الإثنين، 28 صَفر 1446هـ| 2024/09/02م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية
  •   الموافق  
  • كٌن أول من يعلق!

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

كتاب "الدولة المستحيلة"

مغالطاتٌ وضلال، وخيالٌ محال

 

عرضت قناة الجزيرة في برنامجها "المقابلة" في 12 و19 كانون الأول 2021 مقابلة مع الدكتور وائل حلاق في حلقتين حول كتابه "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي". والكتاب أصدره الدكتور حلاق بالإنجليزية عام 2012. وترجمه الدكتور عمرو عثمان إلى العربية، ثم أصدره "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" عام 2014، وهذا المركز تابع لقطر ويرأسه عزمي بشارة. وقد تم الترويج للكتاب فور صدوره، فكتِب حوله الكثير، في مواقع كالجزيرة وغيرها. وعقدت لمناقشته ندوات شارك فيها أساتذة جامعيون في الفلسفة والفكر السياسي. وقد أشاد بالكتاب كثيرون، وهناك من أُعجب به إلى حد الانبهار كالشيخ أبي قتادة الفلسطيني، ومَن عدّه مربكاً لا جدوى منه كالدكتور محمد مختار الشنقيطي. وهذا مما ساهم في شهرة صاحب الكتاب والترويج لكتابه وسائر كتبه. ثم انطفأ الحديث عنه بضع سنوات إلى أن أثارت قناة الجزيرة اسمه مجدداً بالحلقتين المذكورتين.

 

نعم، هناك ترويج قوي ومُتقن للكتاب. والكتاب حرب على الإسلام، وبخاصة على التوجه السياسي الإسلامي الذي يتمحور حول إقامة الدولة الإسلامية. إلا أن كثيراً من العاملين في الحقل الإسلامي انخدعوا ببعض عباراته التي لم يدركوا مراميها. ومنهم من غفل عن ضلالات الكتاب بسبب ما فيه من إشادة بمركزية الأخلاق في الفقه والتطبيق الإسلامي تاريخياً. وقد زاد من هذه الغفلة هجوم الكتاب على الدولة الحديثة، أي على الغرب والدولة السائدة فيه بسبب خلوِّها من الأخلاق وانعدام ضوابطه فيها.

 

لقد انطلت خديعة الكتاب على كثيرين مع أن مقصود الكتاب بعنوان "الدولة المستحيلة" هو الدولة الإسلامية. وغفلوا عن تبعيته الفكرية للغرب مع أن أول جملة فيه تقول: "أطروحة هذا الكتاب بالغة البساطة: "مفهوم "الدولة الإسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخلي، وذلك بحسب أيِّ تعريف سائد لما تمثِّله الدولة الحديثة". ومع أن دس السم في الدسم متكرر في الكتاب، والتعالم الذي ينطوي على جهلٍ واضحٌ فيه، فإن تعميماته الفضفاضة إلى حدِّ الإبهام أحياناً، مع الترويج الكبير له يجعلانه من أدوات القوة الناعمة في الغزو الفكري والسياسي معاً. وهو ما يقتضي التنبيه إليه.

 

الفكرة التي أبرزها المؤلف بقوة وكانت مشاعرية جذابة لكثيرين أو خداعة هي أن نظام الحكم الإسلامي يقوم على أن السيادة لله، وأن الله سبحانه وتعالى جعل الأخلاق مرتكزات مركزية ومحورية في أحكام الفقه الإسلامي وقوانين نظام الحكم. ومن أخلاقية هذه الأحكام أنها لا تحابي أحداً، فيجب أن يخضع لها ويتساوى أمامها الحكام وكل سلطات الدولة وسائر الناس. وهذا بخلاف الدولة الغربية الحديثة والقومية، دولة وستفاليا، فاقدة الأخلاق والمدمرة للإنسان، والتي تكون السيادة فيها للدولة، فتكون الدولة هي الثابت، وهي المركز وغاية القوانين، والتي تدور القوانين حول مصالحها، وليس ثمة مدخل أو دور فيها للأخلاق. وبحسب تعبيره: ما أنتجته هذه الحداثة عملياً هو أن الدولة هي الله، وأنه لا إله إلا الدولة. وبما أن الشعب من أركان الدولة في التعريف الغربي، فإن سيادة الدولة بنظره هي سيادة القومية، ولذلك يقول: إنّ القومية هي بمثابة الإله في الدولة الحديثة.

 

ويذهب حلاق إلى أن هذا التناقض بين الدولة الحديثة وخصائصها وقوانينها، وبين نظام الحكم الإسلامي والشريعة الإسلامية هو مما يجعل من المستحيل وجود دولة إسلامية. فالدولة الغربية السائدة اليوم قوية ومتغلبة. ولا تقبل أي أساس آخر لأي دولة أو نظام حكم ناشئ. ولذلك، فإن إيجاد الدولة الإسلامية اليوم أمر مستحيل.

 

وهو يعلم كغيره من ذوي التوجه الغربي أن هذه الاستحالة لا وجود لها عند أصحاب التوجهات السياسية الإسلامية، كما يعلم أن التطلع إلى إحياء الدولة الإسلامية هدف إسلامي لا محيد عنه. لذلك، لا يقف عند طرح هذه الاستحالة، فيحاول الإغواء بأن الدولة الغربية غير الأخلاقية قد تنهار تحت وطأة انعدام أخلاقيتها المدمرة للإنسان. لذلك هي بحاجة للأخلاق الإسلامية، مثلما أن العاملين لتطبيق الشريعة بحاجة إلى دولة. وأمام هذا المأزق يطرح حلاق رؤيته للحل، وهي وجوب تعاون فقهاء المسلمين المقتنعين بهذا الفهم مع فلاسفة الغرب الأخلاقيين. يقول: "يمكن للمسلمين ونخبهم الفكرية والسياسية، خلال عملية بناء المؤسسات الجديدة التي تتطلب إعادة صياغة قواعد الشريعة وتقديم تصوُّر جديد للمجتمع السياسي أن يتفاعلوا، ويجب أن يتفاعلوا، مع نظرائهم الغربيين فيما يخص ضرورة جعل الأخلاقي النطاق المركزي". وقد روّج البعض لهذا الحل بأنه مستنير. وفي هذا الحل المزعوم والخيالي تكمن ضلالة بل ضلالات.

 

فمن جهة، يُحلِّق حلاق في خيالاته ويطرح تطعيم الدولة الحديثة بأخلاق إسلامية، ويرى أن هذا الأمر يُلقي بأعباء على فقهاء الإسلام ومجتهديه، الذين عليهم القيام بهذا الدور، والذين يؤكد أنهم غير موجودين حالياً.

 

إن التعليق الموجز على هذا الطرح: هل هو سذاجة أم براءة؟ أم دجل لخداع علماء الإسلام ومفكريه ليعملوا لأهداف فكرية وفلسفية غربية؟ أم أنه جهل كبير من (البروفيسور) يجعله يطرح هكذا تفاهة؛ تفاهة أن يعمل دعاة الإسلام لخدمة مذهب فلسفي غربي يقوم على أساس الكفر بالإسلام والإلحاد؟

 

ومن جهةٍ أخرى، هو يطرح تغيير الأحكام الشرعية الإسلامية، والقوانين المتعلقة بنظام الحكم والدولة، لتخضع لقواعد الدولة الغربية وقوانينها. وهذه واحدة من الضلالات التي ينبغي التنبيه إليها. وربما يتساءل القارئ: كيف يطرح الدكتور حلاق تغيير أحكام شرعية وقوانين في نظام الحكم الإسلامي، بعد أن امتدح فقه الإسلام وقوانينه بوصفها ترتكز على سيادة الله - كما عبّر - وعلى أن الله جعل الأخلاق محور الفقه وأحكامه وقوانين الحكم؟ وهنا يأتي حلاق بفريته: وهي أن الأخلاق تتغير بحسب الأزمنة والأمكنة، وهذا التغير محكوم بثوابت أخلاقية أخرى أكثر مركزيةً منها، وبغير ذلك فإنه يفشل. ولذلك كانت هناك أنظمة حكم إسلامي عبر الـ12 قرناً وليس نظاماً واحداً. وقد حصل هذا من خلال تطور الفقه، حيث ظهر مع الزمن علم أصول الفقه، ثم مباحث الحسن والقبح، ثم فكرة إجماع الفقهاء التي تمثل سيادة الله. فأحكام المستجدات يفتي بها الفقهاء المتمرسون بفهم الشريعة وفهم المجتمع وحاجاته وقضاياه، بعد عملية اجتهاد لمعرفتها وتقريرها. وما يُجمِعون عليه مما يَستنبطونه من الشريعة والأعراف المعتبرة وما تستلزمه الوقائع، هو فقه جديد يتضمن أخلاقاً تنسب إلى الشريعة أي إلى الله. فسيادة الله تعني عند حلاق إعطاء صلاحية التشريع للفقهاء. وهؤلاء هم الذين يصنعون الفقه عبر العصور والأزمان، وقد جعل الله لهم هذه الصلاحية عبر مصدر إجماع العلماء أو اتفاق الفقهاء. فهؤلاء يمثلون باتفاقهم في كل عصر، عقلاءَ العصر الذين يقررون ما هو حسن وما هو قبيح. وبناءً على ذلك، فهم يقررون قواعد الحكم وقوانين نظامه، ويُلزمون الحكام والناس بالفقه الذي يقررونه، لأنه يكون بذلك أحكاماً شرعية دليلها الإجماع. وبذلك يظل نظام الحكم الإسلامي نظاماً يقوم على مركزية الأخلاق، التي أنتجها الفقهاء بشكل يُلبّي دلالات الشريعة ومقتضيات الواقع والحِسِّ العام في المجتمع. يقول: "علينا أن نطرح السؤال: إذا لم تكن الشريعة من عمل الحاكم الإسلامي أو الدولة الإسلامية... فما الذي صنعها ومَن؟ الإجابة هي أن الأمة، أي العالَم الاجتماعي المشترك، أنتجت عضوياً خبراءها القانونيين، وهم أفراد مؤهلون لإنجاز وظائف قانونية متعددة أسست في مجملها النظام الإسلامي القانوني. لقد عاش فقهاء الإسلام قيم العالم الاجتماعي العام وقواعده... وقد تحددت مهمتهم بتلك القواعد والقيم المستوحاة بقوة من النزعة المساواتية المنتشرة في القرآن... لقد كانوا ركن الشرعية والسلطة الدينية والأخلاقية".

