تأملات في كتاب من مقومات النفسية الإسلامية الحلقة الرابعة والستون
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على إمام المتقين, وسيد المرسلين, المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, واجعلنا معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المسلمون :
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نواصل تأملاتنا في كتاب: " من مقومات النفسية الإسلامية ". ومن أجل بناء الشخصية الإسلامية, مع العناية بالعقلية الإسلامية والنفسية الإسلامية, نقول وبالله التوفيق: موضوع حلقتنا لهذا اليوم هو: " الشوق إلى الجنة، واستباق الخيرات ". فإذا أدى العبد ما افترضه الله عليه، وأتبعها بالمندوبات وتقرب إلى الله بالنوافل تقرب الله منه وأحبه. ومن هذه المندوبات والنوافل :
سابع وعشرون: الستر على زلات المطيع الخاصة: وهذه قصة نسبت لأكثر من عالم قال: حدثني رجل عن عالم جليل كان قاضيا في دمشق، جاءته امرأتان، واحدة بينهما ذات وزن ثقيل، وثمة درج ينبغي صعوده قبل أن تصلا إليه, ودون أن تشعر صدر صوت مزعج من هذه المرأة، صوت قبيح، فذابت خجلا من القاضي، الذي سألها بسرعة: ما اسمك يا أختي؟ فذكرت له اسمها. قال: لم أسمع، ارفعي صوتك! فذكرت له اسمها مرة ثانية. قال: لم أسمع، ارفعيه أكثر, فقالت لأختها: الحمد لله لم يسمعنا!
وروي أيضا أن أحد خطباء دمشق، والقصة منذ خمسين سنة تقريبا، رأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: قل لجارك فلان: إنه رفيقي في الجنة, وكان جاره هذا بائعا فقيرا شديد الفقر، من جيران المسجد, طرق الخطيب باب الرجل، ففتح له ورحب به, فقال له: لك عندي بشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن أعلمك إياها إلا إذا أخبرتني ماذا فعلت مع ربك؟ فامتنع، فألح عليه، وأقسم فقال له: كنت خطبت امرأة وتزوجتها، وفي الشهر الخامس، كانت حاملا في الشهر التاسع، يعني أن الحمل لم يكن مني، زلت قدمها، وكان بإمكاني أن أفضحها، وأن أطلقها، لكن أردت أن أسترها، فلعلها تتوب على يدي، جئت لها بولادة، وولدت في الليل، وحملت الطفل الصغير الذي ليس مني تحت عباءتي، ودخلت جامعا في الحي، بعد أن نوى الإمام فريضة الفجر، فوضعت الغلام وراء الباب، والتحقت بالمصلين، ولم يرني أحد، فلما انتهت الصلاة تحلق الناس حول الغلام، ودهشوا، فجئت، وكأني لم أعلم ما الخبر، فهتفت في الناس: أنا أكفله، أعطوني إياه؛ فأنا مشتاق للولد فأخذته أمام أهل الحي على أنه لقيط، وتوليت تربيته، ورددته إلى أمه التي تابت بعد ذلك, وحسن حالها بفضل الله تعالى.
ومن قصص الستر ما رواه أحمد بن مهدي قال: جاءتني امرأة ببغداد، ليلة من الليالي، فذكرت أنها من بنات الناس، وقالت: أسألك بالله أن تسترني فقلت: وما محنتك؟ قالت: أكرهت على نفسي، وأنا الآن حامل، وقد توقعت فيك النجدة والشهامة والستر، فذكرت لكل من يعرفني أنك زوجي، وأن ما بي من حمل إنما هو منك، فأرجوك لا تفضحني، استرني سترك الله عز وجل. سمعت كلامها وسكت عنها، ثم مضت, وبعد فترة وضعت مولودا، ففوجئت بإمام المسجد يأتي إلى داري، ومعه مجموعة من الجيران يهنئونني، ويباركون لي بالمولود. فأظهرت لهم الفرح والتهلل، ودخلت حجرتي، وأتيت بمائة درهم، وأعطيتها للإمام قائلا: بشرك الله بالخير، أنت تعرف أنني قد طلقت تلك المرأة، غير أنني ملزم بالنفقة على المولود، وأرجوك أن تعطي هذه المائة للأم، كي تنفق على ابنها، وسوف أتكفل بمثلها مع مطلع كل شهر، وأنتم شهود على ذلك. واستمررت على هذا المنوال دون أن أرى المرأة ومولودها! وبعد ما يقارب من عامين توفي المولود، فجاءني الناس يعزونني، فأظهرت لهم التسليم بقضاء الله وقدره، ويعلم الله أن حزنا عظيما قد تملكني؛ لأنني تخيلت المصيبة التي حلت بتلك الأم المنكوبة. وإذا بباب داري يقرع، في ليلة من الليالي، فلما فتحت الباب، لأفاجأ بالمرأة ومعها صرة ممتلئة بالدراهم، وقالت لي وهي تبكي: هذه هي الدراهم التي كنت تبعثها لي كل شهر مع إمام المسجد، سترك الله كما سترتني. حاولت أن أرجعها لها، غير أنها رفضت، ومضت في حال سبيلها. وما هي إلا سنة وإذا بها تتزوج من رجل مقتدر وصاحب فضل، أشركني معه في تجارته, وفتح الله علي بعدها أبواب الرزق من حيث لا أحتسب.
وورد في وفيات الأعيان لابن خلكان أن الإمام أبا حنيفة النعمان بن ثابت رحمه الله كان له جار إسكافي يعمل نهاره، فإذا رجع إلى منزله ليلا تعشى ثم شرب الخمر، فإذا دب الشراب فيه أنشد يغني، متمثلا بقول الشاعر: أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغـر.
ولم يزل يشرب، ويردد هذا البيت حتى يأخذه النوم، وأبو حنيفة يسمع جلبته كل يوم ويصبر، وفي يوم كان أبو حنيفة يصلي بالليل كله، ففقد صوته، فسأل عنه، فقيل: أخذه العسس منذ ليال، فصلى أبو حنيفة الفجر من غده، ثم ركب بغلته وأتى دار الأمير، فاستأذن عليه، فقال: ائذنوا له، وأقبلوا به راكبا، ولا تدعوه ينزل حتى يطأ البساط؛ ففعل به ذلك، فوسع له الأمير من مجلسه، وقال له: ما حاجتك؟ فشفع في جاره فقال الأمير: أطلقوه وكل من أخذ في تلك الليلة إلى يومنا هذا؛ فأطلقوهم أيضا، فذهبوا. وركب أبو حنيفة بغلته، وخرج الإسكافي معه يمشي وراءه، فقال له أبو حنيفة: يا فتى هل أضعناك؟ فقال: بل حفظت ورعيت، فجزاك الله خيرا عن حرمة الجوار، ثم تاب، ولم يعد إلى ما كان يفعل!
أجل أيها المؤمنون, هذه هي الجنة أو الجنات التي أعدها الله جل في علاه لعباده المؤمنين, وهذه هي السبل الموصلة إليها, سقناها إليكم بشيء من التفصيل, فشمروا عن ساعد الجد, وكونوا من عباد الله الصالحين المخلصين, وجدوا واجتهدوا في طاعة الله ورسوله, وفي الصبر على المكاره, وتنافسوا في طلبها, فهي غالية وتستحق أن يضحى من أجلها بالغالي والنفيس. ولله در الشاعر حيث قال :
تريديـن إدراك المعالي رخيصـة ولا بد دون الشهد من إبر النحل
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
محمد احمد النادي