- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
- حجم الخط تصغير حجم الخط زيادة حجم الخط
بسم الله الرحمن الرحيم
بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام
(ح 123) مشروع الدستور - الأصلُ بَراءَةُ الذمة
الحَمْدُ للهِ ذِي الطَّولِ وَالإِنْعَامْ, وَالفَضْلِ وَالإِكرَامْ, وَالرُّكْنِ الَّذِي لا يُضَامْ, وَالعِزَّةِ الَّتِي لا تُرَامْ, والصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ خَيرِ الأنَامِ, خَاتَمِ الرُّسُلِ العِظَامْ, وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَأتبَاعِهِ الكِرَامْ, الَّذِينَ طَبَّقُوا نِظَامَ الإِسلامْ, وَالتَزَمُوا بِأحْكَامِهِ أيَّمَا التِزَامْ, فَاجْعَلْنَا اللَّهُمَّ مَعَهُمْ, وَاحشُرْنا فِي زُمرَتِهِمْ, وثَبِّتنَا إِلَى أنْ نَلقَاكَ يَومَ تَزِلُّ الأقدَامُ يَومَ الزِّحَامْ.
أيها المؤمنون:
السَّلامُ عَلَيكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ وَبَعدُ: نُتَابِعُ مَعَكُمْ سِلْسِلَةَ حَلْقَاتِ كِتَابِنا "بلوغ المرام من كتاب نظام الإسلام" وَمَعَ الحَلْقَةِ الثَّالِثَةِ وَالعِشْرِينَ بَعدَ الـمَائَةِ, وَعُنوَانُهَا: "مَشرُوعُ الدُّستُورِ - الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ". نَتَأمَّلُ فِيهَا مَا جَاءَ فِي الصَّفحَةِ الرَّابِعَةِ وَالتِّسعِينَ مِنْ كِتَابِ "نظامُ الإسلام" لِلعَالِمِ والـمُفَكِّرِ السِّيَاسِيِّ الشَّيخِ تَقِيِّ الدِّينِ النَّبهَانِيِّ. يَقُولُ رَحِمَهُ اللهُ:
المادة 13- الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَلَا يَعَاقَبُ أَحَدٌ إِلَّا بِحُكْمِ مَحْكَمَةٍ، وَلَا يَجُوزُ تَعذِيبُ أَحَدٍ مُطْلَقاً، وَكُلُّ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُعَاقَبُ.
وَنَقُولُ رَاجِينَ مِنَ اللهِ عَفْوَهُ وَمَغْفِرَتَهُ وَرِضْوَانَهُ وَجَنَّتَهُ: أعَدَّ الشَّيخُ تَقِيُّ الدِّينِ النَّبهَانِيُّ هُوَ وَإِخوَانُهُ العُلَمَاءُ فِي حِزْبِ التَّحرِيرِ دُستُورَ الدَوْلَةِ الإِسْلامِيَّةِ حَتَّى يَدرُسَهُ الـمُسلِمُونَ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لإِقَامَتِهَا, وَهَا هُوَ يُوَاصِلُ عَرْضَهُ عَلَيهِمْ, وَهَذِهِ هي الـمَادَّةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ. وَإِلَيكُمْ بَيَانَ أَدِلَّةِ هَذِهِ الـمَادَّةِ مِنْ كِتَابِ مَقَدِّمَةِ الدُّستُورِ:
تَتَضَمَّنُ هَذِهِ الـمَادَّةُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ: أَحَدُهَا قَاعِدَةُ: "الأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ، وَالثَّانِي: عَدَمُ إِيقَاعِ العُقُوبَةِ إِلَّا بِحُكْمِ قَاضٍ، وَالثَّالِثُ عَدَمُ جَوَازِ التَّعذِيبِ.
أما الأمر الأول: فَدَلِيلُهُ مَا رُوِيَ عَنْ وَائِلِ بْنِ حَجَرَ قَالَ: «جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ إِلَى النَّبِيِّ r، فَقَالَ الْحَضْرَمِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ لِي كَانَتْ لأَبِي، فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ فِيهَا حَقٌّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ r لِلْحَضْرَمِيِّ: أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: فَلَكَ يَمِينُهُ، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الرَّجُلَ فَاجِرٌ لا يُبَالِي عَلَى مَا حَلَفَ عَلَيْهِ وَلَيْسَ يَتَوَرَّعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ: لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلَّا ذَلِكَ». أَخرَجَهُ مُسلِمُ. وَقَالَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «البَيِّنَةُ عَلَى الـمُدَّعِي، وَاليَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ». أَخرَجَهُ البَيهَقِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
فَفِي الحَدِيثِ الأَوَّلِ كَلَّفَ الرَّسُولُ rالـمُدَّعِيَ بِالبَيِّنَةِ، وَهَذَا يَعنِي أَنَّ الـمُدَّعَى عَلَيهِ بَرِيءٌ حَتَّى تَثْبُتَ إِدَانَتُهُ، وَفِي الحَدِيثِ الثَّانِي بَيَّنَ رَسُولُ اللهِ r أَنَّ الأَصْلَ فِي وُجُوبِ البَيِّنَةِ إِنَّما هُوَ عَلَى الـمُدَّعِي، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الـمُدَّعَى عَلَيهِ بَرِيءٌ حَتَّى تَثبُتَ إِدَانَتُهُ.
