التكنولوجيا.. هل هي تقنية تساعدنا أم جدران تحاصرنا!
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بعد الثورة التكنولوجية الهائلة أصبحت التكنولوجيا مدار اهتمام الأفراد على اختلاف أعمارهم وميولهم، بل إنها أصبحت هوساً للكثيرين ممن لا يستطيعون الاستغناء عنها لا في سفر ولا مرض ولا عمل ولا تحت أي ظرف مهما كان. فنراهم لا يفارقون هواتفهم النقالة، حتى أصبحت عندهم إدماناً أكثر منها وسيلة اتصال، مما أثر على العلاقات الأسرية مثل تقليل مدة الجلوس مع الأهل، وحتى إن جلسوا معهم فهم مجرد أجساد، فهم إما يحادثون أصدقاءهم أو يغردون في التويتر أو يتصفحون أحد المواقع أو يقرأون بريدهم الإلكتروني، ولهذا أثره الواضح على الترابط الأسري وبرودة العلاقات التي تسللت بوضوح إلى حياتنا الأسرية والعائلية، مما فتح المجال أمام ما يسمى بالتواصل الافتراضي بدل الحوار والمحادثة مما أوجد العزلة بين أفراد الأسرة الواحدة وساهم في توسيع الفجوة وأحيانا التنافر بينهم حتى أصبح الإنترنت مصدرا للمعلومات بدل الآباء، ففقدوا الترابط الأسري والحوار العائلي وأصبح حوارا مع غرباء في الفضاء الواسع!! وحتى في العلاقة مع بقية الأهل والأصدقاء فقد حرمت التكنولوجيا الكثيرين من الزيارات المتبادلة ومن تلك الحميمية والود المتبادل في الكثير من المناسبات، حيث أصبحنا نلاحظ بعد انتشار استخدام وسائل التكنولوجيا بأنواعها أن التهاني صارت كلمات تصل عبر الهواتف أو مواقع التواصل "الاجتماعي"، وليس كالسابق عندما كان يحرص الناس على تبادل التهاني بالزيارات أو حتى بالاتصال هاتفيا بالصوت، مما جعل مناسباتنا وعلاقاتنا خالية من المشاعر الدافئة والود الذي كان يظهر من خلال المحادثات واللقاءات والزيارات.
وبعد أن تحكمت التكنولوجيا بنا، صار الناس أكثر ميلا لنشر تفاصيل حياتهم، سواء على شكل صور أو معلومات شخصية على مواقع التواصل "الاجتماعي" يمكن للآخرين الاحتفاظ بها لأي غرض كان. يقول لي تاين المحامي في مؤسسة Electronic Frontier Foundation "التي تتخذ من كاليفورنيا مقرا لها: "لا بد من الاعتراف أن بعض الناس ينتقصون من خصوصيتهم بمحض إرادتهم"، ويشير تاين أنه لم تكن هناك من قبل سجلات محفوظة للاتصالات التي يقوم بها مستخدمو موقع جيميل للبريد الإلكتروني، بيد أنه في الوقت الحالي يمكن تتبع تاريخ مراسلاتهم من خلال برامج البريد الإلكتروني الخاصة بهم أو من خلال فئات التفضيل في التسوق في المتاجر الموجودة على الإنترنت، وهناك قصص كثيرة عن صور شخصية تم التقاطها في الولايات المتحدة وإرسالها عبر الإنترنت لتظهر في آسيا دون تصريح من صاحبها واستخدامها في أغراض دعائية". ويقول جميل عزو - مدير عام مؤسسة الرخصة الدولية: "إن هناك حاجة ملحة لتوفير إمكانية الاستخدام الآمن للإنترنت؛ نظرًا لأن التواصل عبر شبكات التواصل "الاجتماعي" أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة الفرد اليومية خاصة في منطقة الخليج، حيث ترتفع معدلات استخدام الإنترنت والهواتف الذكية بين الأطفال والشباب"، وأضاف "إن التواصل عبر مواقع فيسبوك ويوتيوب وتويتر وإنستغرام وتأثيرها كقنوات تواصل في تزايد مستمر، وخلال السنوات القليلة الماضية، رأينا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا كيف تلعب شبكات التواصل "الاجتماعي" دورًا محوريًا في مد جسور التواصل بين المجتمعات؛ بيد أنه يجب ألا ننسى أنه يمكن إساءة استخدامها واستغلالها لأغراض دنيئة.. ومن هذا المنطلق يجدر بمن يستخدم هذه الشبكات أن ينتبه إلى إعدادات الخصوصية في حسابه عليها حتى لا يتعرض لتسرب معلومات تسيء له ولعائلته، حيث إن عدم الوعي بضبط الخصوصية فيها يؤدي لأن يكون المستخدم أكثر تعرضاً لهجمات الإنترنت"... تلك المعلومات التي تكون ملكا لمن يقرؤها، وملكا لتلك المواقع التي قد تقوم بالتصرف في هذه المعلومات، وما يدعو للقلق أن من يملك ويتحكَّم في تلك التكنولوجيا والثروة المعلوماتية هم الغرب الذين يرصدون كل صغيرة وكبيرة ليبقوا متحكمين في العالم الإسلامي والعربي...
