- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الابتلاء للمؤمن حاصل لا محالة؛
أحسنوا ضيافته فإنّه عابر سبيل
يُدرك كل ذي عقل وفهم أنّ هذه الحياة الدنيا ما هي إلا دار امتحان واختبار؛ فقد بُنيتْ وأُسستْ على ابتلاء النّاس لِامتحان صبرهم، وتمحيص أعمالهم، واختبارهم بالشدائد للكشف عن معادنهم، فإنْ هم تجاوزوا فَتَرات الابتلاء بنجاحٍ رُفعتْ قيمتهم في الدّنيا والآخرة، وإلّا خسروا كلَّ شيء!
قال الله تعالى: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾، وقال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾، وقال تعالى أيضا: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
فتربية الناس بالبلاء وامتحانهم بالمخاوف والشدائد وبالجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات أمر حتمي ولا بدّ منه للتمحيص وليصلب عود المرء ويقوى فيكون جديرا بمرضاة الله ونوال كرمه. وكما يقول سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن في تفسير الآية الأخيرة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ...﴾: "فالشدائد تستجيش مكنون القوى، ومدخور الطاقة، وتفتح في القلوب منافذ ومسارب ما كان ليعلمها المؤمن إلا تحت مطارق الشدائد. والقيم والموازين والتصورات ما كانت لتصّح وتدّق وتستقيم إلا في جو المحنة التي تزيل الغبش عن العيون والران عن القلوب. وأهم من هذا كله، أو القاعدة لهذا كله: الالتجاء إلى الله وحده حين تهتز الأسناد كلها، وتتوارى الأوهام - وهي شتى - ويخلو القلب إلى الله وحده لا يجد سنداً إلا سنده. وفي هذه اللحظة قد تنجلي الغشاوات، وتنفتح البصيرة، وينجلي الأفق على مد البصر: لا شيء إلا الله، لا قوة إلا قوتُه، لا حول إلا حولُه، لا إرادة إلا إرادتُه، لا ملجأ إلا إليه...".
إذن يُبتلى المرء ولا هروب من البلاء ليدرك حقيقة الدنيا وزيفها وأنها متاع الغرور وأن الحياة الحقيقية الدائمة بعد هذه الدنيا، حياة لا نصب فيها ولا وصب؛ يُبتلى المرء ليُنقّى من ذنوبه وليُغفر عن زلاته وليرفعه الله درجات عنده وتكون له عقبى دار الأخيار، ولذلك كان على قدر عظم الامتحان عظم الثواب.
قال رسول الله e: «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» رواه الترمذي وقال: حديث حسن. وقال e: «أَشَدُّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ». أخرجه الإمام أحمد وغيره.
إنّ الواجب على العبد حين وقوع البلاء أن يتيقن أنّه من عند الله فيسلم الأمر له؛ فيلتزم شرعه ولا يخالف أمره؛ فلا يتسخط ولا يسب الدهر، بل يستغفر الله ويتوب إليه مما أحدث من الذنوب ويتعاطى الأسباب لدفع البلاء، وهو موقن أنّ مع العسر يسرين وأنّ الفرج آت لا محالة.
وإنّ من الأمور التي تخفف البلاء على المبتلى وتسكن الحزن وترفع الهمّ وتربط على القلب، اللجوء إلى الله وطلب عونه، وإدراك عاقبة الصبر والرضا بالقضاء، فيكثر المبتلى من الصلاة والدعاء وسائر الخيرات وهو يعلم علم اليقين أنّ دوام الضيق مُحال، وأنّ للبلاء خيراً يعقبه فيعمل بنصيحة ابن الجوزي رحمه الله ويعتبر البلايا ضيوفا؛ عليه أن يحسن قِراها حتى ترحل إلى بلاد الجزاء مادحة لا قادحة، فلولا البلايا لوردنا القيامة مفاليس.
وليكن حالنا مثل ذلك الرجل الصالح الذي أصابه شلل نصفي وكان الدّود يتناثر من جنبيه، وهو أعمى وأصمّ، ورغم كل ذلك ما فتئ يحمد الله الذي عافاه ممّا ابتلى به كثيراً من خلقه، يحمده أنّه أطلق له لساناً يوحّده وقلباً يذكره في كلّ وقت وحين...
فاللهمّ إنّنا أدركنا أنّ هذه الحياة الدنيا إلى زوال وأنّ العاقبة للمتقين...
فاللهمّ أحينا بالإسلام وأمتنا عليه واجعله الغالي النفيس عندنا واجعلنا من جنودك الفدائيين الذين يسترخصون أرواحهم من أجل نصرة دينك...
اللهمّ ارزقنا الصبر والرضا والقناعة والأجر والعافية...
اللهمّ اجعل ابتلاءك لنا منحة وثوابا وارزقنا النجاح في اختبار الآخرة...
اللهمّ اجعل في ديننا صلابة وقوّ عزائمنا وثبت يقيننا فيك...
اللهمّ كن وليّنا، اللهمّ كن وليّنا، اللهمّ كن وليّنا؛ فذلك حسبنا...
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
هاجر اليعقوبي