وأما الأمر الثاني: فَإِنَّ دَلِيلَهُ قَولُ الرَّسُولِ r: «... مَنْ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنْهُ، وَمَنْ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْراً فَهَذَا ظَهْرِي فَلْيَقْتَصَّ مِنْهُ ...» أَخرَجَهُ أَبُو يَعْلَى عَنِ الفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ الهيثَمِيُّ: وَفِي إِسنَادِ أَبِي يَعْلَى عَطَاءُ بْنُ مُسلِمٍ. وَثَّقَهُ ابنُ حِبَّانَ وَغيرُهُ, وَضَعَّفَهُ آخَرُونَ, وَبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وَوَرَدَ فِي الـمُعْجَمِ الأَوسَطِ لِلطَّبَرَانِيِّ بِلَفْظ: "فَمَنْ كنتُ جَلَدْتُ لَهُ ظَهْراً فَهذا ظَهري فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ, وَمَنْ كنتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضاً فَهذا عِرْضي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ, ومَنْ كنتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً فَهَذَا مَالِي فَلْيَسْتَقِدْ مِنْهُ". وَفِي البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ لابْنِ كَثِيرٍ بِلَفْظِ "أَلَا فَمَنْ كنتُ جَلَدْتُ له ظَهراً فهذا ظهري فَلْيَسْتَقِدْ مِنهُ, وَمَنْ كُنتُ أَخَذْتُ لَهُ مَالاً فَهَذَا مَالِي فَلْيَأْخُذْ مِنهُ, وَمَنْ كُنتُ شَتَمْتُ لَهُ عِرْضاً, فِهِذاِ عِرْضي فِليِستَقِدْ مِنْهُ". وَقَدْ قَالَ الرَّسُولُ r ذَلِكَ وَهُوَ حَاكِمٌ، وَهُوَ يَعنِي مَنْ عَاقَبتُهُ دُونَ حَقٍّ فَليَقْتَصَّ مِنِّي، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى تَحرِيمِ أَنْ يُعَاقِبَ الحَاكِمُ أَحَداً مِنَ الرَّعِيَّةِ مِنْ غَيرِ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيهِ ارتِكَابُ ذَنْبٍ يَستَحِقُّ عَلَيهِ هَذِهِ العُقُوبَةَ. وَأَيضاً فَفِي قِصَّةِ الـمُلَاعَنَةِ قَالَ النَّبِيُّ r : «لَوْ كُنْتُ رَاجِماً أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا» مُتَّفَقٌ عَلَيهِ, وَاللَّفْظُ لِمُسلِمُ، وَهَذَا يَعنِي أَنَّهُ لَـمْ يَرْجُمْهَا لِعَدَمِ وُجُودِ بَيِّنَةٍ مَعَ وُجُودِ شُبهَةٍ فِيهَا. بِدَلِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ اللَّذَيْنِ لَاعَنَ الرَّسُولُ r بَينَهُمَا حِيثُ جَاءَ مَا نَصُّهُ: "فَقَالَ رَجُلٌ لابْنِ عَبَّاسٍ فِي الـمَجْلِسِ: أَهِيَ الَّتِي قَالَ رَسُولُ اللهِ r: لَوْ كُنْتُ رَاجِماً أَحَداً بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ لَرَجَمْتُهَا؟ فَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ: لَا، تِلْكَ امرَأَةٌ كَانَتْ تُظهِرُ فِي الإِسلَامِ السُّوءَ" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ، أَيْ كَانَتْ تُعْلِنُ بِالفَاحِشَةِ، وَلَكِنَّهُ لَـمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ عَلَيهَا بِبَيِّنَةٍ وَلَا اعتِرَافٍ. وَهَذَا يَعنِي أَنَّ شُبهَةَ الزِّنَا كَانَتْ مَوجُودَةً عَلَيهَا، وَمَعَ ذَلِكَ لَـمْ يَرجُمْهَا الرَّسُولُ r لِأَنَّهُ لَـمْ يَثْبُتْ عَلَيهَا فَقَالَ: «لَوْ كُنْتُ رَاجِماً أَحَداً بِغَـيْرِ بَـيِّـنَةٍ لَرَجَمْـتُهَا» وَ"لَو" حَرْفُ امتِنَاعٍ لِامتِنَاعٍ؛ فَامتَنَعَ الرَّجْمُ لامتِنَاعِ البَيِّنَةِ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الحَاكِمَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوقِعَ عُقُوبَةً عَلَى أَحَدٍ مِنَ الرَّعِيَّةِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَرتَكِبَ ذَنْباً نَصَّ الشَّرعُ عَلَى أَنَّهُ ذَنْبٌ، وَبَعْدَ أَنْ يَثبُتَ ارتِكَابُهُ هَذَا الذَّنبَ أَمَامَ قَاضٍ لَهُ صَلَاحِيَةُ القَضَاءِ فِي مَجْلِسِ قَضَاءٍ؛ لأَنَّ الَبَيِّنَةَ لَا تُعتَبَرُ بَيِّنَةً إِلَّا إِذَا كَانَتْ أَمَامَ قَاضِ لَهُ صَلَاحِيَةُ القَضَاءِ وَفِي مَجْلِسِ قَضَاءٍ. إِلَّا أَنَّ لِلحَاكِمِ أَنْ يَحْبِسَ الـمُتَّهَمَ بِذَنْبٍ قَبلَ ثُبُوتِ التُّهمَةِ رَيثَمَا يُقَدَّمُ لِلمُحَاكَمَةِ لِلبَتِّ فِي أَمْرِ التُّهْمَةِ، غَيرَ أَنَّ هَذَا الحَبْسَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُدَّةً مُحَدَّدَةً, وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَحبِسَهُ مِنْ غَيرِ تَحْدِيدِ مُدَّةٍ، وَأَنْ تَكُونَ هَذِهِ الـمُدَّةُ قَصِيرَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ حَبْسِ الـمُتَّهَمِ مَا أَخرَجَهُ التِّرمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَأَخرَجَهُ أَحمَدُ أَيضاً، وَقَالَ الحَاكِمُ عَنِ الحَدِيثِ صَحِيحُ الإِسنَادِ مِنْ حَدِيثِ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ r حَبَسَ رَجُلاً فِي تُهْمَةٍ، ثُمَّ خَلَّى عَنْهُ». وَأَخرَجَ الحَاكِمُ كَذَلِكَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ وَفِيهِ: «أَنَّ النَّبِيَّ r حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ يَوْماً وَلَيْلَةً»، وَمَعَ أَنَّ فِي سَنَدِهِ إِبرَاهِيمَ بْنَ خَيثَمَ، وَفِيهِ مَقَالٌ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِلحَدِيثِ عِنْدَ البَيهَقِيِّ فِي الكُبْرَى وَابنِ الجَارُودِ فِي الـمُنتَقَى عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ بْنِ مُعَاوِيَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ: "أنَّ النَّبيَّ r حَبَسَ رَجُلاً في تُهْمَةٍ ساعةً مِنْ نَهارٍ ثُمَّ خَلَّى عنه".وَكُلُّ هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحدِيدِ الـمُدَّةِ فِي هَذَا الحَبْسِ، وَأَنْ تَكُونَ أَقَلَّ مُدَّةٍ مُمكِنَةٍ، لِأَنَّ الرَّسُولَ r حَبَسَهُ ثُمَّ خَلَّى عَنهُ، وَأَنِّهُ حَبَسَهُ يَوماً وَلَيلَةً، وَأَنَّهُ حَبَسَهُ سَاعةً مِنْ نَهَارٍ. عِلْماً بِأَنَّ هَذَا الحَبْسَ لَيسَ عُقَوبَةً, وَإِنَّما هُوَ حَبْسُ استِظْهَارٍ لِيَنكَشِفَ بِهِ بَعضُ مَا وَرَاءَهُ.
أيها المؤمنون:
نَكتَفي بِهذا القَدْرِ في هَذِه الحَلْقة, وَلِلحَدِيثِ بَقِيَّةٌ, مَوعِدُنَا مَعَكُمْ في الحَلْقةِ القادِمَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى, فَإِلَى ذَلِكَ الحِينِ وَإِلَى أَنْ نَلْقَاكُمْ وَدَائِماً, نَترُكُكُم في عنايةِ اللهِ وحفظِهِ وأمنِهِ, سَائِلِينَ الْمَولَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَن يُعزَّنا بِالإسلام, وَأنْ يُعزَّ الإسلام بِنَا, وَأن يُكرِمَنا بِنَصرِه, وَأن يُقِرَّ أعيُننَا بِقيَامِ دَولَةِ الخِلافَةِ الرَّاشِدَةِ الثَّانِيَةِ عَلَىْ مِنْهَاْجِ النُّبُوَّةِ في القَريبِ العَاجِلِ, وَأَن يَجعَلَنا مِن جُنُودِهَا وَشُهُودِهَا وَشُهَدَائِها, إنهُ وَليُّ ذلكَ وَالقَادِرُ عَلَيهِ. نَشكُرُكُم, وَالسَّلامُ عَليكُم وَرَحمَةُ اللهِ وَبَركَاتُه.