- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
صندوق النقد الدولي أداة استعمارية لإفقار البلاد والعباد
بات صندوق النقد الدولي اليوم، الخيار الأكثر صعوبة للدول العربية والفقيرة، للحصول على قروض مالية، بعد فترة من التسهيلات في منح الائتمان، خلال فترة الأزمة المالية العالمية.
مردّ هذه الصعوبة أنه مقابل الموافقة على قرض مالي، ضمن برامج (الإصلاح) المكلفة على الدول والشعوب، تبدأ من رفع الدعم عن السلع الرئيسة ولا تنتهي بتعويم العملة المحلية لبعض الدول. وساهم الصندوق، في إقراض العديد من الدول العربية في محطات عدة بعد ثورات الربيع العربي، بهدف دعم اقتصادات تلك الدول وتنشيطها، بناء على طلباتها. ووفق حسابات وكالة الأناضول، فقد بلغ إجمالي ما تم اقتراضه من جانب الصندوق خلال السنوات العشر الماضية، لكل من مصر والمغرب وتونس والعراق والأردن واليمن وموريتانيا نحو 54.39 مليار دولار.
تظهر رحلة حصول معظم الدول العربية على القروض مقابل برامج إصلاح اقتصادي، أن وصفة واحدة يضعها الصندوق للجميع تقريبا. هذه الوصفة تتمثل في رفع الدعم عن الوقود والكهرباء، وخصخصة شركات حكومية، وتنفيذ زيادات ضريبية، وقد أسقطت الحكومة الانتقالية في السودان بشكلٍ كليّ دعم الكهرباء في إعدادات موازنة عام 2022. في حين أبقت على دعم الخبز والغاز في الموازنة حسبما كشفت صحيفة الانتباهة، وأوضحت الصحيفة أنّ الحكومة تخلّت على دعم الكهرباء، لجهة أنّها آخر خطوة في مشوار روشتة صندوق النقد الدولي ضمن مجموعة إصلاحات نفذّتها، ويراقبها الصندوق، منها خفض قيمة العملة، وتحرير المحروقات على أمل الخروج من أزمة اقتصادية طويلة الأمد وجذب تمويل أجنبي.
ولم تتعظ هذه الحكومة الانتقالية ممن كان قبلها؛ حكومة الإنقاذ، التي سارت وراء هذا الصندوق، وكان السبب الرئيسي للإطاحة بها من سدة الحكم بعد رفعها للدعم عن السلع الحيوية كالخبز والوقود، زائدا عامل الندرة والصفوف فها هي الحكومة الانتقالية تسير على الوتيرة نفسها، بل بخطا أسرع، ففي هذه الفترة الوجيزة رفعت الحكومة الدعم عن الوقود قرابة الأربع مرات، ثم إنها حددت في الميزانية القادمة بأنها سترفع الدعم عن الكهرباء والتي رفع عنها الدعم قبل شهور قليلة! هذا هو حال الرويبضات العملاء ينصاعون لمثل هذه الصناديق ويتبعونهم تبعية عمياء، وفي النهاية ستلقى حتفها جراء الانصياع التام لهذا الصندوق المأفون، وهكذا الحال في باقي الدول التي وقعت في مصيدة صندوق النقد الدولي.
تبدأ هذه المصيدة بالقروض حتى تستدرج تلك الدول مغيبة الوعي تماما حتى تفرض عليها سياساتها الخبيثة وأولها رفع الدعم عن السلع الضرورية. فصندوق النقد الدولي هو أداة التحكم الاقتصادي ضد الشعوب والبلدان التي تهيمن عليها الولايات المتحدة، إذ تمتلك فيه الحصّة الكبرى (16.74%)، كما تملك حقّ الفيتو واتخاذ القرار والتوجيه، إلى جانب 4 دول من أصدقائها، هي اليابان (6.23%)، وألمانيا (5.81%)، وفرنسا (4.29%)، وبريطانيا (4.29%). فما من دولة حصلت على قرض من الصندوق، واستطاعت إعادة اقتصادها إلى الحالة التي كانت عليها. وفي الغالب، تعجز الدول عن تحقيق نهضة اقتصادية أو تنموية؛ لأن القرض يدمّر الاقتصاد الوطني لأيّ دولة، ويتسبّب بشكل مباشر بتآكل الطبقة الوسطى، ويلقي بها في أحضان الفقر. وفي الوقت نفسه، تنقسم طبقة الأغنياء، بعضها يهبط، والبعض الآخر تتضخَّم ثرواته بشكل كبير.
