- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ماذا لو كانت تقوى الله في كامل السنة مثل تقواه في رمضان؟
إن الغاية من الصيام هي تقوى الله سبحانه، كما هي الغاية من أي عبادة من العبادات، لكن فريضة الصوم تُعمّق في النفس البشرية معنى المُراقبة الذاتيّة لينصرف العبد عن ملذّاته وشهواته طوعا وإقبالا، ذلك أن التربية التي يتركها الصوم لدى المسلم، من انضباط سلوكي وروحيّ، بامتناعه عن الأكل والشرب والوقاع والفحش، ومُراقبة حركاته وسكناته وخواطر نفسه وجميع أعماله، هي تحقيق لمعنى تقوى الله إذ إن التقوى هي امتثال لأوامره سبحانه واجتناب نواهيه والوقوف على حدوده والالتزام بأحكامه خوفا وطمعا كما جاء في الحديث القدسي «يَدَعُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي» (متفق عليه)
وقد شرع الله سبحانه لعباده صيام شهر رمضان المبارك لتحقيق معنى التقوى بقهر النفس وكسر الشهوات وحفظ القلب والجوارح فيتقرّب العبد إلى ربّه راجيا بذلك ثوابه ورضاه. كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 183]
وممّا يؤسف حقا أن تهدر الكثير من نسائنا هذه الفرصة العظيمة في شهر التقوى، بتضييع أوقاتهنّ وقتلها بين المطبخ وموائد الإفطار والسحور حتى تصبح أسيرة داخل مطبخها الذي يسرق ليلها ونهارها ويحرمها من استشعار المعنى الحقيقي لهذه العبادة العظيمة وبلوغ ثمرتها ألا وهي التقوى. وربّما قد يمرّ على المرأة المسلمة رمضان تلو رمضان دون أن يحدث أي أثر على سلوكها، أو تدارك لأخطائها وتقصيرها في حق ربها، لحجم الضغوطات البدنية والأعباء المادية التي أرهقتها وكبّلتها، وأهدرت فرصتها للاستزادة بالتقوى في موسم الخير وأوقات النفحات والبركات.. وقد كان للإعلام الموجّه للمرأة المسلمة خصوصا في شهر رمضان الدور الكبير في سرقة وقتها وتضييعه بالكامل، ليصبح هذا الشهر المبارك موسما إعلاميا ضخما تنتظره شركات الإنتاج الفني والقنوات الفضائية وكذلك المشاهدون بالترويج لبرامج الطبخ والمبالغة في بثها، وكثرة الإعلانات الغذائيّة وعرض الشهوات المتاحة بالأكلات والأطباق والعروض التسويقية للمواعين والمفارش، والتلويث السمعي والبصري وإغراق النساء بالمسلسلات الماجنة والتي تتعمّد المبالغة في الفحش والعهر خلال هذا الشهر المبارك بعرض كل أشكال التبرّج والتفسّخ والعلاقات غير الشرعية والفساد الأخلاقي، مع التقصّد في تضخيم هذه الصورة وربط المشاهد بها!! فكيف للمرأة المسلمة أن ترضى لنفسها بما لا يرضاه الله لها؟؟ وكيف لها أن تهدر فرصتها لإحياء علاقتها بربّها من جديد وتعميق صلتها به سبحانه بحبس نفسها طول النهار في المطبخ وطول الليل أمام التلفاز؟
ولا أعني بهذا أن تُفرّط المرأة المسلمة في مسؤولياتها كأم وزوجة وربّة بيت وتهمل واجباتها لتحصيل معنى التقوى في رمضان، فعمل البيت وخدمة الزوج والاهتمام بالأطفال في مأكلهم ومشربهم كلّها أحكام تلازم المرأة المسلمة سواء أكان في شهر رمضان أم في باقي شهور العام، فهي راعية في بيتها وهي مسؤولة عن رعيتّتها، بل أن تستزيد بالتقوى على أداء فرائضها، فتكون أشدّ مراقبة لنفسها وهي تخدم زوجها وترعى بيتها وتُربي أبناءها وتطبخ وتكنس وتنظّف وهي ترجو الأجر والثواب من الله سبحانه، فتراقب نفسها وأعمالها في القيام بشؤون أسرتها وتقف على أوامر الله وتجتنب نواهيه كما هو الحال في عبادة الصوم، وهذا ما يُحقّق لها التقوى.
ثمّ إن العبادات الفردية التي تُقبل عليها المرأة المسلمة في شهر رمضان، في حال وفّرت لنفسها الوقت والطاقة، من قراءة قرآن وكثرة صلوات وصدقات ودعاء وقيام ليل، هل هذه الأعمال نابعة من مفهوم التقوى لديها وأثر الصيام على باقي طاعاتها فيلازمها بعد انتهاء الشهر أو من رمضان ونفحاته الإيمانية فينتهي بانتهائه؟؟
صحيح إن شهر رمضان هو شهر القرآن وشهر المغفرة والعتق من النار، فكان الأصل أن نغتنم هذا الشهر المبارك لالتماس التقوى وتحصيل الزاد الذي يُعيننا على عبادة الله سبحانه باقي شهور العام بنفس مستوى رمضان، لأن عبادة الصوم في هذا الشهر جعلها الله سبحانه وقاية لنا وتدريبا لأنفسنا لتكون أفضل الأعمال في هذا الشهر «الْوَرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللهِ» كما قال سعيد بن المسيب رحمه الله.
وكأن شهر رمضان محطّة تموين، نقف فيها أياما معدودات لنأخذ مؤونتنا الروحيّة التي تعمّق صلتنا بربنا وتجعلنا أكثر حرصا على التقيّد بباقي أحكامه، فنتعلّم من عبادة الصوم معنى مجاهدة النفس والسيطرة عليها ومراقبة حركاتنا وسكناتنا وتحصين قلوبنا وجوارحنا في كل العبادات الأخرى باقي شهور العام، ليكون الإقبال على كل الطاعات طوعا واختيارا وتسليما ورضا بشرعه سبحانه، وتكون عبادة حمل الدعوة وقول كلمة الحق والعمل على تحكيم شرع ربّنا بنفس مستوى عبادتنا في شهر رمضان، بذلك الإصرار والمجاهدة والتنافس والصبر والثبات الذي تعلّمناه من عبادة الصوم. ويكون حبّنا للطاعات الأخرى والتي تستدعي تضحيات وابتلاءات كحبّنا للطاعات في شهر الخير والمغفرة، ويكون إيماننا بالله ورجاؤنا بفرجه ورحمته وصدق وعده في باقي العبادات كإيماننا ورجائنا في رمضان المبارك.
ويكون إخلاصنا في أعمالنا وعباداتنا وابتغاء الثواب من الله سبحانه كما كان إخلاصنا وصدقنا في عبادة الصوم خالصة لوجهه الكريم. وهذا ما معناه تقوى الله في كل عمل!!
فإلى كل امرأة مسلمة، استغلّي شهر رمضان بتقوية نفسك وتحصينها لتُجهّزيها من جديد إلى باقي الطاعات خفيفة كانت أم ثقيلة، فتكون نفسك نقيّة تقيّة صافية، صلبة متينة، مقبلة على أوامر الله كلها مدبرة عن نواهيه. واجعلي زادك التقوى فهي خير زاد.
قال تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: 197]
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نسرين بوظافري