- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطاب الإٍسلامي كما يجب أن يكون
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن الخطاب الإسلامي واقعه ومضمونه وآفاقه، وعُقدت لهذا الموضوع ندوات ومؤتمرات وكتبت الأبحاث والتقارير، لا بل وتناوله الخطباء على المنابر أحيانا، تزامن هذا الحديث مع حديث آخر مُوازٍ له وهو الحديث عن الإرهاب وقوانين مكافحته الذي أخذ أيضا نصيبا أكبر من التداول بين النخبة وأصحاب الرأي بحثا وتشخيصا ومعالجة بعد أن أُعلنت حربٌ كونية باسم "الحرب على الإرهاب" ما زالت تدور رحاها حتى الآن، قادتها أمريكا وجرت خلفها دول الكفر كلها. فما المقصود بالخطاب الإسلامي؟! وهل صحيح أنه يمكن تجديد الخطاب الإسلامي؟! وما الهدف من الدعوة لتجديده؟! ولمصلحة من يدور الحديث حوله؟! ومن هي الجهة التي تقف وراء هذا الحديث؟!
لا يكاد يختلف اثنان على أن المقصود بالخطاب الإسلامي هو خطاب الله ورسوله للناس من خلال كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وهذا الخطاب كان يوجهه رسولنا الكريم ﷺ للناس ليؤمنوا بدعوته، فكان واضحاً أن الخطاب الإسلامي يدعو الناس لعبادة الله وحده، وكان واضحا أيضا أن هذه الدعوة عالمية للناس كافة ولا بد لمن يؤمن بها أن يبلغها لمن لم تصله، وما أن مَكَّن الله لرسوله ﷺ في المدينة المنورة حتى بدأ رسولنا الكريم ﷺ بتوجيه الخطاب ذاته إلى زعماء الدول وأشباه الدول المجاورة للجزيرة العربية، وكان في كلا الخطابين واضحاً وضوح الشمس في مراده ومفرداته. وكما كان خطاب الإسلام على لسان رسولنا الكريم ﷺ واضحاً في بيانه وغايته، فقد كان واضحا أيضا في أن هذا الخطاب تضمن برنامجا تشريعيا عمليا للناس ليطبقوه في حياتهم حال إيمانهم بدعوة الإسلام، برنامجاً تضمّن تشريعات تنظم علاقة الإنسان بخالقه وهي العبادات أي كيف يعبد الله، وتنظم علاقة الإنسان بنفسه وهي المطعومات والملبوسات والأخلاق، أي ماذا يحل له أكله وشربه ولبسه وماذا يحرم عليه أكله وشربه ولبسه، وتنظم علاقته بغيره من بني الإنسان وهي المعاملات، الأمر الذي جعل من الإٍسلام وجهة نظر في الحياة. وكان الخطاب الإسلامي أشد ما يكون وضوحا في حمل دعوة الإسلام إلى الأمم الأخرى، فكانت الرسائل التي بعث بها رسول الله ﷺ إلى ملوك الروم والفرس والنجاشي والمقوقس وغيرهم، كانت واضحة بليغة في أنها تدعو إلى دين جديد ونظام حياة مختلف عما عرفت البشرية، وبلغة واضحة فهم منها الملوك أن كيانا سياسيا اسمه دولة الإسلام قد تشكل في جزيرة العرب، وليس هذا فحسب، بل إن هذه الدعوة تطالبهم بالتنازل عن كياناتهم لصالح هذا الدين وهذا الكيان الجديد، وفي هذا من الخطر ما فيه على المرسل والمستقبل، حتى بلغ الغيظ ببعضهم أن أقدم على قتل مبعوث رسولنا الكريم ﷺ إليهم.
