نداءات القرآن الكريم ح48 رسم استراتيجية المعارك ج1
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا). (النساء 71)
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الثالث والعشرين نتناول فيه الآية الكريمة الحادية والسبعين من سورة النساء التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا). نقول وبالله التوفيق:
يقول صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: "لقد كان القرآن يخوض المعركة بالجماعة المسلمة في ميادين كثيرة. وكان أولها ميدان النفس ضد الهواجس والوساوس وسوء التصور ورواسب الجاهلية، والضعف البشري - حتى ولو لم يكن صادرا عن نفاق أو انحراف - وكان يسوسها بمنهجه الرباني لتصل إلى مرتبة القوة، ثم إلى مرتبة التناسق في الصف المسلم، وهذه غاية أبعد وأطول أمدا، فالجماعة حين يوجد فيها الأقوياء كل القوة، لا يغنيها هذا، إذا وجدت اللبنات المخلخلة في الصف بكثرة، ولا بد من التناسق مع اختلاف المستويات، وهي تواجه المعارك الكبيرة. والآن نأخذ في مواجهة النصوص مواجهة تفصيلية: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم. فانفروا ثبات أو انفروا جميعا. وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن - كأن لم تكن بينكم وبينه مودة - يا ليتني كنت معهم، فأفوز فوزا عظيما). إنها الوصية للذين آمنوا: الوصية من القيادة العليا، التي ترسم لهم المنهج، وتبين لهم الطريق. وإن الإنسان ليعجب، وهو يراجع القرآن الكريم فيجد هذا الكتاب يرسم للمسلمين - بصفة عامة طبعا - الخطة العامة للمعركة وهي ما يعرف باسم "استراتيجية المعركة".
ففي الآية الأخرى يقول للذين آمنوا: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة). فيرسم الخطة العامة للحركة الإسلامية. وفي هذه الآية يقول للذين آمنوا: (خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا) وهي تبين ناحية من الخطة التنفيذية أو ما يسمى "التاكتيك". وفي سورة الأنفال جوانب كذلك في الآيات: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون). الآيات ... وهكذا نجد هذا الكتاب لا يعلم المسلمين العبادات والشعائر فحسب, ولا يعلمهم الآداب والأخلاق فحسب - كما يتصور الناس الدين ذلك التصور المسكين! إنما هو يأخذ حياتهم كلها جملة. ويعرض لكل ما تتعرض له حياة الناس من ملابسات واقعية، ومن ثم يطلب- بحق- الوصاية التامة على الحياة البشرية. ولا يقبل من الفرد المسلم ولا من المجتمع المسلم أقل من أن تكون حياته بجملتها من صنع هذا المنهج، وتحت تصرفه وتوجيهه. وعلى وجه التحديد لا يقبل من الفرد المسلم، ولا من المجتمع المسلم أن يجعل لحياته مناهج متعددة المصادر. إن مهمة التفكير البشري أن يستنبط من كتاب الله منهجه، أحكاما تفصيلية تطبيقية لأحداث الحياة المتجددة، وأقضيتها المتطورة - بالطريقة التي رسمها الله- ولا شيء وراء ذلك. وإلا فلا إيمان أصلا ولا إسلام، لا إيمان ابتداء ولا إسلام؛ لأن الذين يفعلون ذلك لم يدخلوا بعد في الإيمان، ولم يعترفوا بعد بأركان الإسلام، وفي أولها شهادة أن لا إله إلا الله، التي ينشأ منها أن لا حاكم إلا الله، وأن لا مشرع إلا الله. وها هو ذا كتاب الله يرسم للمسلمين جانبا من الخطة التنفيذية للمعركة المناسبة لموقفهم حينذاك. ولوجودهم بين العداوات الكثيرة في الخارج. والمنافقين وحلفائهم اليهود في الداخل.
وهو يحذرهم ابتداء: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم)... خذوا حذركم من عدوكم جميعا، وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين، الذين سيرد ذكرهم في الآية: (فانفروا ثبات أو انفروا جميعا). ثبات جمع ثبة: أي مجموعة, والمقصود: لا تخرجوا للجهاد فرادى، ولكن اخرجوا مجموعات صغيرة، أو الجيش كله - حسب طبيعة المعركة - ذلك أن الآحاد قد يتصيدهم الأعداء المبثوثون في كل مكان، وبخاصة إذا كان هؤلاء الأعداء منبثين في قلب المعسكر الإسلامي, وهم كانوا كذلك ممثلين في المنافقين، وفي اليهود، في قلب المدينة. (وإن منكم لمن ليبطئن. فإن أصابتكم مصيبة قال: قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما)... انفروا جماعات نظامية أو انفروا جميعا, ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم - كما هو واقع - وخذوا حذركم، لا من العدو الخارجي وحده ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين سواء أكانوا يبطئون أنفسهم - أي يقعدون متثاقلين - أو يبطئون غيرهم معهم وهو الذي يقع عادة من المخذلين المثبطين! ولفظة "ليبطئن" مختارة هنا بكل ما فيها من ثقل وتعثر, وإن اللسان ليتعثر في حروفها وجرسها، حتى يأتي على آخرها، وهو يشدها شدا, وإنها لتصور الحركة النفسية المصاحبة لها تصويرا كاملا بهذا التعثر والتثاقل في جرسها. وذلك من بدائع التصوير الفني في القرآن، الذي يرسم حالة كاملة بلفظة واحدة.
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة، موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى، فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما، نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه، سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام وأن يعز الإسلام بنا وأن يكرمنا بنصره وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها إنه ولي ذلك والقادر عليه نشكركم لحسن استماعكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي