- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
قبس من أنوار الهجرة النبوية
لم تكن الهجرة النبوية من مكة إلى المدينة فرارا بالدين من العنت والأذى الذي لقيه المصطفى ﷺ وصحبه من مجرمي قريش كما يحلو للبعض أن يصوّرها، ولا كذلك انتقالاً بالدعوة من مكان إلى آخر أكثر خصوبة وإثمار، وإنما كان طور جديد من حياة الرسالة المحمدية انقضى بمقتضاه دور الكتلة والحزب ليبتدئ به دور الدولة والسلطة وما تعنيه من تنزيل عملي للأحكام والمعالجات وما تتطلبه من قوة وسطوة وإعلان للحرب والسلم وعقد للمعاهدات والهدن وصون للدماء والأعراض وسد للثغور ورعاية للشؤون.
ولكي يلمس هذا التحول ويتجلّى للناظر حقيقة العهد الجديد - أي قيام الدولة - لا بد من استقراء السيرة النبوية باستنارة، وسبر أغوار ما سبق الهجرة وما أعقبها ليوضع الحدث في إطاره، فينجلي بما لا خلاف عليه أن المحطة الأبرز قبيل الهجرة كانت بيعة العقبة الثانية أو البيعة الكبرى والمسماة شهرة بيعة الحرب والتي أبرمها رسول الله ﷺ مع بضعة وسبعين من أهل يثرب، حيث كان البند الأبرز في هذه البيعة النصرة التامة وبذل الأنفس والنفائس فداء لمحمد ولدين محمد ﷺ، وقد أطنب المحدثون ورواة السيرة في نقل هذه الأخبار وسرد تفاصيل المناقشات والمداولات.
والقبس الساطع الذي أود الوقوف عنده، هو أحد بنود هذه البيعة، بيعة الحرب، والمتمثل في "السمع والطاعة" والذي قد يغفله بعض الدعاة ولا ينتبهون إلى بريقه، فقد جاء في البخاري حدثنا إسماعيل حدثني مالك عن يحيى بن سعيد، قال أخبرني عبادة بن الوليد أخبرني أبي عن عبادة بن الصامت قال: «بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقوم - أو أن نقول - بالحق حيثما كنا لا نخاف في الله لومة لائم». وروى البيهقي من طريق عبد الله بن عثمان قال عبادة بن الصامت - وهو أحد النقباء الاثنى عشر «بايعنا رسول الله ﷺ على السمع والطاعة في النشاط والكسل...». وعند أحمد بإسناد حسن وصححه الحاكم وابن حبان عن جابر بن عبد الله قال: فرحل إليه منّا سبعون رجلا فواعدناه بيعة العقبة، فقلنا علام نبايعك قال: «على السمع والطاعة في النشاط والكسل وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم يثرب، فتمنعوني ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة».
السمع والطاعة كان البند الأول في بيعة النصرة، وتأكيد المصطفى ﷺ على ذلك بوضعه برأس القائمة له من دلالات الأهمية والجسامة ما يستوجب التوقف والتدبر، فرسول الله ﷺ وهو يعرض نفسه على القبائل كان يتحرى وجود المنعة والحماية، أي توفر القدرة والقوة لاحتضان دين يراد أن تكون له الكلمة العليا في العالم، فالله قد ابتعث محمداً ﷺ ليكون دينه المهيمن على كل الأديان ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ﴾ والأمر الفصل في دين لا إله إلا الله، لله وحده ولذلك لم يكن لرسول الله بحال من الأحوال أن يقبل بإملاءات أو شروط، وعلى ذلك رأينا رفض شرط بني عامر بن صعصعة عندما عرضوا النصرة ببقاء الأمر فيهم بعد النبي ﷺ الذي أجابهم بحسم «الأمر لله يضعه حيث يشاء»، وكذلك رفض عرض بني شيبان بن ثعلبة؛ فقد قبلوا الإسلام والنصرة ولكن فيما دون مُلك فارس، أي أنهم تعهدوا بحماية النبي ﷺ ونصر دينه بمحاربة العرب أجمعين ولكن إن اعترض كسرى فلا قبل لهم بحربه، فكان رده في وضوح وثبات «ما أسأتم الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه...».
رغم أن الرسول الأكرم صلوات ربي وسلامه عليه كان في أشد الحاجة إلى من يؤويه وينصر دعوته إلا أنه دون تردد رفض النصرة المشروطة أو المنقوصة، فقد كان بإمكانه أن يقبل بعرض بني عامر فيداهنهم أو يراوغهم وبعد أن يظهر أمره ينبذ إليهم على سواء ولكن الرحمة المهداة ليس من منهجه المراوغة والمكر، كما كان بإمكانه أن يقبل بيعة بني شيبان فيكفيه تعهدهم بنصره على العرب وإلى أن يحتاج الأمر لقتال الفرس فربما يكون قد وحّد العرب تحت راية التوحيد وأصبح له من القوة ما يغنيه عن بني شيبان وعهدهم لكسرى.
وطلب النصرة من المسائل التي يعتمدها بعض المتحاملين على حزب التحرير لانتقاده والانتقاص من شأنه، حيث يعتبرون هذه الخطوة ضربا من الوهم ومطاردة للسراب! فمن هذا الذي سيعطيك النصرة ويسلّمك السلطة والحال أن كل أهل القوة والسطوة لهم توجهات وولاءات تضادّ مشروع الإسلام، وعادة ما نسمع هذا خاصة من أبناء الحقل الإسلامي، وقد أصّل الحزب المسألة وأقام الحجج والبراهين عليها من سيرة المصطفى ﷺ وهذه الأدلة الشرعية لوحدها كافية للرد وإسكات المنتقدين، ولكن سنمضي معهم أكثر للتدليل العقلي الميداني؛ فإيجاد الرأي العام وتحصيل تعبئة جماهيرية لا بد منه لضمان الاستقرار والثبات ما بعد التغيير لكنه غير كاف لانبعاث وميلاد كيان جديد، والتجارب البشرية على مر العصور أكدت أن الحاضنة الشعبية مهما كان لها من القوة فإنها لا تقوى على إحداث النقلة وإسقاط نظام وإنشاء آخر، والحسم النهائي عادة ما يتم عن طريق أهل القوة؛ عسكريين أو أمنيين أو ساسة مدعومين بسالفي الذكر، ونلاحظ في البلدان شبه المستقلة في أحيان كثيرة تنتفض الشعوب وتقدم التضحيات وتعم الفوضى ويكثر الهرج فيقابل بالتنكيل والتقتيل والاعتقال والتشريد حتى تخمد الثورة، أو يتقدم أهل القوة انتصارا لشعوبهم ليزيلوا رأس هرم السلطة ويتوّجوا هم أبطالا للمرحلة ومنقذين للبلد ثم يوكل الأمر إلى حكومات الظل سواء بالتعيين أو الانتخاب ولكن دون المس بالنظام من حيث الأساس فتجهض الثورة وتستحمر الشعوب معتقدة أنها أحدثت تغييرا.
فالعمل السياسي الذي يستهدف تغيير المجتمع ونمط عيشه لا غنى له عن أهل القوة، وهذا ما تؤكّده التجارب البشرية، وهذا ما جاء به خير البرية ونحن نلتزم هذا المنهج بحذافره تأسيا بالسنة النبوية باعتبارها طريقة واجبة الاتباع لا يحق لنا أن نتقدّمها أو نتأخّرها.
ولنعد إلى ذلك القبس "السمع والطاعة"، لنجد أن مخالفينا في موضوع طلب النصرة يعارضوننا بالقول ويناقضون أنفسهم في الفعل؛ فأغلب هذه الحركات عندما تصل إلى النقطة الفاصلة نقطة اللاعودة تصرح بأن مواصلة المشوار بالجماهير الشعبية لأجل التغيير لا يعني بما لا يدع مجالاً للشك، إلا المجازر والشلالات من الدماء وهنا يبدأ التبرير لطلب النصرة ولكن بالمعنى السقيم فيهرعون إلى السفارات الأجنبية مقدمين قرابين العرفان والولاء باعتبارهم البديل الأنسب للسلطة القائمة! فبدل البحث عمن ينصرهم بما يحملون من مشاريع وتوجهات يقدمون أنفسهم للآخر ليطبقوا مشاريعه وإملاءاته! وعليه فإن اشتراط النبي ﷺ السمع والطاعة له من الأبعاد السياسية والعقائدية ما يجعل الدعوة في منأى عن كل تأثير أو احتواء، فالهاضم لفكرته المبصر لطريقته لا يتنازل عن مبدئه قيد أنملة وهو يهدف إلى إيصال المبدأ، أي الإسلام، إلى الحكم لا وصول الحزب وأعضائه إلى الحكم بغض النظر عن الدستور والقوانين التي تطبق.
إن المتباهين اليوم بالوصول إلى السلطة من حركات ما يسمى الاعتدال حين يقفون مع أنفسهم وقفة صدق لسوف يرون أنهم لم يزيدوا الأمة إلا تعطيلا وتأخيرا لنهضتها وتحررها، وإن كل ما فعلوه هو أنهم قدموا أنفسهم لقمة سائغة للمستعمر ليكونوا هم أنصارا له طيعين يفعلون ما يؤمرون وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، إن حزب التحرير رغم العراقة والانتشار وتوسع قاعدته الشعبية إلا أنه ليس ممن يبيع دينه بعرض من الدنيا؛ فنحن ننشد أنصارا يؤمنون بفكرتنا - الإسلام وما انبثق عنه - ويستميتون في الدفاع عنها وعن قادتها، فإمامنا وقائدنا للأبد سيدنا محمد ﷺ. فالنصرة يجب أن تقترن بالطاعة والاستجابة وإلا فنحن في غنى عنها، وإنا لنلمح بشائرها من أحفاد سعد بن معاذ والبراء بن معرور وأسيد بن حضير وعبادة بن الصامت وغيرهم من الأعلام السابقين الذين اقترنت أسماؤهم في تاريخ الأمة بالعزة والمجد ورضوان من الله أكبر.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
طارق رافع - تونس