منذ تلك اللحظات أخذ الخطاب الإسلامي يتخذ مسارين اثنين؛ أحدهما خطاب الإسلام للمسلمين مبينا لهم ومفسرا تشريعات الإسلام التي لم تكن قد اكتملت بعد، وثانيها خطاب الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الدول والقبائل المجاورة له في جزيرة العرب وخارجها، حتى جاءت لحظة اكتمل فيها دين الله وتمت فيها نعمته ورضي الإسلام دينا للناس، وانتقل رسولنا الكريم ﷺ إلى جوار ربه فسار الخطاب على هذا النحو إلى آخر الخلفاء الذين حكمونا بالإسلام، خطاب يدعو الناس للإسلام ولا يكرههم على الإيمان حيث حدد لهم ثلاثة خيارات؛ فإما أن يسلموا أو أن يدفعوا الجزية أو قتالهم حتى يكون الدين كله لله، ذلك أن الله أمرنا بأن نبلغ هذا الدين إلى كل الناس حتى لو لزم قتالهم لنشر هذه الدعوة. وحيث استطاع الكافر المستعمر أن يقضي على هذا الكيان الإسلامي ويلغيه من واقع الحياة، فقد غاب الخطاب الإسلامي الصحيح لأن صاحب الخطاب تم اعتقاله وسجنه، فدخلت الأمة الإسلامية في حالة من التوهان والفوضى في الخطاب داخليا وخارجيا. فكأن الأمة كانت تصطف خلف إمامها في صلاة جهرية يتلو عليهم كلام الله على خير وجه وفجأة سقط الإمام على الأرض مغشيا عليه، فحصل الفراغ والارتباك ولم يتقدم أحد من الأمة مكانه ليتموا صلاتهم، لا بل ويختار كل واحد منهم أن يكمل صلاته منفردا فيقرأ ما تيسر له وبصوت مسموع، فهذا يقرأ آيات في التوحيد وذاك يقرأ آيات الله في القصص، وآخر يقرأ آيات في الأحكام، فهل لك أن تتخيل كيف سيكون مشهد الناس وما الذي يمكن أن يشد سمعك مما يقرأون؟! إذا كنت قادرا على تخيل هذا المشهد على ما فيه من فوضى وارتجال وتوهان فما عليك إلا أن تسقط هذا المشهد على حال الأمة وخطابها منذ أن سقطت دولتهم صاحبة الخطاب، ومع أن مشكلة الناس كانت في سقوط إمامهم، فقد كان الحل أيضا في تقدم أحدهم للإمامة، ولكن ماذا لو تخيلت أن الإمام لم يسقط مغشيا عليه، بل سقط بفعل مجرم غادر أطلق عليه رصاصة الغدر والإجرام ليربك حال هؤلاء الناس، فهل يجرؤ أحد أن يقوم مكان الإمام ويد المجرم على الزناد؟! هذا ما حصل مع أمتنا وهذا ما ميَّـع الخطاب فينا على قدسيته.
فإذا كان المقصود بالخطاب الإسلامي ما أسلفنا فهل يمكن لهذا الخطاب الذي هو كلام الله ورسوله أن يتجدد وكيف؟! لا بل ولمصلحة من؟! يقول الله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِيناً﴾ ويقول سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾.
ويستقر في ذهن المسلمين جميعا أن الخطاب الإسلامي "الكتاب والسنة" هو خطاب مقدس لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، صالح لكل زمان ومكان، فإذا كان المسلمون في عمومهم على هذا الفهم فلمصلحة من نريد أن نجدد الخطاب، وما الهدف من تجديده؟! فضلا عن كون هذا الخطاب غير قابل للتجديد فقد أرست نصوصه مفاهيم كثيرة عن الحياة لا يستطيع أي كان أن يتناولها بالتجديد.
والآن سنميط اللثام عن الوجه القبيح الذي يقف وراء هذه الدعوة إلى تجديد الخطاب الإسلامي وهو نفس الوجه الذي طعن أمتنا طعنة نجلاء فأسقطها بسقوط دولتها في لحظة غفلة منا نحن وبحجة أنه يدعونا للحريات والحداثة والتحرر من كل القيود الدينية، وأقام في بلادنا بعد احتلالها دولا كثيرة تسهر على مصالحه وتقف في وجه كل جهد مخلص لنهضة الأمة، وما دور هذه الأنظمة الجاثمة على صدورنا في قمع أبناء أمتنا بكل الوسائل في ثورات ربيع الأمة إلا دليل على ذلك، دول في ظاهرها أنها دول لنا وفي حقيقتها أنها للمستعمر الذي احتل واستعمر وما زال، هذا المستعمر هو نفسه الذي أدرك منذ اليوم الأول لدخوله بلادنا أنه يوما ما راحل عنا إلى غير رجعة، هذا المستعمر أدرك أنه آن أوان قيام مشروع أمتنا وعودة دولة الخلافة الإسلامية إلى واقع الحياة، وهو بالطبع يدرك تماما أنه بعودتها لن يكون له موضع قدم في بلادنا، وإدراكه لهذه الحقيقة جعله يوظف كل طاقاته لمحاربتنا عسكريا وثقافيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بكل ما أوتي من دهاء وخبث، فأخذ يحوك المؤمرات لنا من الخارج ويفرض على حكام بلادنا التابعين له والخائنين لله ولرسوله ولأمتهم، أن يسيروا وراءه خطوة خطوة في محاربة الإسلام