الإثنين، 27 رجب 1446هـ| 2025/01/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

 

وضع التاريخ في مكانه الصحيح

 

 

 

ناقش ابن خلدون رحمه الله في مقدمته الأهمية التي تُعطى للتاريخ، فقال: "فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال... وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال".

 

دراسة الماضي تمنح بصيرة أكبر في الناس، وكيف ينظمون أنفسهم، وكيف يقومون برعاية شؤونهم. يكتب ابن خلدون رحمه الله لاحقاً: "وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق، وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر".

 

أعطى ابن خلدون رؤية للمؤرخ المبدئي: "أن التاريخ إنما هو ذكر الأخبار الخاصة بعصر أو جيل، فأما ذكر الأحوال الملمة للآفاق والأجيال والأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه أكثر مقاصده وتتبين به أخباره".

 

وأضاف: "كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث من ذلك العمران بطبيعته من الأحوال".

 

من الماضي، يمكن استخلاص الدروس. وقد تأكد ذلك في القرآن الكريم عندما قال الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ﴾.

 

ومع ذلك، في بعض الأحيان، يسيء الناس استخدام التاريخ لتبرير أفعالهم غير اللائقة أو المستنكرة. يذكر ابن خلدون ذلك بقوله: "وفي كتب المؤرخين معروفة وإنما يبعث على وضعها الحديث بها الانهماك في اللذات المحرمة وهتك قناع المخدرات ويتعللون بالتأسي بالقوم فيما يأتونه من طاعة لذاتهم، فلذلك تراهم كثيرا ما يلهجون بأشباه هذه الأخبار وينقرون عنها عند تصفحهم الأوراق الدواوين ولو ائتسوا بهم في غير هذا من أحوالهم وصفات الكمال اللائقة بهم المشهورة عنهم لكان خيرا لهم لو كانوا يعلمون".

 

لذلك، من المهم وضع التاريخ في مكانه الصحيح. كمسلم، من المفهوم أن التشريع من عند الله سبحانه وتعالى وحده، وأفعالنا مقيدة بالأحكام الشرعية. وبعد تحديد جواز الفعل، يمكن أن تكون استراتيجيات وأساليب تنفيذه العديدة. للعثور على الاستراتيجية الأجدر، يمكن الرجوع إلى التاريخ.

 

على سبيل المثال، عندما فتح العثمانيون منطقة البلقان، دخلت العديد من المجتمعات غير المسلمة تحت حكمهم. ولإدارة هذه المجتمعات بشكل فعال، اتخذوا عهد عمر رضي الله عنه مرجعا.

 

من ورقة كارين باركي، "نظام الملل العثماني: الحكم الذاتي غير الإقليمي وإرثه المعاصر": "أدرك الحكام العثمانيون تنوع المجتمعات الدينية والإثنية التي شكلت الإمبراطورية. لقد فهموا أن هذا التنوع الهائل لا يمكن استيعابه وأنه لا توجد طريقة قابلة للتطبيق لمنح المجموعات حقوقاً قائمة على الأراضي. بدلاً من ذلك، ووفقاً للقوة التنظيمية لكل مجتمع والسوابق التي أنشأها عهد عمر في القرن السابع، الذي أوضح امتيازات وأعباء المجتمعات غير المسلمة التي تعيش تحت الحكم الإسلامي، تفاوضوا على اتفاقيات مخصصة مع رؤساء الطوائف الدينية. نظام الملل هو الاسم العام الذي يطلق على هذه الترتيبات بين المجتمعات والدولة الإمبراطورية".

 

استمر نظام الملل لقرون في الخلافة العثمانية، حيث نظم العلاقة بين سلطات المسلمين ورعاياهم من أهل الذمة. ومع ذلك، شهد القرن التاسع عشر إدخال إصلاحات التنظيمات، حيث بدأ رجال الدولة العثمانيون، الذين تأثروا بالنظام القانوني الفرنسي، في إجراء عدة تغييرات على أحكام الشريعة. استبدل بقانون الجنسية العثماني لعام 1869 رسمياً التمييز بين المسلمين وأهل الذمة مصطلح "العثمانيون".

