الأندلس الفردوس المفقود من الفتح إلى السقوط الحلقة الخامسة والعشرون عصر النهضة، وبداية الدولة العامرية
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
حياكم الله أحبتنا الكرام، يتجدد لقاؤنا وإياكم ومع سلسلة أحداث الأندلس
تحدثنا في الحلقة السابقة عن عبد الرحمن الناصر وأهم الإنجازات التي قام بها في عهده، واليوم سنتحدث عن ولاية ابنه الحكم بن عبد الرحمن الناصر، وفي عهده حدثت في بلاد الأندلس نهضة علمية غير مسبوقة؛ فقد تولى الحكم وهو يبلغ من العمر سبعا وأربعين سنة، وكان هو نفسه عالما من العلماء، ويكفي أنه لقب بعاشق الكتب.
أنشأ الحكم بن عبد الرحمن المكتبة الأموية، تلك التي تعد أعظم مكتبات العصور الوسطى على الإطلاق، وكانت تنافس مكتبة قرطبة ومكتبة بغداد، وقد دفع آلاف الدنانير لجلب أعظم الكتب إليها من كل مكان في العالم، وكان له عمال وظيفتهم الوحيدة هي جمع الكتب من مشارق الأرض ومغاربها من بلاد المسلمين ومن غير بلاد المسلمين، فإن جاء كتاب في الفلك أو الطب أو الهندسة أو غيرها من أي بلد غير إسلامي ترجم على الفور وضم إلى المكتبة الأموية.
كثر النسخ في عصره وكان وظيفة النساء في البيوت، واشتهرت نساء الأندلس بحسن الخط وجماله؛ حيث كان الرجال مشغولين بالجهاد ونشر العلم والبناء والمعمار وغيره، وكانت قد ازدهرت كثيرا في الأندلس صناعة الكتب والورق والتجليد والأحبار، الأمر الذي كان فيه باباوات إيطاليا يشترون الورق من الأندلس ليكتبوا عليه أناجيلهم، وكذلك كانت كل أوروبا تستورد الورق وغيره الكثير من بلاد الأندلس.
وسع الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله في المكتبة كثيرا، وجعل لها أروقة عظيمة حتى تستوعب كثرة الحضور من المسلمين، وأنشأ أيضا دارا لتعليم الفقراء بالمجان، وخصص المعونات والمكافآت لطلاب العلم، حتى انتشر التعليم بصورة ملفتة، واختفت الأمية تماما في هذا العهد السحيق- منذ أكثر من ألف عام - وأصبح كل أهل الأندلس يعرفون القراءة والكتابة.
أنشأ أيضا رحمه الله جامعة قرطبة، وقد كان العلماء قبل إنشائها يشتغلون بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها من الحرف اليدوية، إضافة إلى كونهم يتعلمون ويعلمون، لكن الحكم بن عبد الرحمن الناصر جعل وظيفة التدريس وظيفة خاصة قائمة بنفسها، فكان يجعلهم يفرغون للتدريس والتعليم فقط؛ وذلك حتى يستطيعوا أن يبدعوا فيه.
وسط هذه الأجواء العلمية، وهذا الاهتمام الكبير من قبل عاشق الكتب بالعلم والتعليم، ظنت ممالك أوروبا الشمالية وممالك الأندلس النصرانية الشمالية أن الحكم بن عبد الرحمن الناصر يهتم بالعلم على حساب الجهاد، وعلى خلاف عهدهم الذي كانوا قد أبرموه مع أبيه عبد الرحمن الناصر قاموا بمهاجمة مناطق الشمال، فما كان من الحكم إلا أن رد عليهم كيدهم في نحورهم، وهاجمهم بغزوات كغزوات أبيه، وانتصر عليهم رحمه الله في مواقع عدة، حتى رضوا بالجزية من جديد عن يد وهم صاغرون.
