- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
بين الحادي عشر من تموز/يوليو والحادي عشر من أيلول/سبتمبر
مجتمع دولي منافق ومنظّمات دولية مشلولة
هل تظنون أن مجزرة سربرينيتشا بالبوسنة والهرسك قد انتهت؟!
لا، لم تنته فصولها بعد؛ فهناك من لا يزال يُعلّق آماله على الأمم المتحدة ومؤسساتها والمجتمع الدولي ومجلس أمنه ومحكمة الجنايات الدولية، لضمان تحقيق العدالة وملاحقة الجناة ونشر السلام في العالم!
إنّ الجريمة التي ارتكبتها الأمم المتحدة في منطقة سربرينيتشا بالبوسنة لا تقلّ فظاعة عن جريمة الصرب الذين أعدموا 8000 شخص واغتصبوا النساء ونكّلوا بجثث الشيوخ والأطفال، منهم من دفن حيّا وهو يتشحّط بدمه.. فالخيانة جريمة عظمى، والأمم المتحدة قد خانت سربرينيتشا وتواطأت عليها وشاركت الصرب في جريمتهم رغم ما تدّعيه اليوم من أسف وشجب ومواساة عن طريق منظّماتها ومعوناتها وتقاريرها، وها هو ربع قرن قد مرّ ولا شيء تغيّر، غير أنّ جرح البوسنة ما زال يكبر ما دام رفات 3000 آلاف شخص مفقودا، وما دامت 3000 أسرة تعيش الألم نفسه منذ 25 عاما ولا تعرف أين جثث أبنائها، وما دام الجناة يتجوّلون بلا عقاب ولا حساب، وما دامت جائزة نوبل للسلام تُمنحُ إلى الأديب الصربي بيتر هاندكه لعام 2019م، وهو من أيَّد علانية الجناة الذين ارتكبوا المذابح التي وقعت في حق المسلمين في كل المنطقة، وتمنى في حديث علني نقله تلفزيون بلغراد أن يكون "راهباً أرثوذكسياً يقاتل من أجل كوسوفو"، حتى إن وزير خارجية كوسوفو السابق بيتريت سليمي قال متهكماً على منحه الجائزة: "ماذا بعد؟ جائزة السلام لبشار الأسد؟".
والمحبط في كلّ هذا أن سربرينيتشا قد كبرت ونمت حتى امتدت إلى ميانمار والغوطة والموصل وليبيا واليمن وميدان رابعة... وما زالت الأمم المتحدة تندّد وتشجب من مبناها الفخم الذي يجاور تمثال الحريّة رمز الإنسانية وسط نيويورك بأمريكا أمّ الإرهاب!! والأخزى أنّ الدول التي تقود المجازر والحروب أو تساندها هي نفسها الدول الأعضاء في المجتمع الدولي المتعهّدة بالمحافظة على السلام والأمن وفضّ النزاعات بين الدول!
وهذا ما حصل في منطقة سربرينيتشا منذ 25 عاما، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1989م وانحلال الاتحاد اليوغوسلافي على إثره، والذي كان يضمّ 6 دول وهي البوسنة والهرسك وصربيا وكرواتيا ومقدونيا والجبل الأسود، أعلنت البوسنة والهرسك استقلالها وقاطعتها فيه نسبة كبيرة من الصرب الذي كانوا يطمحون إلى تأسيس جمهورية صربيا العظمى! وحينما رفض البوسنيّون الانضمام شنّت صربيا حرب إبادة وتطهير ضدّ البوسنيين (المسلمين) لمدّة استمرّت 3 سنوات ارتكب فيها الصرب أبشع الجرائم وأفظعها ليحيوا من جديد تاريخ قبائل الغال والسكسون المتوحّشين.
تدخلت الأمم المتحدة تدخّلاً باهتاً في الحرب؛ فأعلنت مدينة سربرينيتشا المحاصرة وما حولها (منطقة آمنة منزوعة السلاح) وفقاً للقرار رقم 819 في 16 نيسان/أبريل 1993م؛ وتحت وطأة الحصار الخانق والجوع والظروف القاسية، اجتمع في المدينة أكثر من 50 ألف لاجئ ولاجئة من جميع أنحاء البوسنة؛ دخلت قوات حفظ السلام الهولندية وعددها 600 جندي وقامت بجمع السلاح من أهالي مدينة سربرينيتشا المسلمين وسلموها للصرب؛ وهنا تبدأ المجزرة وتبدأ فصول خيانة الأمم المتحدة، فيما بدا المجتمع الدولي مشلولا لا يحرّك ساكنا تاركا منظمته الدولية تمارس نفاقها وتواطؤها.
عصر الحادي عشر من تموز/يوليو ظهر الجنرال الجزار الصربي ميلاديتش على قناة بي بي سي وهو يتوعد المسلمين بالانتقام قائلاً: "على المسلمين بعد اليوم أن يَعُدّوا أحياءهم وليس أمواتهم".
بعد هذا التهديد السافر المتوحّش؛ لجأ معظم سكان المدينة، بالإضافة إلى النازحين من القرى المجاورة، إلى مبنى الأمم المتحدة على أمل أن يكون النجاة من الموت المُحتّم. وحسب شهود عيان، كان تعداد من لجأوا إلى مبنى الأمم المتحدة بين 20 إلى 25 ألفاً من المدنيين العُزّل. وفور دخول القوات الصربية المجرمة إلى المدينة، وأمام اختفاء أي ردّ فعل دولي وأمميّ؛ أخذوا 30 جندياً من قوات حفظ السلام الهولندية كرهائن في مسرحيّة بوليوديّة، ثم طلب ميلاديتش الاجتماع بقائد القوة الهولندية الكولونيل كاريمانس بشكل فوري وعاجل.
ظهر الرجلان في الاجتماع وهما يتهامسان بهدوء وتوافق، ثم قرر قائد قوات (حفظ السلام) تسليم آلاف المدنيين العُزّل غنيمة سهلة إلى وحوش الإجرام الحاقدين مقابل (الرهائن) الهولنديين.. وهكذا خانت قوات حفظ السلام المكلّفة من الأمم المتحدة البوسنيين بعد أن جرَّدتهم من أسلحتهم، وبعد أن استنجدوا بها وسلّمتهم للسفاحين الذين ارتكبوا الفظاعات على مقربة من القوات الهولنديّة، فيما اكتفت الأمم المتحدة بالمراقبة في صمت، أما المجتمع الدولي الذي تسمح صلاحيّاته بالتدخّل العسكري لفضّ النزاعات، فقد وقف يُشاهد أفظع مذبحة في التاريخ الأوروبي الحديث ولم يُحرّك ساكنا.
لسنا نحن من ننتظر تدخّل أمريكا وروسيا والصين وفرنسا وبريطانيا بوصفهم الدول دائمة العضوية في المجتمع الدولي لإنقاذ المسلمين البوسنيين، فيما تقطر أياديهم من دماء المسلمين في اليمن وسوريا والعراق وأفغانستان ومالي وتركستان الشرقية وغيرها من بلاد المسلمين المنتهكة! فهل نتعامل مع المنظمات الأممية بحسن الظن وتعليق الآمال فيما تتماهى هذه المنظمات سياسيا واستراتيجيا مع الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتنفّذ أجنداتها وتُمارس النفاق على أعلى مستوى، فتسرد البيانات والتقارير وكأنها هي الحقيقة التي لا تعلوها حقيقة، وتسنّ القوانين والاتفاقيات وكأنها شرائع مُنزلة، وتُنظّر وتؤيد وتعاقب وكأنها القدر المحتوم، فيما يظهر تواطؤها في كل مصيبة ويُكشف خبثها وتُفضَح خيانتها؟! ولكن، يبقى السؤال: ما جدوى هذه المنظمة الدوليّة في حياة المسلمين؟
"إنني أتفهم خيبة أملكم، ولكنكم في وضع أفضل من عشرة أماكن أخرى في العالم، وأستطيعُ أن أعدد لكم القائمة"!! بمثل هذه الكلمات السخيفة، وبّخ بطرس غالي الأمين العام للأمم المتحدة أهالي البوسنة إبّان الحرب عليهم، في موقف هزيل ومخز، لتصل الرسالة لنا بشكل أوضح ونحن في عام 2020م، فالقائمة التي تحدث عنها بطرس طالت وتمدّدت، ومجرمو الصرب تكاثروا ونموا حتى صاروا من بني جلدتنا ويتحدثون بألسنتنا، من حكّام ووزراء وجنود، فماذا فعلت لنا الأمم المتحدة؟!