قوبلت محاولة رجال الدولة لتحقيق المساواة بين رعاياهم بمعارضة من المسلمين وغير المسلمين على حد سواء.

 

في كتابه "تاريخ موجز للإمبراطورية العثمانية المتأخرة"، يقدم م. شكري هاني أوغلو تفاصيل حول هذا الأمر بقوله: "أضعف المرسوم أيضاً الوضع المتميز للبطريركية اليونانية مقارنة بالمؤسسات الدينية غير المسلمة الأخرى. كان رد الفعل اليوناني النموذجي على مرسوم الإصلاح هو: "لقد جعلتنا الدولة متساوين مع اليهود. كنا راضين بتفوق المسلمين". كان اللافت بشكل خاص هو إصرار جميع الطوائف الدينية على أن تظل العلاقة بين كل طائفة والمركز ثنائية؛ وأصر قادة الملل على أن أي امتيازات جديدة يجب أن تُمنح لهم كمجتمع متميز، وليس كعثمانيين. وهكذا، بدلاً من تشجيع تفكك الحواجز بين الطوائف المختلفة، ناضل ممثلو الملل من أجل الحفاظ عليها".

 

استبدل بالنظام القديم، الذي كان قائماً على الشريعة ومنح الحقوق للمجتمعات المختلفة بناءً على دينهم، نظام متجذر في القومية العرقية. يكتب م. شكري هاني أوغلو لاحقاً: "في وقت متأخر من عام 1870، ناشد البلغار الدولة للاعتراف بهم ليس كبلغار عرقيين، ولكن كمجتمع ديني متميز بالطريقة التقليدية، على أن يرأسه الإثنارك (الزعيم السياسي لمجموعة عرقية) في إسطنبول".

 

ومع ذلك، فشلت محاولات الحفاظ على التنظيم التقليدي. إن الإصرار على المساواة في التبعية لجميع المجتمعات، إلى جانب عدد من الإصلاحات الاقتصادية غير الشعبية، ساهم في انتشار السخط بين المسلمين وغير المسلمين على حد سواء. في مناطق مثل بلغاريا ومقدونيا، بدأ الفلاحون بالثورة، وتحولت هذه التمردات، بدعم من القوى الأوروبية، في النهاية إلى حركات الاستقلال القومية التي أدت إلى تآكل الخلافة العثمانية.

 

والنتيجة النهائية هي الأنظمة التي نراها اليوم: البلاد الإسلامية مقسمة إلى عدد كبير من الدول القومية. كل إقليم في حالة أضعف بكثير مما كان عليه قبل هدم الخلافة وكلها مقيدة بمخططات الاستعمار الغربي الجديد. من الصعب أن نرى ما هو الخير الذي جلبته القومية لبلادنا. فالأكراد، الذين كانوا ذات يوم رعايا مخلصين للخلافة العثمانية، يتعرضون الآن للعنف والعداء من النظام التركي. عاش اليهود والمسلمون في فلسطين معاً في وئام لقرون في ظل الخلافة، لكن الآن البرنامج القومي لليهود مسؤول عن مقتل ما يقرب من 50,000 فلسطيني في عام 2024 وحده.

 

تشير كارين باركي إلى أنه في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، كتب صحفي: "إن عدداً كبيراً من المثقفين والسياسيين اللبنانيين، الذين واجهوا الحرب في بلادهم وفشل الأنظمة الاستبدادية في البلدان المجاورة، يشعرون بالحنين إلى الفترة الأخيرة من النظام العثماني. لقد وضعوه كنموذج للسلام المدني والتحديث. إنهم يأسفون لتدمير هذا النظام على يد الإمبريالية الأوروبية".

 

هنا، إذن، نرى أهمية التاريخ. من الشائع أن يفترض الناس أن الواقع الذي يعيشونه لا يمكن تغييره، وبالتالي يقبلون بحياتهم حتى لو كانت ضنكا. يقدم لنا التاريخ عدداً من الحقائق البديلة ويساعدنا على فهم إمكانية تغيير ظروفنا الحالية. كمسلمين مخلصين، هدفنا هو تطبيق الشريعة، وفي صفحات التاريخ قد نجد دروساً تساعدنا في تحقيقه، قال تعالى: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾.

 

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

خليل مصعب – ولاية باكستان

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع