- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تعطيل الأحكام الشرعية بخداع المصطلحات
"مفهوم الوسطية والاعتدال" نموذجاً
عندما تُثار النقاشات حول فرضية تطبيق أحكام الإسلام في واقع حياة الناس؛ مثل: مسألة فرضية العمل السياسي لإقامة الخلافة الراشدة، أو طرد نفوذ الغرب الكافر المستعمر من بلاد المسلمين، أو شرح معنى التقيد بالحكم الشرعي على أنه إلزام، أو فرضية أمر الناس بالمعروف والنهي عن المنكر، أو قطع يد السارق، أو قضايا ساخنة في الإعلام الغربي كقتل الشواذ جنسياً وقتل المرتد وأحكام الجهاد؛ لا ينفك بعض المسلمين أن يجيبوا بعدة أجوبة، منها: "عندك هوس ديني"، "أنت تتاجر بالدين"، "لا تتدخل في حياة الآخرين"، "عليك أن تترك الناس على حريتهم"، "حاسب نفسك أولاً"، "لا تكن متطرفاً خليك معتدل"، "لا تكن متزمتاً"، "لا تكن متعصباً"، "لا تكن إرهابياً"، "لا يُؤخذ الدين بهذا التشدد"، "الدين يُسر وليس عُسراً"، "هذه نظرية المؤامرة"، "الإسلام دين التسامح والسلام"، "الإسلام دين الإنسانية"، "هذا يُعتبر تخلفاً ورجعية والناس تقدمت، لسنا في عصر الخيل"، "الإسلام دين الاعتدال والوسطية"... وحقيقة إنها أقوال مستهجنة وحجج واهية وفتنة عما أنزل الله تكاد تُخرِج من كان مقتنعاً بصحتها من ملة الإسلام أو أن تُحبط أعماله أو أن يستحق لعنة الله إن كان يستنكر تطبيق أحكام شرعية مثبتة ومعلومة من الدين بالضرورة وهو يعلم ذلك، يقول سبحانه: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد: 9]. ويقول تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ [المائدة: 49]. ويقول سبحانه: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾ [النساء: 115].
والأصل أن يقبل المسلم بجميع الأحكام الشرعية المثبتة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة بدون أي حرج أو نفور طالما قَبِل بالعقيدة الإسلامية أساساً لحياته وإلا وقع في المحظور كاليهود، فإن الله تعالى قال: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً﴾ [النساء: 46].
والحقيقة أن هذه المفاهيم دخيلة على المسلمين تنبثق عن عقيدة فصل الدين عن الحياة التي ترتكز على مفهوم أساسي مغلوط بأنه لا توجد حقيقة مطلقة بل إن الحقيقة نسبية، أي أن كل إنسان لديه قناعات وجميع هذه القناعات صحيحة بالنسبة لمعتنقها وبالتالي كل العقائد صحيحة والجميع على حق حتى عبدة الأصنام والشياطين والحيوانات والمادة! لهذه الدرجة يفصل الفكر العلماني وجود الله عن الحياة ويقر بالإلحاد وكل أنواع الشذوذ الفكري، حتى إنه ساوى بين الإيمان والكفر وبين الحق والباطل! هذا بالنسبة للعقيدة - الفكرة الأساسية عن الخلق والوجود في هذه الدنيا - أما بالنسبة لمسألة العيش المشترك بين الناس في العالم فالعلمانية تمنع تدخل الدين أو أن تؤثر عقيدة الشخص في الحياة العالمية المشتركة بين البشر، فعلى الشخص ترك معتقداته خارجاً وأن ينصاع في العيش المشترك وتنظيمه ومعالجاته إلى نظام الكفر الغربي الاستعماري كونه القوة العالمية الأولى اليوم. فكيف يتكلم بهذه القناعات من كان مسلماً موحداً وكيف يحاجج بها؟ ألا يعلم أنه يخدم مصالح الكفار بإقصائه المفاهيم الإسلامية عن حياته؟! وهذه الأفكار المضللة جعلت المسلم لا يرى غضاضة في عدم التزامه وعدم تمسكه بتطبيق شرع الله، ولا يرى غضاضة في انتهاك حرمات الله من حوله، كما جعلته "متعوداً" على غياب تطبيق الأحكام الشرعية في واقع الحياة والمواقف، وتحول المسلم من حامل لأمانة القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن مُستخلَف على الأرض، إلى شخص مستعبَد فكرياً ومنفصم الثقافة، لا يُفرق بين الحق والباطل بفطنة المؤمن وكياسته، ومقطوعة عنده الصلة بين العقيدة الإسلامية الراسخة الجازمة وبين الأنظمة المجتمعية، أفراداً وجماعات ودولة، فعقيدته إسلامية ولكن أمور حياته تحتكم لثقافة أخرى علمانية رأسمالية جعلت من المادة والمصلحة مقياس أعمالها، متلونة متناقضة تقر العبادات الفردية بأي شكل كانت بينما تكفر بأن لله تعالى، خالق الإنسان والحياة والكون، هو فقط من له الحق في التشريع وفي تنظيم أمور الناس جميعا في حياتهم وبعد مماتهم، فضاع من المسلمين بعد ضياع دولتهم هذا الربط بين عقيدتهم وبين مقياسهم الشرعي لجميع الأفكار والأعمال والأشياء، الذي يجب أن يكتمل حتى يحيا المسلم حياة إسلامية متكاملة، فالحكم لله وحده، والإقرار بالعبودية لله تعالى يستلزم تمسك المسلم بالحكم الشرعي وبتطبيقه في واقع أعماله وأقواله في جميع نواحي الحياة كفرد أو كجزء من المجتمع والدولة، قال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّـهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40].
إلا أن العلماني الكافر أو الليبرالي أو الشيوعي أو كل من يحمل الفكر الغربي لا يقر بأن الحكم على جميع أمور الحياة هو لله وحده ولا يقر بنبوة رسول الله ﷺ بل لا يقر بأن الدين يرتبط بحياة البشر وهذا مثبت في القرآن الكريم، فالكافر لا يعبد الله تعالى كما أراد الله تعالى بينما المؤمن يعبد الله كما أمره سبحانه أي بتطبيق وتنفيذ أوامره في القيام بالفروض وفي تجنبه للمحرمات وأمر الآخرين بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وهذا ما يكرهه الكافر في المؤمن، وهم شر الناس بفصلهم الدين عن الحياة وكفرهم بالحق: قال تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، وقال جل وعلا: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: 1-2]، وقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ [البينة: 6].
وأحكام الإسلام أحكام ثابتة وشريعة ربانية تامة ومنهج مكتمل أحكامه ماضية إلى يوم الدين وصالحة لكل زمان وكل مكان، وعقيدة الإسلام ليست نسبية ولا تقبل الشك والظن وبالتالي هي أساس متين وقاعدة فكرية قوية راسخة تنبثق عنها أحكام مختلفة خاصة بجميع أنظمة الحياة، وبتطبيقها في واقع حياة الناس يرضى الله تعالى عنهم وتتحقق بها العبودية لله وتتحقق بها سعادة البشرية في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾ [المائدة: 3]، وقال جل وعلا: ﴿قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [إبراهيم: 10].
أما من رغب عن تشريع الله رب العالمين من المسلمين فعمله غير مقبول ومعيشته ضنك، وليس للمؤمن أن يخجل من أحكام الله أو أن يخضعها لرأيه الشخصي أو لهوى البشر، وعليه الحذر من المعصية ومن الضلال فالله تعالى سائله، فلا يستقيم أن يعطي المسلم حق التشريع لمن كفر بالله ورسوله عليه الصلاة والسلام، عنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «مَنْ عَمِلَ عَمَلاً لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». رواه البخاري ومسلم. وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 124]. وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِيناً﴾ [الأحزاب: 36].
والمسلم اليوم بسبب هذا الانفصام بين عقيدته الإسلامية وبين الكيفية التي يعيش بها حياته وينظم ويعالج بها علاقاته وشؤونه بغياب الحكم بما أنزل الله تجده تارة يصلي ويصوم وتارة يدعو لتطبيق الديمقراطية الغربية في الدساتير، ويتبع لرموز الغرب وينبهر بالتقدم العلمي عندهم فينادي بأخذ شرائع الكفر وقوانينه العلمانية الرأسمالية الوضعية، متغاضياً عن حياة الانحلال والفجور والفواحش والانحرافات الأخلاقية في حياة الغرب "الحرة" ومتسامحاً مع اضطهاد المرأة الغربية في أمريكا وأوروبا على أنه قمة التقدم! بل وأصبح هذا المسلم يعتذر - نيابة عن الله تعالى وعن رسوله ﷺ - عن "شراسة" الأحكام، ويُبرر ويدافع عن النظرة الغربية العلمانية الرأسمالية للإسلام متجاهلاً الأدلة الشرعية في الآيات والأحاديث والاجتهاد؛ متجاهلاً تاريخ الإسلام العظيم وإمكانية نهضة المسلمين من جديد، ومستبعداً استعادة سيرة قادة وحُكام الإسلام العِظام الذين ساروا على نهج رسول الله ﷺ وصحابته الكرام رضوان الله عنهم أجمعين الذين أقاموا الخلافة من بعده، والخلفاء كعمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد والسلطان الفاتح وعبد الحميد، ومتشككاً في علماء المسلمين كالبخاري وابن تيمية، رحمهم الله، ويأخذ دينه عن علماء السلاطين أو شيوخ المتصوفة الذين خانوا وسكتوا على ساسة حكموا الناس بغير ما أنزل الله وسكتوا على تطبيق القوانين والاتفاقيات الوضعية الغربية وسكتوا على الظلم والقتل وحروب الإبادة المستعرة وتجويع الناس وسكتوا عن سياسات الاستعمار الغربي الكافر التي لا زالت تُطبق على المسلمين جبراً عنهم وعلى نهب ثرواتهم، وسكتوا على سرقة ثوراتهم وعلى الفساد، وسكتوا على رعاية الشؤون المفقودة في بلاد المسلمين، فلجؤوا لمن خانوا الأمانة وجعلوا يروجون في الإعلام لهذه الضلالات ويعملون على تجريم الإسلام وشيطنة المسلمين، فتحول عمل المسلم، استجابة لأمر الله تعالى، بالمطالبة بإقامة دولة الخلافة الراشدة التي تُطبق الإسلام سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في الحكم وفي التعليم وفي الخدمات، تحول إلى عمل مجرمين خطرين يريدون الهلاك للناس، وتحول نهب ثروات بلاد المسلمين وصمت الحُكام الرويبضات على الواقع الفاسد إلى أمر لا مفر منه اقتضاه الله تعالى على العالم يرفعه متى يشاء وما على الناس إلا الدعاء، كما أُقصيت بالنسبة له الأحكام الشرعية الخاصة بالنظام الاقتصادي في الإسلام حتى يقبل ذلك المسلم ضمنياً بإملاءات صندوق النقد الدولي والدولار والغلاء المعيشي والقروض الربوية، كما تحول تعدد الزوجات إلى انتقاص من كرامة المرأة واضطهاد لها، وتحول الجهاد إلى "عمليات إرهابية"، وفي النهاية أصبح هذا المسلم يشعر بالخجل من قتل المرتد ومن أحكام الميراث التي "تظلم المرأة" وأصبح يرى الزي الشرعي مظهرا "متخلفاً" يجوز تبديل شتى أنواع الأزياء به وأصبح يرى أن "الإيمان في القلب وبالنية" فقط لأن أحكام الإسلام لا تصلح للتطبيق في زمن "الحداثة" والنظام العالمي الجديد مع أن الأصل في المسلم استعداء الفكر الغربي الذي يدعو للكفر، قال تعالى: ﴿فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ﴾ [غافر: 14].
ونكرر أن العقيدة الإسلامية حقيقة مطلقة، والحقيقة عند المسلمين هي وجود الله الواحد الأحد الذي خلق الجن والإنس لعبادته باتباع أحكامه كأفراد ومجتمع ودولة وهذا حق الله تعالى على عباده، قال ربنا سبحانه: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].
وفي الصحيحين عَنْ مُعَاذٍ رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ رِدْفَ النَّبِيِّ ﷺ عَلَى حِمَارٍ يُقَالُ لَهُ عُفَيْرٌ، فَقَالَ: «يَا مُعَاذ؛ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَمَا حَقّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ؟». قلتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أعْلَمُ! قالَ: «فإنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ: أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَى اللهِ: أَنْ لا يُعَذبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً». فالعبادة شاملة جميع مناحي الحياة وهي حق لازم على العبد حتى يموت، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: 162-163]، وقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ﴾ [الحجر: 99].
لكن لا عجب في أن يتحول المسلم الذي يعيش في الواقع الفاسد اليوم إلى إنسان متناقض يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله لأنه يُحكم بقوانين الكفر ويعيش حياة الكفار بسبب الحُكام الطواغيت، فأكل الربا ونهب الثروات وهضم حقوق الناس والجرائم والانحلال والاقتتال قد أصبح الوضع الطبيعي في بلاد المسلمين التي تُحكم بغير ما أنزل الله. فهذا الانفصام بين أفكار العقيدة والسلوك هو نتيجة حتمية عندما يُجبر المسلم على أن يعيش حياته على أساس آخر غير نظام الإسلام ومن دون تطبيق للأحكام الشرعية في أنظمة المجتمع من حوله. وهذا التفكير هو تفكير "المسلم المعتدل الوسطي" الذي عملت الإدارة الأمريكية على برمجته وسلبت عقله وسيطرت على مشاعره باستخدامها أسلحة الغزو الثقافي الغربي في بلاد المسلمين في مناهج التعليم وفي الإعلام وبالمؤامرات السياسية التي تمررها عبر الحكام الطواغيت والسفارات الأجنبية المجرمة! وذلك واضح في عدة تقارير أمريكية مثل تقرير مؤسسة راند الذي أصدرته هذه المؤسسة البحثية وتدعمها المؤسسة العسكرية الأمريكية والتي تبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 150 مليون دولار - والذي يقع في 217 صفحة - والذي لا يطرح فقط أفكاراً جديدة للتعامل مع المسلمين وتغيير معتقداتهم وثقافتهم من الداخل تحت دعاوى "الاعتدال" بالمفهوم الأمريكي، ويطرح الخبرات السابقة في التعامل مع الشيوعية للاستفادة منها في محاربة الإسلام والمسلمين وإنشاء مسلمين معتدلين! بل إن التقرير يحدد بدقة مدهشة صفات هؤلاء "المعتدلين" المطلوب التعاون معهم بأنهم هؤلاء الليبراليون والعلمانيون الموالون للغرب والذين لا يؤمنون بالشريعة الإسلامية ويطرح مقياساً أمريكيّاً من عشر نقاط ليحدد بمقتضاه كل شخص هل هو "معتدل" أم لا، ليطرح في النهاية على الإدارة الأمريكية خططاً لبناء هذه "الشبكات المعتدلة" التي تؤمن بالإسلام "التقليدي" أو "الصوفي"، الإسلام التقليدي الذي لا يضر بمصالح أمريكا، خصوصاً في أطراف العالم الإسلامي (آسيا وأوروبا). وقد وضع الغربيون وأتباعهم من المسلمين نقاطاً خاصة يفرقون فيها بين ما يسمونه بـ"المسلم المتطرف" و"المسلم المعتدل" على أساس موقف كل منهما من القضايا التي تشكل تهديدا للغرب، وذلك على النحو التالي: المسلم المتطرف يقبل بعودة دولة الخلافة والمعتدل ضد عودتها، المتطرف يؤيد تطبيق الشريعة بينما المعتدل يعارض، المتطرف يعارض تطبيق بعض الشريعة ويطالب بتطبيقها كاملة والمعتدل يؤيد بصفة عامة الإصلاحات في الشريعة التي تتطابق مع مبادئ القرآن الأساسية مثل العدالة والإنصاف والتعاطف والود والشرف الإنساني بشرط تطابقها مع الأعراف والحقائق المعاصرة، على أساس النهج الغربي، فلا يرى غضاضة في تطبيق القوانين الوضعية الغربية ولا يقبل بأن تكون السيادة للشرع على الدستور في بلاده، بحجة فضفاضة بأنها قوانين لا تخالف مقاصد الشريعة، فالمعتدل يؤيد المساواة بين الأديان ولا يرى ضرورة لاتباع سنة رسول الله ﷺ حرفياً، ولا يعارض تطبيق النظام الديمقراطي الغربي، ولا يقبل قتل المرتد، ويدعم المساواة الغربية بين الرجل والمرأة، ويعارض أحكام الإسلام الخاصة بعلاقة الرجل والمرأة كالقوامة والطاعة والتعدد، ويقبل بأن يكون للكافر الغربي المستعمر سيادة على بلده، ويقبل بالتيارات الليبرالية، ويعتبر الجهاد عنفاً غير مبرر.. والمسلم المتطرف عكس ذلك كله وهكذا...
(للمزيد انظر تقرير مؤسسة راند للعام 2007 بعنوان: "تكوين شبكات إسلامية معتدلة").
فالمسلم المتطرف من يتبع نهج الله ورسوله عليه الصلاة والسلام.. (جميع المسلمين)!
والمسلم المعتدل الوسطي من ينظر إلى الإسلام من وجهة نظر الغرب.. (عملاء الغرب)!
إذاً لا بد للمسلم المخلص في إيمانه أن يدرك أنه قد وضع في قالب وأنها خطة قد رسمتها أمريكا له حتى يسير عليها مُغيباً غافلاً، وجعلت منه أداة وبوقاً "كالريموت كنترول" يحارب الإسلام بدلاً عنها، وذلك يحصل في أنحاء بلاد المسلمين المختلفة، والتي قسمها الغرب الكافر المستعمر إلى دويلات، بحجة تجديد الخطاب الديني والحوار بين الأديان وبحجة الاعتدال والوسطية والرأي والرأي الآخر و"مصالحة الإسلام مع الغرب" وكأن المشكلة في الإسلام، وتقريب وجهات النظر لتحيا البشرية في "عيش مشترك كريم" وفي الحقيقة أنها أحكمت قبضتها عليه واستعبدته ونهبته وجعلته بلا قرار وبلا دولة وبلا أمة! بل بلا إسلام.
والأدهى والأمر أن هناك علماء "وسطيين ومعتدلين" يبررون للكفار ويلوون النصوص الشرعية ويحرفون الفهم الصحيح للعقيدة الإسلامية فيأتون بأدلة من القرآن الكريم لتبرير هذه الضلالات وإلباسها لباس الإسلام، منها على سبيل المثال قول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ﴾. [البقرة: 143]. والقصد عندهم أن الإسلام دين وسطي معتدل يقبل بالنظرة الغربية للإسلام بينما جاء في تفسير ابن كثير للآية الكريمة؛ ونقتبس: "...والوسط ههنا: الخيار والأجود، كما يقال: قريش أوسط العرب نسبا ودارا، أي: خيرها. وكان رسول الله ﷺ وسطا في قومه، أي: أشرفهم نسبا، ومنه الصلاة الوسطى، التي هي أفضل الصلوات، وهي العصر، كما ثبت في الصحاح وغيرها، ولما جعل الله هذه الأمة وسطا خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، كما قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 78]. قال: الوسط: العدل، فتدعون، فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم. والوسط العدل، والأمة الوسط أمة عدل لتكون شاهدة على الناس، فالشاهد يجب أن يكون عدلاً: جاء في الحديث الصحيح: «.. فقَالَ النَّبِيُّ ﷺ الْمَلَائِكَةُ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي السَّمَاءِ، وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الْأَرْضِ». أي مما يسبق يظهر أن معنى الوسطية في لغة العرب وفي نصوص الشرع هو الخيرية والعدالة والفضل، وقد جعل الله تعالى الأمة الإسلامية وسطا، أي أنه سبحانه قد خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب، وليس المقصود أنها وسط بين بينين؛ بين خير وشر، بين رأسمالية واشتراكية، بين كفر وإسلام أو بين إيمان وشرك! فالمدقق في الآية الكريمة يجد أن وصف الوسط هو وصف للأمة وليس وصفا للإسلام ليميز الإسلام "الوسط" أو المعتدل عن الإسلام "المتشدد" أو"المتطرف" أو"الإرهابي"!
إن مصطلحات الوسطية والاعتدال في مفهوم الإعلام والثقافة وأفكار بعض الناس اليوم هي مفاهيم خطرة مدسوسة على المسلمين وهي دعوة صريحة إلى تحريف الإسلام لتغييره إلى دين آخر يرضى به الغرب الكافر المستعمر بقيادة أمريكا. فالوسطية والاعتدال عندهم تعني التنازل عن أحكام الإسلام التي لا تتوافق ومصالح الغرب في بلاد المسلمين من مثل: نظام الحكم في الإسلام والنظام الاقتصادي في الإسلام والنظام الاجتماعي في الإسلام والدستور ومناهج التعليم، وهذا كفر وليس وسطية، قال تعالى: ﴿وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ﴾ [البقرة: 120]، وقال تعالى: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ﴾ [البقرة: 217].
أما ربط العقيدة الإسلامية بأنظمة المجتمع وتطبيق الأحكام الشرعية في كافة مناحي الحياة بشكل عملي وفعلي فلن يتحقق إلا بإقامة دولة الخلافة الراشدة وهي الكيان السياسي التنفيذي ونظام الحكم في الإسلام فيها السيادة المطلقة للشرع، وأساس دستورها العقيدة الإسلامية فقط، ومصادر القوانين فيها القرآن الكريم والسنة وما أرشدا إليه فقط، وعلى حاكم المسلمين تنفيذ جميع أحكام الله جل وعلا ورسوله عليه الصلاة والسلام، ودولة الخلافة الراشدة هي التي ستنهض بالأمة الإسلامية وستوحدها وستطرد النفوذ الغربي من بلاد المسلمين إن كان في شكل غزو ثقافي أو إعلامي أو عسكري أو سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي... كما هو الحال اليوم. وهذا الربط يتحقق برد جميع القضايا في حياة الناس لإيجاد الحلول والمعالجات وتنظيمها ورعاية شؤون البشرية جمعاء برد جميع القضايا لشرع الله خالق الإنسان والحياة والكون، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ [النساء: 59].
ووسط كل هذه المؤامرات والجائحات والمصائب، على الناس أن يحاسبوا أنفسهم وأن يستمعوا لنصيحة المخلصين ومن يعمل لإقامة الخلافة الراشدة استجابة لأمر الله تعالى وعلى طريقة رسول الله ﷺ ففي ذلك النجاة وسبيل الخلاص. قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ * وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ الله إِلَهاً آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾ [الذاريات: 50-51].
والله المستعان وعليه التكلان..
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
غادة محمد حمدي – ولاية السودان