لقد تمّت مجزرة سربرينيتشا على مقربة أو قُل على مرأى من قوات حفظ السلام، فماذا عن خيانة الأمم المتحدة للبوسنة؟ من سيلاحق جريمتها ويعاقبها ويفضح تواطؤها؟ تروي ناجية بوسنية تدعى زمرة سيهوميروفيتش قائلة: "شاهدتُ الجنود يأمرون صبياً باغتصاب أخته التي لم تبلغ التاسعة من العمر، ولما رفض قتلوه شر قتلة. حدث هذا بجانب القاعدة الهولندية، وقد شاهدتُ هناك عمليات رهيبة لقطع الرؤوس وأشخاص يُقتلون". وتكمل زمرة شهادتها المؤلمة: "شاهدتُ كيف قتل الصرب طفلاً في حوالي العاشرة من عمره، كان الصرب يرتدون الزي العسكري الهولندي.. قُتل الصبي وهو بين ذراعي أمه، كان جسده لا يزال بين يديها ورأسه على سكين جندي صربي يقطر دماً أراد أن يريه للجميع"!
وهنا نقف على مفارقة مخزية، هل يمكننا أن ننسى صبيحة الحادي عشر من أيلول/سبتمبر وكيف اهتز العالم لاستهداف برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك ومبنى البنتاغون في واشنطن، وكيف كان حجم التغطية الإعلامية والدولية وكثافة موادها ووسائلها؟ وكيف انشغلت كل الجهات السياسية الإقليمية والعالمية بالتحليل والدراسة والاستقصاء، وكيف عرضت الإذاعات والمجلّات والتلفزيونات هذه الحادثة وكأنها أزمة كونيّة؟! وكيف تحدّث العالم عن خسائر أمريكا وكيف دعموها وتعاطفوا معها وتداعوا جميعا على قصعتهم ينهشون ويقطعون ويمزّقون في جسد هذه الأمة المكلومة؟!
رغم مرور 19 عاما على هذه الأحداث (ولم تكن مجزرة سربرينيتشا إلا قبلها بـ6 سنوات فقط) لا زال العالم يتحدث عنها كأنها البارحة، ولا زالت التحاليل والتقارير تترصد حيثياتها، ولا زالت أمريكا أمّ الإرهاب تعاقب من اتهمتهم بهذه الحادثة وتشن الحروب العسكرية والاقتصادية على الشعوب المسلمة بحجة التصدي للإرهاب؛ إذ جعلت من أحداث ١١ من أيلول بوابة للانتقام ومبررا للقتل والتدمير واستعمار الشعوب... وها هي الأمم المتحدة على قدم وساق، تسنّ قوانينها ضدّ الإرهاب وتنفّذ أجنداتها لدعم سلام أمريكا وتدعم المجتمع الدولي بالتدخل العسكري في أي منطقة يراها تُهدّده وتشرف على عمليات تسليم الأسلحة وتدور مع أمريكا حيث دارت ولسان حالها: ما ضاع حق وراءه مُطالب!! ألم تشبع أمريكا من دماء المسلمين؟! ألم تشبع روسيا وبريطانيا وفرنسا والصين؟!
إنّ هذا الحقد الأيديولوجي الذي يقود هذه الدول لتقتيل المسلمين هو نفسه الذي دفع الصرب لتقتيل البوسنيين، حقد على الإسلام والمسلمين، حقد فيه خشية من توحّدنا، لذلك تكون ردّة الفعل لتفريقنا دمويّة حالكة.
إنّ مجزرة البوسنة لن تمحى من ذاكرتنا، وكذلك هي مجازر بورما والموصل والغوطة وليبيا وغيرها من بلاد المسلمين التي قُطّعت أوصالها ولا ينفع معها استجداء بمجتمع دولي ولا بمنظماته، هذه الذكريات لا تُمحى ولكن قد تطيب جراحها حينما تكون للمسلمين دولة تجمعهم وتحميهم وتحفظ بيضتهم وتقطع يد كل من تسوّل له نفسه التعرّض لأي مسلم، فدماء المسلمين حرمتها عظيمة عند ربّنا وهي أشدّ حرمة من بيته الحرام، وأحكام ربّنا بعظمتها لا تسمح بإهدار هذه الدماء بظلم وبغير حق، ومتى أهدرت أحكام ربّنا أهدرت دماؤنا!
أيها المسلمون، يا أهل البوسنة المكلومين، ويا أهل فلسطين والعراق وسوريا واليمن وأفغانستان وسائر بلاد المسلمين:
وحدها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة من تعيد هيبتكم في قلوب أعدائكم وتجمع شتاتكم وتوحّد صفوفكم وتثأر لكم، إنّها امتداد لدولة نبيّكم ﷺ ونصر من الله وفتح قريب.
﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ﴾
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نسرين بوظافري