وفي الوقت الذي تنظر الدول النامية إلى صندوق النقد باعتباره منظومة ماليّة ضخمة تهرع إليها عندما تتعثّر اقتصاديّاً، بغرض الحصول على قرض إنقاذي لتطوير البنى التحتية الأساسيّة، كمحطات الكهرباء والطرق والموانئ والمطارات والمدن الصناعية، كسبيل للنهضة مجدداً، يفرض الصندوق شروطاً قاسية تتجاهل حقوق الإنسان، بل إنها تقضي عليها بالكامل، كما تهدر طاقات الدولة وإمكانياتها، وتؤدي بها إلى المزيد من الأزمات المتلاحقة.
في مقابل ذلك، يُعتبر الصندوق والدول التي تمتلك حصصاً فيه الرابح الأكبر من هذه الصفقات المشبوهة، سواء أكان ذلك على الصعيد السياسي أو الاقتصادي. والشّروط التي تفرضها الجهات الدائنة تُجبر تلك الدول على التعثّر بعد بضع سنوات بهدف تحقيق أبعاد استراتيجية خطيرة، تتلخّص بالسيطرة على مواردها. وهناك وصفات ثابتة لصندوق النقد وهي كما يلي:
1- تحرير سعر الصرف ورفع كلّ أشكال الدعم، وخصوصاً عن السلع والخدمات الأساسية، كالطحين والكهرباء والماء والنقل...
2- التركيز على رفع الدعم عن المحروقات، مع ما ينتج من ذلك من زيادة في أسعار البنزين والمازوت قد تتجاوز 5 أضعاف، دون الأخذ بتداعيات الأمر وانعكاساته على القطاعات الاقتصادية والإنتاجية والاستهلاكية.
3- ترسيخ نموذج اقتصاد الريع والاستهلاك على حساب القطاعات الإنتاجية، وخصوصاً الزراعة والصناعة والأدوية والمواد الغذائية. وتُعتبر السياسات الماليّة أهم ركائز هذا النظام، بصرف النظر عن البعد الاقتصادي المرتبط بالتنمية والبرامج.
4- تقليص برامج التقديمات الاجتماعية، وصولاً إلى إنهاء كل الحمايات الاجتماعية، وخصوصاً التقديمات الصحية والتربوية المدرسية والشؤون الاجتماعية.
5- تقليص حجم القطاع العام، والعمل على إعادة هيكلة الرواتب، أي خفضها وتقييدها، وبالتالي منع أي زيادة عليها، مهما أصبحت نسبة التضخم، إضافةً إلى إعادة النظر في المعاشات التقاعديّة تمهيداً لإلغائها.
6- زيادة معدلات الضريبة على القيمة المضافة بنسبة تتراوح بين 5% و10% على الأقل.
7- رفع مستوى الضّرائب ليصل إلى 20% من الناتج المحلي، وفرض زيادة على جميع أنواع الضرائب.
8- تصفية المؤسَّسات المتعثرة حتى ضمن القطاع الخاص.
9- اعتماد النمو على الدين والاستدانة.
في المحصّلة، تكمن خطورة الموضوع في أنّ عمل صندوق النقد لا ينتهي بانتهاء القرض، بل يبدأ حينها تحت عنوان "المراقبة ما بعد البرامج"، بحيث يصبح الاقتراض هو الوسيلة المطلوبة للعيش واستمراريّة الماليّة العامة للدولة، مع بدء المديرين التنفيذيين الذين يعيّنهم الصندوق بالتحكّم بالقرارات النقديّة والماليّة والاقتصاديّة، لرهن البلاد بشكل كامل والسيطرة على القرار السياسيّ مقابل القروض الماليّة، وليس، كما يروّج البعض، بأنّ الأموال ستساعد لبنان على النهوض مجدداً على سبيل المثال.
نماذج حيّة:
1- الإكوادور: في العام 2019، وقّعت الإكوادور اتفاقيّة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض بقيمة 4.2 مليارات دولار لمدة 3 سنوات. وكانت شروط الصندوق تتمثل بطرد الموظّفين من القطاع العام، ورفع الضرائب، وخفض الاستثمار العام، وتقليص الموازنة 6% نسبةً إلى الناتج المحلي، وكانت النتيجة ارتفاع خط الفقر من 50% إلى 70%، ونسبة البطالة من 15% إلى 70%، إضافةً إلى ارتفاع الدين العام إلى 16 مليار دولار، وتخصيص 75% من ميزانيتها لسداد الديون.