ومن منطلق إسلامي بحت بدأ عبد الرحمن الناصر رحمه الله في حرب الدولة الفاطمية في بلاد المغرب، كان الأندلسيون لا يملكون سوى مينائي سبتة وطنجة في عهد عبد الرحمن الناصر، وفي عهد الحكم بن عبد الرحمن الناصر كانت قد انضمت كل بلاد المغرب إلى الأندلس تحت حكم الخلافة الأموية.
بالرغم من أنه كان من أفضل الحكام المسلمين على الأندلس إلا أن الحكم بن عبد الرحمن الناصر في آخر عهده قد أخطأ خطأ جسيما، فقد أصيب في آخر أيامه بالفالج شلل فقام باستخلاف أكبر أولاده هشام بن الحكم وعمره آنذاك اثنتا عشرة سنة فقط، استخلفه على بلاد الأندلس وفوقها بلاد النصارى في الشمال ومن تحتها الدولة الفاطمية في الجنوب، وكل ممالك أوروبا تتشوق إلى الكيد بهذه القوة العظيمة وهزيمتها.
وهي بلا شك زلة خطيرة جدا من الحكم بن عبد الرحمن الناصر؛ إذ كان عليه أن ينتقي من يستخلفه لهذه المهمة الجسيمة، ويولي رجلا آخر من بني أمية أو من المسلمين، يستطيع أن يقوم بالأعباء الثقيلة لمهمة حكم دولة قوية، كثيرة الأعداء متسعة الأطراف، ومترامية الأبعاد كدولة الأندلس.
توفي الحكم بن عبد الرحمن الناصر رحمه الله سنة ست وستين وثلاثمائة من الهجرة، مستخلفا على الحكم ابنه الطفل الصغير هشام بن الحكم، وقد جعل عليه مجلس وصاية مكون من ثلاثة أشخاص
الأول الحاجب وهو جعفر بن عثمان المصحفي، والحاجب تعني الرجل الثاني في الدولة بعد الخليفة مباشرة، والثاني قائد الشرطة وهو محمد بن أبي عامر، وكان من اليمن. أما الثالث أم هشام بن الحكم، وكان اسمها صبح.
كان محمد بن أبي عامر يملك طموحات ضخمة وآمالا أطمعته في أن يكون واليا على هذه البلاد، ولتحقيق هذا الحلم قام بعدة مكائد غاية في الظلم والقسوة، حيث دبر مكيدة سجن فيها الحاجب جعفر بن عثمان المصحفي ثم قتله بعد ذلك،
ثم نظر إلى أمر أم هشام بن الحكم فوجد أن موقفها ضعيف جدا بالنسبة له كقائد شرطة فتركها في قصرها، ثم تقلد هو الأمور وحده، وبدأ يحكم بلاد الأندلس باسم الخليفة الصغير هشام بن الحكم.
وبعد ذلك أراد أن يقوي جانبه أكثر مما كان عليه، فتزوج من ابنة أمير الجيش غالب بن عبد الرحمن، وهو بذلك يكون قد حيد جانب أمير الجيش، وضمن ولاء الجيش الأندلسي له، وحين انتبه غالب بن عبد الرحمن أمير الجيش ووالد زوجته له وعلم نواياه وخطته وأفصح له عن ذلك، دبر محمد بن أبي عامر له مكيدة أيضا ثم قتله.
ولم يكتف محمد بن أبي عامر بذلك، فقد قام باستدعاء جعفر بن علي بن حمدون قائد الجيش الأندلسي في المغرب، استدعاه إليه وقربه منه، واستفاد كثيرا من قوته، ثم دبر له مكيدة أيضا فقتله، وكان كلما قتل شخصا عين آخر مكانه يعمل برأيه وبوصاية منه، وبذلك يكون قد تملك من كل الأمور في الأندلس.