ومع أنهم يطلقون على وسائل التواصل "الاجتماعية" وعلى رأسها الفيسبوك وتويتر لقب (عالم افتراضي) - فيه شخصيتان الأولى افتراضية والثانية واقعية غير معروفة، وأنها لا تعكس واقع مستخدمها الحقيقي - رغم هذا فهي تعمل على تآكل خصوصيته شيئا فشيئا، بما يكتبه عن نفسه وحياته بتفاصيلها، وكأنها لم تعد حياة شخصية ولم يعد هناك خصوصية ولم يعد هناك قيود! ففي الماضي، كنا نتحفظ عن مشاركة معلوماتنا أو تفاصيل يومنا مع زملائنا أو معارفنا من غير المقربين، وصورنا وتفاصيل حياتنا كانت خاصة حتى بين الأصدقاء، وإن سألنا أحدهم نعتبره تدخلا في خصوصياتنا يدل على قلة الذوق والأدب، أما الآن فقد أصبحنا نشارك الكثيرين معلوماتنا وتفاصيل حياتنا دون طلب منهم أو سؤال، وإن انتشار انعدام الخصوصية لا ينحصر في مجموعة عمرية معينة، أو جنس أو أي خلفية، فالكل سواء طالما الهواتف الذكية معهم في كل مكان. وشرحا لهذه الظاهرة، يقول الدكتور أحمد العموش عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الشارقة "كان الإنسان في المجتمعات العربية سابقا يحافظ على خصوصيته ويربطها بمفاهيم الروابط الأسرية والاجتماعية. لكن مع استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، أصبح لكل إنسان خصوصية منفردة واستقلالية لا أحد يحاسبه عليها، لأنها في عالم افتراضي خاص فيه. حتى من الممكن أن تكون لأفراد الأسرة الواحدة خصوصيات لا يعرفها أعضاء الأسرة الآخرين لكنها متاحة للغرباء، فتصبح مواقع التواصل مصدرا لتعرف أخبار أعضاء الأسرة الواحدة ببعضهم البعض".. ويقول أيضا "قد يسعى الناس لنشر معلوماتهم حبا منهم للظهور والبروز وللتباهي أحيانا. أيضا، الكثير من الأشخاص وصلوا لدرجة من اللامبالاة تجاه خصوصياتهم نتيجة النشاط الروتيني أو الفراغ الذي قد يملأه الإنسان في مشاركة معلوماته وصوره عبر مواقع التواصل"... وحين معرفتنا وحسب إحصائية موقع التواصل "الاجتماعي" "فيس بوك" أن عدد مستخدميه النشطين شهريًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وصل إلى أكثر من 62 مليون مستخدم، يدخل 42 مليون منهم عبر هواتفهم المتحرِّكة.. وأن العالم وفقا للمحلل الإحصائي (غارتنر) احتوى في العام الماضي 2014على ما يقارب 3.8 مليار جهازا ذكيا، متوقعا أن يزيد هذا العدد ليصبح 4.9 مليار جهازا هذا العام، وسيزيد بجنون ليبلغ 25 مليارا بحلول عام 2020... في ظل هذه الأرقام الهائلة ألا يحق لنا أن نتساءل هل انتهى زمن الخصوصية؟!
نعم.. نخترق خصوصيتنا بأنفسنا وبوساطة هواتفنا ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول في حديث رواه الطبراني: «استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود»، فقد أصبحت صورنا وصور أهلنا وأصدقائنا وبيوتنا وغرفنا وأثاثنا، وصور وجبات طعامنا وشرابنا وحتى بعضهم أماكن نومهم واستراحتهم منشورة في مواقع التواصل بالإضافة إلى معلوماتنا الشخصية كأسمائنا، وأماكن وجودنا، وأنشطة حياتنا اليومية وخططنا، وأفكارنا، وطموحاتنا ومشاعرنا ومزاجنا وآرائنا وانتماءاتنا وما نحبه وما نكرهه، كل هذا أمام من نعرفهم ومن لا نعرفهم، نضع الموقع الذي نحن فيه على الخريطة، نبتهج بتصوير المكان من كل زاوية لنشارك ذلك عبر وسائل التواصل! نعد وليمة أو اجتماعاً عائلياً، وقبل أي لقمة نصوّر الطعام الشهي وأنواعه لمشاركته عبر وسائل التواصل هذه! يلعب أطفالنا ويمرحون معنا.. نصورهم.. وأحيانا نختلس لحظات براءتهم وطفولتهم بتسجيلها ومشاركتها عبرها! نقتنص أي تصرفات بريئة وأي لحظات عفوية أو أي حدث غريب من طفل أو من كبير في السن، من زميل في العمل، أو مارٍّ في الطريق، نسجله ونشاركه عبر وسائل التواصل "الاجتماعي"! نرى حادثا في الشارع، فأول ما يتبادر لأذهاننا تصويره لمشاركته في مواقع التواصل، لا محاولة إسعاف المصابين ومساعدتهم، وكأننا فقدنا مشاعرنا وأحاسيسنا!
