نداءات القرآن الكريم ح58 الأمر بالوفاء بالعقود, وبيان ما يحل وما يحرم من الذبائح ج1
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود * أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد).
الحمد لله الذي أنزل القرآن رحمة للعالمين، ومنارا للسالكين، ومنهاجا للمؤمنين، وحجة على الخلق أجمعين. والصلاة والسلام على سيد المرسلين, وآله وصحبه الطيبين الطاهرين, والتابعين له بإحسان إلى يوم الدين, واجعلنا اللهم معهم, واحشرنا في زمرتهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد: في هذه الحلقة نصغي وإياكم إلى نداء من نداءات الحق جل وعلا للذين آمنوا, ومع النداء الثامن والعشرين نتناول فيه الآية الكريمة الأولى من سورة المائدة التي يقول فيها الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود * أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد)
أيها المؤمنون:
يقول صاحب الظلال سيد قطب رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة: إنه لا بد من ضوابط للحياة .. حياة المرء مع نفسه التي بين جنبيه, وحياته مع غيره من الناس ومن الأحياء والأشياء عامة .. الناس من الأقربين والأبعدين، من الأهل والعشيرة، ومن الجماعة والأمة, ومن الأصدقاء والأعداء .. والأحياء مما سخر الله للإنسان ومما لم يسخر .. والأشياء مما يحيط بالإنسان في هذا الكون العريض .. ثم .. حياته مع ربه ومولاه وعلاقته به وهي أساس كل حياة. والإسلام يقيم هذه الضوابط في حياة الناس. يقيمها ويحددها بدقة ووضوح, ويربطها كلها بالله سبحانه, ويكفل لها الاحترام الواجب، فلا تنتهك، ولا يستهزأ بها, ولا يكون الأمر فيها للأهواء والشهوات المتقلبة ولا للمصالح العارضة التي يراها فرد، أو تراها مجموعة أو تراها أمة، أو يراها جيل من الناس فيحطمون في سبيلها تلك الضوابط ..
فهذه الضوابط التي أقامها الله وحددها هي «المصلحة» ما دام أن الله هو الذي أقامها للناس .. هي المصلحة ولو رأى فرد ، أو رأت مجموعة أو رأت أمة من الناس أو جيل أن المصلحة غيرها! فالله يعلم والناس لا يعلمون! وما يقرره الله خير لهم مما يقررون! وأدنى مراتب الأدب مع الله سبحانه أن يتهم الإنسان تقديره الذاتي للمصلحة أمام تقدير الله. أما حقيقة الأدب فهي ألا يكون له تقدير إلا ما قدر الله. وألا يكون له مع تقدير الله، إلا الطاعة والقبول والاستسلام، مع الرضى والثقة والاطمئنان .. هذه الضوابط يسميها الله «العقود» .. ويأمر الذين آمنوا به أن يوفوا بهذه العقود ..
أيها المؤمنون:
وافتتاح هذه السورة بالأمر بالوفاء بالعقود، ثم المضي بعد هذا الافتتاح في بيان الحلال والحرام من الذبائح والمطاعم والمشارب والمناكح. وفي بيان الكثير من الأحكام الشرعية والتعبدية. وفي بيان حقيقة العقيدة الصحيحة. وفي بيان حقيقة العبودية وحقيقة الألوهية. وفي بيان علاقات الأمة المؤمنة بشتى الأمم والملل والنحل. وفي بيان تكاليف الأمة المؤمنة في القيام لله والشهادة بالقسط والوصاية على البشرية بكتابها المهيمن على كل الكتب قبلها، والحكم فيها بما أنزل الله كله والحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله والحذر من عدم العدل تأثرا بالمشاعر الشخصية والمودة والشنآن ..
أيها المؤمنون:
افتتاح السورة على هذا النحو، والمضي فيها على هذا النهج يعطي كلمة «العقود» معنى أوسع من المعنى الذي يتبادر إلى الذهن لأول وهلة. ويكشف عن أن المقصود بالعقود هو كل ضوابط الحياة التي قررها الله .. وفي أولها عقد الإيمان بالله ومعرفة حقيقة ألوهيته سبحانه، ومقتضى العبودية لألوهيته .. هذا العقد الذي تنبثق منه، وتقوم عليه سائر العقود وسائر الضوابط في الحياة. وعقد الإيمان بالله, والاعتراف بألوهيته وربوبيته وقوامته, ومقتضيات هذا الاعتراف من العبودية الكاملة، والالتزام الشامل والطاعة المطلقة والاستسلام العميق .. هذا العقد أخذه الله ابتداء على آدم عليه السلام وهو يسلمه مقاليد الخلافة في الأرض، بشرط وعقد هذا نصه القرآني: (قلنا: اهبطوا منها جميعا. فإما يأتينكم مني هدى، فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).. فهي خلافة مشروطة باتباع هدى الله الذي ينزله في كتبه على رسله وإلا فهي المخالفة لعقد الخلافة والتمليك. المخالفة التي تجعل كل عمل مخالف لما أنزل الله باطلا بطلانا أصليا غير قابل للتصحيح المستأنف! وتحتم على كل مؤمن بالله، يريد الوفاء بعقد الله، أن يرد هذا الباطل، ولا يعترف به ولا يقبل التعامل على أساسه. وإلا فما أوفى بعقد الله. ولقد تكرر هذا العقد- أو هذا العهد- مع ذرية آدم. وهم بعد في ظهور آبائهم. كما ورد في السورة الأخرى: (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم، وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم؟ قالوا: بلى شهدنا! أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين. أو تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم. أفتهلكنا بما فعل المبطلون؟) .. فهذا عقد آخر مع كل فرد, عقد يقرر الله سبحانه أنه أخذه على بني آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم .. وليس لنا أن نسأل: كيف؟ لأن الله أعلم بخلقه وأعلم كيف يخاطبهم في كل طور من أطوار حياتهم. بما يلزمهم الحجة. وهو يقول: إنه أخذ عليهم هذا العهد، على ربوبيته لهم .. فلا بد أن ذلك كان، كما قال الله سبحانه .. فإذا لم يفوا بتعاقدهم هذا مع ربهم لم يكونوا أوفياء!
أيها المؤمنون:
ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل يوم نتق الجبل فوقهم كأنه ظلة, وظنوا أنه واقع بهم .. وسنعلم من السياق كيف لم يفوا بالميثاق, وكيف نالهم من الله ما ينال كل من ينقض الميثاق. والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم قد تعاقدوا مع الله على يديه تعاقدا عاما «على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله». وبعضهم وقعت له بعد ذلك عقود خاصة قائمة على ذلك التعاقد العام .. ففي بيعة العقبة الثانية التي ترتبت عليها هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، كان هناك عقد مع نقباء الأنصار .. وفي الحديبية كان هناك عقد الشجرة وهو «بيعة الرضوان».
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا, وشفاء صدورنا, ونور أبصارنا, وجلاء أحزاننا, وذهاب همومنا وغمومنا. اللهم ذكرنا منه ما نسينا, وعلمنا منه ما جهلنا, وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار, على الوجه الذي يرضيك عنا, واجعله اللهم حجة لنا لا علينا.. آمين آمين آمين برحمتك يا أرحم الراحمين, والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
محمد أحمد النادي