- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
سبيل المتقين
يقول سبحانه وتعالى في كتابه العزيز مخاطباً عباده المؤمنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾، ويقول مخاطباً أولي الألباب ﴿وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾، ويقول رسول الله ﷺ: «اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وخَالِقِ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ».
فما هي التقوى؟ وما هو السبيل لتحقيقها؟
التقوى لغةً: مأخوذة من الوقاية وهي الصون والحماية والحذر، جاء في لسان العرب أنَّ: التُّقاة، والتَّقيَّة، والتقوى، والاتِّقاء بمعنى واحد، وقاه الله وقياً ووقاية: صانه، تقول: وقيت الشيء أقيه: إذا صنته وسترته من الأذى.
أما اصطلاحاً فقد عبر عنها العلماء بتعبيرات مختلفة وعرفوها تعريفات عدة، لكنها كلها تدور حول كونها اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه طمعاً في جنته وخوفاً من عذابه، ومن التعريفات الجامعة المانعة للتقوى ما يُنسب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حيث عرفها على أنها (الخوفُ من الجَليل، والعملُ بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعدادُ ليوم الرَّحيل) وهذا هو عين التقوى.
فتحقيق التقوى يستلزم منا الخوف من الله سبحانه وتعالى، واتِّباع أوامره واجتناب نواهيه لمعرفتنا وإيماننا التام بأنّه مطَّلِعٌ على أفعالنا ومراقبٌ لها، وأنه عزَّ وجل لا تخفى عليه خافية لا في السر ولا في العلن، يقول تعالى: ﴿وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾. ولذلك فإن المؤمن يضع مخافة الله بين عينيه دائماً، فلا يعمَلُ عملاً أو يقولُ قولاً قد يُغضِب الله ويخالف ما أمر به أو نهى عنه.
ومن المفارقات أن الإنسان كلما خاف من شيء ابتعد عنه ليتقي شره، إلا الله سبحانه وتعالى كلما زاد خوف العبد منه ازداد تقرباً إليه بالطاعات والأعمال الصالحات، ولما سألت عائشة رضي الله عنها النبي ﷺ عن قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: «لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ». قال الحسن: "عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمنا".
وتحقيق التقوى يستلزم منا أيضاً العمل بما أنزله الله على نبيه محمد ﷺ من أحكام وتشريعات في الكتاب والسنة، وعدم اتباع أهوائنا، والسير خلف مصالحنا الدنيوية، أو الاحتكام للأنظمة الوضعية والبحث عن حلول لمشاكلنا في غير الكتاب والسنة، فالإسلام لم يترك كبيرة ولا صغيرة إلا ووضع لها حكمًا وأرشدنا لفعل الصواب وسلوك الطريق المستقيم فيها، ابتداء من دخول الخلاء حتى إقامة الدولة وشكل نظام الحكم في الإسلام، فهو دين شامل لكافة مناحي الحياة، وهو عقيدة ينبثق عنها نظام، ينظم علاقة الإنسان بربه من خلال (العقيدة والعبادات)، وينظم علاقته بنفسه من خلال (المطعومات والملبوسات والأخلاق)، وعلاقته بغيره من بني الإنسان (كالحكم والمعاملات والزواج والميراث والقضاء…).
وإن مما يستلزمه تحقيق التقوى أيضاً أن يتذكر المسلم بشكل دائم أنه راحلٌ عن هذه الدنيا لا مَحالة، والراحلُ لا بُدَّ له أن يتزوّد بالطاعات والنوافل والأعمال الصالحات وبكل ما من شأنه أن يُعينه في رحلته، استعدادا لذلك اليوم المهيب، قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾. فالمسلم لا ينغمس في الحياة الدنيا وملذاتها، على حساب العمل للآخرة، لأنه يدرك أن الدنيا فانية، وأنها دار اختبار وليست دار قرار، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يرتدي خاتماً نُقش عليه "كفى بالموت واعظاً يا عمر".
يقول سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة متحدثاً عن صفات المتقين: ﴿الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، فالمتقون كما بينتهم الآيات: يؤمنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقهم الله، وكذلك يؤمنون بما أنزل على محمد ﷺ، وما أنزل على الرسل السابقين عليهم الصلاة والسلام، ثم هم يوقنون بالآخرة ويعملون لها، فكان خير وصف لواقعهم أنهم على هدى من ربهم، أي يسيرون بحسب ما أمر الله تعالى ملتزمين أوامره، ومجتنبين نواهيَه، وهذا هو الفلاح بعينه، الفوزُ في الدنيا والآخرة.
أيها الإخوة والأخوات:
لقد جعل الله سبحانه التقوى هي الحكمة والثمرة المرجوة من الصيام فقال سبحانه وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فالصيام ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب، بل لا بد من الامتثال لأمر الله سبحانه في جميع النواحي، فالصوم الحقيقي هو الصوم الذي تصوم فيه الجوارح عن كل ما حرم الله عز وجل، فيصوم القلب عن الكبر والحسد والغل والحقد، ويصوم اللسان عن الكذب وشهادة الزور والحلف الباطل والغيبة والنميمة والسب والشتم واللعن والقذف والسخرية والاستهزاء وكل آفات اللسان، وتصوم العين عن النظر المحرم، وتصوم الأذن عن سماع الباطل والمحرمات، واليد تصوم عن الرشوة وأذى الناس والاعتداء عليهم، والرجل تصوم عن المشي إلى الحرام وأماكن الفسق والفجور، والبطن تصوم عن أكل الحرام كما تصوم عن أكل الطعام والشراب.
والصائم كما امتثل لأمر الله فترك الطعام والشراب والشهوات، واجتهد في القربات من قراءة للقرآن وقيام لليل والذكر والاستغفار، فإنه عليه أيضاً الامتثال لأمر الله في جميع شؤون الحياة على الصعيد الفردي - كما بينا سابقاً -، وعلى صعيد الجماعة أيضاً فلا يقبل منه أن يسكت على انتشار المنكرات والفواحش في بلاد المسلمين، ولا يقبل منه أن يرى شرع الله معطلا ولا يسعى لتطبيقه في الأرض، ولا يقبل منه أن يرى دماء المسلمين وأعراضهم ومقدساتهم تنتهك ولا يحرك ساكناً، فذلك ينافي مفهوم التقوى جملة وتفصيلاً.
وختاماً فإني أدعوكم كما أدعو نفسي لاغتنام النفحات والفرص السانحات من الطاعات في رمضان، محققين ثمرته "التقوى"، مبتعدين عن كل ما يفسد علينا صيامنا وعباداتنا وطاعاتنا فيه، عاملين لإعزاز هذا الدين ونصرة المسلمين بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة، حتى نفوز في الدارين بإذن الله.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
براءة مناصرة