أمّا الهدف الذي تحقق، فهو إغراق الإكوادور في الديون لاستغلال ثرواتها، وخصوصاً بعد التأكّد من توفر مخزون كبير من النفط الخام لديها، ووجود احتياطي تؤكّد الدراسات أنّه منافس من حيث الكمّية لنفط الشرق الأوسط، ويشكّل أحد بدائله، بحيث أصبحت حصّة الشركات الأمريكية اليوم تعادل 75 دولاراً لكلّ 100 دولار ناتجة من الخام في البلاد.
2- الأرجنتين: حقّق صندوق النقد في الأرجنتين فشلاً ذريعاً، ولم يستطع فرض الحد الأدنى من التوازن الاقتصادي والاجتماعي المطلوب، بحيث ارتفع الدين العام من 241 مليار دولار إلى 321 مليار دولار، وانخفضت قيمة العملة بشكل حاد، وارتفعت معدلات الفقر من 35% إلى 47%، كما ارتفعت الأسعار بمعدّل 7% شهريّاً، ما أدى إلى انخفاض القدرة الشرائية.
3- اليونان: بلغ الدين العام في اليونان ما يقارب 180% من الناتج المحلي بعد توقيع الاتفاق مع الصندوق، ورافق ذلك ارتفاع نسبة البطالة، وانخفاض عدد السياح، وإثقال المصارف بقروض غير مسدّدة، فضلاً عن الفضائح التي نُشرت في "ويكيليكس" عن مخطط التآمر على اليونان من قبل المشرفين على الملف المالي، وتسليم البلاد ورهنها وإخضاعها لشروط البؤس في صندوق النقد.
4- تونس: غذّى صندوق النقد الفساد في تونس، وكان العنوان العريض للتجربة هو "غياب التخطيط"، فخفضت التقديمات الاجتماعية عشوائيّاً، وجرت خصخصة قطاعات الدولة وأملاكها، وفرضت الدولة ضرائب إضافية، كما انخفضت قيمة العملة. كل هذا من أجل قرض بقيمة 1.740 مليار دولار. وعندما طلبت تونس تجديد القرض مع زيادة قيمته إلى 2.8 مليار دولار، ازدادت الشروط السياسيّة تحت عناوين وأهداف اقتصادية.
5- الأردن: رغم أنّ تجربة الأردن مع صندوق النقد ما تزال حديثة العهد، إذ حصلت البلاد على قرض بقيمة 1.3 مليار دولار العام الماضي، فإنَّ تداعياتها ظهرت بسرعة، إذ تراجعت القدرة الشرائية، وانخفض الحد الأدنى للأجور وسط تجاهل حقوق العمال، وازدادت الضرائب. والنتيجة كانت أنّ الاقتصاد ما يزال يحتضر.
6- مصر: يَعتبر صندوق النقد الدولي أنّه حقّق تجربة ناجحة في مصر، لكن مقابل تحقيق نمو إيجابي بنسبة 4%، زادت نسبة الفقر من 30% إلى 46%، وارتفعت أسعار الأدوية، كما زادت الضرائب، وانخفض الإنفاق العام على الصحة والتعليم. ويهدف إغراق مصر في الديون إلى السيطرة على مصادر الغاز المهمة جداً، وخصوصاً بعد اكتشاف حقل ظهر في شرق سواحل المتوسط. ورغم ما تجنيه البلاد من ويلات جراء الالتزام بسياسات الصندوق القاتلة، إلا أن المسؤولين في الدولة يؤكدون التزامهم الكلي بما يمليه الصندوق.
إن الخروج من كل أشكال الهيمنة الاستعمارية التي تمارس على الأمة، تحت مسميات شتى من قروض وغيرها، هو بالوقوف ضد الارتماء في أحضان صناديق المال الدولية، والعمل في الأمة ومعها للانعتاق من المنظومة الرأسمالية، والعودة لنظام الإسلام، في دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة؛ التي تحرر الشعوب وتبسط العدل في ربوع العالم.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
عبد الخالق عبدون علي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية السودان