وأمته بشتى الوسائل، فأخذوا يلتفون على أفكار ومفاهيم الإسلام الصحيحة المستقرة لدى المسلمين، ووظفت هذه الأنظمة بدعم من هذا المستعمر جهودا كبيرة للأسف يقوم بها أبناء أمتنا لا همَّ لها إلا زعزعة ثقة المسلمين بإسلامهم بعد أن أصبحت الأمة على مرمى حجر من الإمساك بزمام أمورها، فصاروا يعقدون الندوات والمؤتمرات التي امتلأت للأسف بقدرات شباب أمتنا الذين تباروا في البرهنة على أن الأمة في حاجة إلى تجديد خطابها حيال الأمم الأخرى، وتناولوا هذا الموضوع من زوايا فلسفية أحيانا ومنطقية أحيانا وسياسية أحيانا أخرى، ولكن أحدا لم يتناولها من زاوية شرعية قط مع أنهم في أغلبهم متخصصون في العلوم الشرعية ويحملون درجات عليا فيها. فقد رأيت فريقا من هؤلاء المتخصصن مضبوعين خائفين مرتجفين يتسابقون في الانبطاح أمام الإرادة السياسة ليرضوها فيما يقولون، ولم يجرؤ أحدهم على أن يقول للناس أن تجديد خطاب الإسلام هو من لوازم الحرب على الإرهاب التي تقودها أمريكا وكل دول العالم الكافر على الإسلام والمسلمين، وبخبث الساحر الماكر يدسون لك السم بالدسم في تناولهم لمفاهيم الإسلام لتطعيمها بمفاهيم الغرب الكافر، وللوقوف على حقيقة ما نقول فما عليك إلا أن تتابع كل الأوراق البحثية التي قدمها أساتذة جامعات وسياسيون في مؤتمر الخطاب الإسلامي الذي نظمته مبادرة زمزم للبناء على مدار يومين في نهاية الشهر السابق، لتجد هذه المعاني وأكثر منها وبشكل أكثر صراحة وتفصيلا حتى بلغ الأمر بأحدهم أن يقول: "لا يجوز أن تعلموا أولادكم أن هذا مسلم وهذا كافر"! وكأنه يريدنا أن نلغي مصطلح الكفر على الإطلاق لنكون مقبولين من أمريكا وأعوانها ومن دولة يهود وأخواتها، ناهيك عن الحفاوة الرسمية التي حظي بها المؤتمر والمؤتمرون في رحاب الجامعة الأردنية، على أنه وللحق نقول أن الخير كامن وموجود في أبناء الأمة؛ فقد تصدى لكل هذا التشويش الفكري على مفاهيم الإسلام مجموعة من الأساتذة في كلية الشريعة جزاهم الله عن الإسلام خيرا.
إذن فالخطاب الإسلامي مطلوب تجديده ليتواءم مع حرب الغرب بقيادة أمريكا على الإرهاب، يقود هذه الدعوات شخصيات تؤيد إبعاد الدين عن الحياة وتؤمن بالحكم بغير ما أنزل الله، حفاظا على مصالحها التي ترعرعت في ظل هذه الأجواء وشخصيات طامعة ربما بمصالح دنيوية مادية وشخصيات عينها على وظائف بعينها كأن يحظى بشرف حمل حقيبة وزارية هنا أو هناك، ولا يهم أيُحكم بالإسلام أم بغيره! المهم أن للفكرة ثمناً وعلى قدر أهمية الأفكار وتماهيها مع سياسة العم سام يكون الثمن، فما بالك إن كان المقصود من مناقشة الخطاب الإسلامي هو زحزحة الخطاب الإسلامي عن مضمونه الصحيح بشكل يؤمن مصالح أعداء الإسلام والمسلمين؟! عندها سيكون الثمن غاليا جدا، غاليا لصالح صاحب الفكرة ومروِّجها فتدر عليه أموالا لم يكن يحلم بها، وغالية من حساب أمتنا وإسلامنا حينما ينبري أبناؤها للوقوف في وجه أمتهم طعنا في مفاهيمها بأسلوب مراوغ فيه من التدليس ما يكفي للانطلاء على العامة، عندها تدفع أمتنا وأبناؤها الثمن بإطالة عمر الكافر المستعمر وتأخير مشروع الأمة نحو نهضتها باتجاه إسلامها.
فيا أيها المخلصون من أبناء أمتنا! هذه دعوة مخلصة لكل واحد فيكم أن هبوا للذود عن إسلامكم كل من موقعه، فإن الكافر المستعمر بدأ يترنح في بلادنا، وعما قريب سيعلن إفلاسه منكم ومن دينكم بعد أن أوشك أن يعلن إفلاسه في شام العز والكرامة عقر دار الإسلام، فالله الله أيها المخصلون القابضون على جمر ظلمهم وجبروتهم فإنما النصر صبر ساعة، واحذروا فتنهم ومؤمراتهم واحذروا موالاتهم أو تصديقهم، فهؤلاء قوم شيمتهم الغدر فلا تعطوهم ظهراً، فهؤلاء لا حظ لهم في الدنيا عما قريب وهم يعلمون أنهم يحاربون الله ودينه وقد يئسوا من لقاء الله ورحمته، ولا تغفلوا عن مصدر قوتكم فكونوا مع الله ومع خطابه الذي ارتضى لنا لنحق الحق ونبطل الباطل إن الباطل كان زهوقا، فغداً تكونون أسياد الدنيا بذات الخطاب الذي ملك أجدادكم فيه زمام أمور الدنيا فملأوها عدلا، وما ذلك على الله بعزيز. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ﴾.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الرؤوف بني عطا - أبو حذيفة