتراك بأسباب النجاة، ويسرها عليهما، وتمكنهما من الأخذ بها سواء، إننا حين ننظر في أسباب النجاة والعقاب، ونركز النظر عليها، تُحَلُّ لَدينا الإشكالية بسهولة.
فإن الله تعالى لا يعذب حتى يبعث رسولًا، نذيرًا ببلاغ مبين بما تحويه هذه الجملة من معان تامة، بلاغ مبينٍ، واضح لا لبس فيه، حُجَّة بالغة، ونذارة تامة فيها مكاشفةٌ تامةٌ عن المصائر، ويسبقها أن يمد الله تعالى الإنسان بأعظم آلة في الكون، ألا وهي العقل، بما فيه من قدرات خارقة على الربط، والتفكير والتحليل، وما يحتاجه من أدوات استكشاف كالأسماع، والأبصار، والإحساس.
فالعقل الحجة الأولى على الخلق، ثم تأتي الحجة الثانية على الخلق بأن يمتلك النبي معجزة خارقة لقوانين الكون، تفرض نفسها على السامع، والقارئ فرضًا فلا يجد بُدًّا من أن يراها علامة واضحة على صدق النبي في رسالته!!
وبعد هذه المعجزة الخارقة تأتي الحجة الثالثة الدامغة متمثلة بأدلة تملأ جنبات الإنسان، وتملأ أرجاء الكون، لا مجال فيها لنقض ولا حيرة ولا شك، كون منظم لا فوضى فيه، مضبوط كأدق ساعة: فالعالِمُ يجد من الأدلة ما يناسب أبحاثه، وعقله، وتفكيره، ونظره، والأديب يجد كذلك إذ ينظر في بلاغة القرآن ونظمه، والطبيب يجد كذلك، إذ يرى أنسجة جسم الإنسان وأجهزته، ولقد خضع أكبر ملحد في القرن العشرين "أنتوني فلو" لمعجزة حامض ما يسمى بـ (الدي أن إيه) ولم يملك منها فرارًا بالتسليم باستحالة أن تكون إلا من صنع خالق، قدير، حكيم!! والفلاح إذ ينظر في البذرة، والأرض، والثمرة والمطر ودورته، وكل إنسان يرى في جنبيه من الآيات ما لا مجال لرده بأنه مخلوق لخالق عظيم كريم.
ثم تأتي الحجة الرابعة، فقد أتبع الله تعالى العقلَ، والمعجزةَ، والأدلةَ بالدين نفسه بكتاب حكيم، فيه فصل الخطاب، وفيه عقيدة تطمئن لها العقول، وتستبشر بها القلوب، قولًا فصلًا، حكيمًا، موافقا للفطرة، ثم انبثق عنه نظام حياة يضمن السعادة، والرفاهية، والطمأنينة، والعدالة، والقيام بالقسط للناس، فهذه الأسباب الأربعة: العقل، والمعجزة، والآيات، والدين نفسه بشقيه: العقدي، والتشريعي حجة واضحة لا لبس فيها على الناس جميعًا!! وهي من البساطة، والوضوح، والقوة في الدلالة بمثابة أنها لو عرضت على أي عاقلٍ خالٍ من المعوقات الناشئة عن زخرف الأهواء، وضلالة الرغبة في الإعراض عن الحق، أو الإعراض بالكلية عن محاولة التفكير، والإخلاد للأرض أو الركض وراء المال بطرق غير مشروعة، وغير ذلك من الأسباب التي تتسبب في إعراض الكافر عن النظر في هذه الآيات البينات الواضحات التي هي حجة دامغة واضحة لما وسعه إلا أن يتبعها، وهي من السهولة كما لو أنها عرضت على صبي لم يبلغ سن التكليف، فقبلها فنجا من العقاب!! وهي بالسهولة، والبلاغة نفسها بالنسبة لذلك الشقي الذي اختار الإعراض عنها مع ما فيها من بيان مبين، وحجة قائمة لا يمكن لعاقل أن يدفعها لشدة سهولها ووضوحها!
وأما الكافر فتلك الحجة أمامه بنفس الوضوح، ولديه نفس القابلية للنظر من عقل تام، وليس بينه وبين تلك الحجج أي معوقات جبرية تحمله على الكفر، إنما قام بذلك بمحض اختياره، فاستحق العذاب التام؛ لذلك فالعدل تام متحقق، فقد كان الذي أعرض عنه بمنزلة مشابهة تمامًا للصبي، ليس فيها تعقيد يبعده، ولا باطل يصرفه، وإنما هي شقوته التي هو السبب فيها، قال تعالى: (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي)
نعم، تبين الرشد من الغي لدرجة أن لا حاجة للإكراه على قبول الدين لشدة وضوحه، وتبينه، وانفصاله عن الغي، ومبالغته في صفة الرشد، أي أن أي حمل على الاتباع لا حاجة له؛ لأنه حق بالغ الوضوح، وإنما الغرابة في الإعراض عنه، لذلك، فمن دخل هذا الامتحان، فقد وجد أنه قد زوده الله تعالى بكل أسباب النجاح سهلة ميسرة: العقل، والمعجزة، والأدلة، ومنهاج الحياة، فهو امتحان في كتاب مفتوح لا مغاليق فيه!!
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة، مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِمًا، نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ، سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام، وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا، وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه، وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ فِي القَريبِ العَاجِلِ، وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها، إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم ، وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.