وبنظرة طويلة إلى الأمام بدأ محمد بن أبي عامر يقنع الخليفة هشام بن الحكم بالاختفاء في قصره بعيدا عن العيون؛ وذلك- وكما يدعي له - خوفا عليه من المؤامرات، وأن على الخلفاء أن يتفرغوا للعبادة ويتركوا أمور الناس لرئاسة الوزراء أو لقوة الشرطة أو غيرهما، وهكذا أقنعه، وقام هو بإدارة دفة البلاد، وربي ونشأ هشام بن الحكم الطفل الصغير على هذا الفهم.
مرت السنوات ومحمد بن أبي عامر يتولى كل شيء في بلاد الأندلس، وهشام بن الحكم يكبر في السن لكنه لم يكن يعرف شيئا عن الحكم وتحمل المسؤولية، وفي سنة إحدى وسبعين وثلاثمائة، وبعد حوالي خمس سنوات من تولي هشام بن الحكم الأمور ووصاية محمد بن أبي عامر عليه، كان قد استتب لمحمد بن أبي عامر الأمر ولقب نفسه بالحاجب المنصور.
كان من عادة الخلفاء قبل ذلك أن يطلقوا على أنفسهم ألقابا تميزهم ويعرفون بها وعليها كانوا يؤملون، وذلك مثل الناصر بالله، الحاكم بأمر الله، المؤيد بالله، لكن هذه هي أول مرة يقوم فيها الوصي أو رئيس الوزراء أو الحاجب بأخذ لقب لنفسه وهو المنصور، الأمر الذي تطور كثيرا حتى أصبح يدعى له على المنابر مع الخليفة هشام بن الحكم، ثم نقش اسمه على النقود وعلى الكتب والرسائل.
وإتماما لذلك وكما أنشأ عبد الرحمن الناصر رحمه الله مدينة الزهراء في الشمال الغربي من مدينة قرطبة لتكون مركزا لخلافته، قام محمد بن أبي عامر بإنشاء مدينة جديدة في شرق قرطبة سماها مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية.
وإلى مدينة الزاهرة بدأ محمد بن أبي عامر ينقل الوزارات ودواوين الحكم، وأنشأ له قصرا كبيرا هناك، وبدأ يجمل فيها كثيرا، حتى أصبحت مدينة الزاهرة أو مدينة العامرية هي المدينة الأساسية في الأندلس وبها قصر الحكم.
بعد التمهيدات السابقة وفي الطريق نحو فترة جديدة وعهد جديد من تاريخ الأندلس عهد محمد بن أبي عامر بالحجابة من بعده لابنه عبد الملك بن المنصور، وكان المشهور والمتعارف عليه أن الخليفة وحده هو الذي يعهد بالخلافة من بعده. والتي وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بالملك العاض.
وتمهيدا لإقامة ملك على أنقاض بني أمية، قام في سنة ست وثمانين وثلاثمائة من الهجرة بتلقيب نفسه بلقب الملك الكريم، كل هذا وهشام بن الحكم الخليفة يكبر في السن، لكن ليس له من الأمر شيء.
قام محمد بن أبي عامر بعد ذلك بعمل خطير أدى- فيما بعد وعلى ما سنرى- إلى انقسامات كثيرة في بلاد الأندلس، فقد كان محمد بن أبي عامر يمنيا، واليمنيون في الأندلس ليسوا بكثرة، ولخشيته من الاستعانة بالقبائل المضرية وقبائل بني أمية معه في الجيش وبقية الأمور فكر أن يستعين بعنصر آخر وهم البربر، فبدأ يعظم من أمرهم ويرفع من شأنهم؛ حتى يضمن ولاءهم.
بدأ العامريون يكثرون في أماكن الحكم في بلاد الأندلس، وبدأ التاريخ يسجل لهم عهدا جديدا سماه الدولة العامرية والتي استمرت ثلاثا وثلاثين سنة متصلة، لكنها تعتبر داخلة في فترة الخلافة الأموية؛ لأن هشام بن الحكم الأموي لا زال هو الخليفة حتى وإن كان رمزا أو بعيدا عن مجريات الأمور.
كتبته للإذاعة : أم سدين