والمصيبة الأكبر هي أننا تعدّينا أحيانا على خصوصيات غيرنا واقتحمناها مستبيحين خصوصياتهم مستهينين بمشاعرهم بتصويرهم ونشر صورهم بدون علمهم أو أخذ إذنهم لمجرد التسلية مثلما نفعل حين تصوير الأطفال أو كبار السن في مواقف عفوية لا يملكون حيلة لرفض نشرها، أو للفوز بسبق إعلامي رخيص مثل تصوير الحوادث والمصابين أو الجرائم أو الجرحى والقتلى والأموات ثم نشرها دون أدنى احترام لمشاعرهم ومشاعر أهلهم وذويهم ودون مراعاة لحرمة الموت ورهبته! وكم قرأنا أو جاءتنا رسائل تطلب حذف صورة أو مقطع فيديو لأن صاحبه غير راض عنه أو لم يعرف عنه أو أنه خاص ضمن نطاق الأسرة فقط! وكم من مشكلة ومصيبة حصلت نتيجة نشر بعض خصوصيات أفراد أو أسر، أو مقاطع من حفلات عائلية بعد تصويرها خلسة، هذا غير من يستخدمها للابتزاز والتهديد والعياذ بالله!
إن كل هذا يشكل خطرا على الترابط الأسري والاجتماعي، وعلينا كمستخدمين انتقاء ما يصلنا لنشره وتنبيه غيرنا حال وصول ما نراه مضرا بالآخرين.. فهذه المواقع يجب استخدامها إيجابيا لتكون في سجلاتنا البيضاء وميزان حسناتنا وليس العكس، فلنتق الله في أنفسنا وفي وقتنا وفي غيرنا وفي أهلنا وبلدنا وأمتنا.. هذه الأمة التي ترزح تحت نير الظلم والاستغلال والذلة والاستعباد من الغرب إن لم يكن كلها عسكريا فهو استعمار ثقافي فكري وحرب عقائدية بين الحق والباطل.. فمواقع التواصل "الاجتماعي" لا تتوفر فيها برامج حماية ومضادات كما هو للفيروسات، والحماية هي التقوى والتوعية بما هو مسموح نشره والتكلم عنه والخوض فيه، وما هو ممنوع وغير جائز محتكمين إلى الشرع، واتباع سبل الحماية لعدم اختراق الخصوصية التي أصبحت سلعة ثمينة ونادرة على نحو متزايد في عالمنا التكنولوجي المتسارع..
ودعونا في النهاية نتذكر ما قاله الرئيس الأمريكي أوباما خلال لقائه مع طلاب مدرسة ويكفيلد في ولاية فيرجينيا، حيث عبر عن قلقه الشديد من انتهاك موقع (الفيس بوك) للخصوصية الفردية، عندما عبر له أحد الطلاب عن أمنيته أن يجلس مكانه في يوم من الأيام، وطلب منه تقديم نصيحة له، فرد عليه قائلاً: "أريد منكم أن تكونوا حذرين فيما تنشرونه على (الفيس بوك)؛ ففي عصر (اليوتيوب) ما تفعله اليوم فإنه سيعرف في مرحلة لاحقة من حياتك، عندما تكون يافعًا ترتكب أفعالاً طائشة، سمعت عن شباب نشروا معلوماتهم على (الفيس بوك)، وعندما تقدموا لطلب وظائف تم البحث عن معلوماتهم هناك، هذه نصيحة سياسية أقدمها لك".. هذا ما قدَّمه رئيس أكبر دولة في العالم - والتي من المعروف أنها تتحكم في جزء ضخم من تلك التقنية الحديثة - لنصح شباب بلاده لتوخي الحذر عند نشر معلوماتهم أو التعامل مع تلك المواقع!!
ففي زمن التقدم التكنولوجي المتزايد، هناك جديد يدخل كل يوم على حياتنا ويؤثر في تفاصيل يومنا. فهل سنهجر خصوصيتنا أكثر فأكثر مع مرور الزمن لتصبح طي النسيان، أم أننا سنعود عن هذا الأمر وننتبه لخصوصياتنا وخصوصيات غيرنا فلا نخوض فيها، ولا نكون كتابا مفتوحا يقرؤه كل من هبّ ودبّ! وهل فعلا تحولت هذه التقنية من وسيلة تساعدنا إلى جدران تحاصرنا؟!
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مسلمة الشامي