 

ومن الجدير بالذكر أنه مع أن هذه الفكرة الضلالية أساسية في الكتاب، لم ينتبه لها أيٌّ من الذين اطلعت على تعليقاتهم عليه. ولم ينتبهوا أيضاً إلى أن سيادة الله هي - بنظر الكاتب - خرافة شائعة في المجتمع بوصفها عرفاً لا جدال فيه، وحقيقتها اتفاق كبار الفقهاء. ولذلك يقول إنه لم يكن هناك نظام حكم واحد عبر التاريخ الإسلامي بل كان هناك أنظمة مختلفة. ومع أن هذا الطرح افتراء واضح، فقد غفل عنه المسلمون الذين اهتموا بالكتاب، ولعل من أسباب ذلك أسلوب الكاتب الذي يتسم بالغموض والتعميم.

 

إنّ من موارد الخطر في هذا الطرح، أن هناك ناشئة يشعرون باستحالة الدولة الإسلامية بناء على رؤيتهم لموازين القوى الحالية، وتغوُّل الدولة الحديثة تكنولوجياً وعسكرياً واقتصادياً. ولذلك، يغترون بطرح الكتاب ويرون فيه نوايا صادقة من رجل منصف. ومن موارد الخطر أيضاً أن هناك مفاهيم مغلوطة وخطرة بين المسلمين، بل بين مشايخ وأهل علم منهم، مفادها أن الأحكام الشرعية تتغير بتغير الزمان أو المكان. لذلك لزم التنبيه لهذا الخطر، وهذه الفخاخ والضلالات، والتصدي لها، وكشفها.

 

وبهذا، فإن طرح حلاق يقوم بدايةً على فكرة ثبات الأخلاق، ثم ينتهي إلى نقيض ما بدأ به، وهو أنها متبدلة. وإلى أنه ينبغي تبديلها، لتصبح قابلة لاستنباط أحكام وقوانين تقبلها وتستوعبها الدولة الحديثة. وأكثر من ذلك، فإن تعبير "سيادة الله" الذي يبدأ حلاق من خلاله كيل المديح للإسلام بوصفه أخلاقياً، ينتهي إلى معنى أن السيادة هي للفقهاء الأخلاقيين، وإلى أن الإسلام هو صناعة المسيطرين على السيادة فيه تاريخياً وهم الفقهاء والمجتهدون، وهذه هي نفس فكرة فلاسفة الغرب والمفكرين العلمانيين عن رجال الدين والكنيسة عندهم. وبهذا فهو يطرح المذهب الفلسفي الغربي الأخلاقي العلماني، وهذه أفكار ومذاهب إلحادية.

 

وأختم هذا التعليق الموجز على هذا الكتاب، بالتأكيد على أنه يتسم بالتعميم إلى حد الغموض في كثير من أفكاره، وفي دلالات كثير من جمله وفقراته، ما يُلزِم القارئ بإعادة القراءة، ثم إعمال الفكر في الربط والتحليل وكأنه يحلُّ أحجية. وقد عبر غير واحد من المعلقين أنه تلزم قراءة الكتاب أكثر من مرة لفهمه. وأرجعوا ذلك إلى عمق الكتاب وأهمية مواضيعه. والأمر في الحقيقة ليس كذلك، فالغموض لا يستحق مدحاً، بل هو خطأ منهجي يهوي بالكتاب ويثير التساؤلات حول كاتبه. والتدقيق يشير إلى أن هذا التعميم الفضفاض والغموض فيه يرجعان إلى قصد محاربة الإسلام. وما عرضه هذا التعليق غيضٌ من فيض مما في كتاب "الدولة المستحيلة" من خبث في محاربة الإسلام والفكر السياسي الإسلامي، وهو بعض سياسة ومكر "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" الذي أصدر الكتاب وقناة الجزيرة التي تروج له.

 

﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِين

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

محمود عبد الهادي

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع