العمل العسكري... والتغيير
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
نقصد بالتغيير هنا تحديداً (النهضة بالأمة على أساس فكر الإسلام) وتطبيق هذا الفكر عمليا في أرض الواقع في ظل كيان سياسي، وحمله إلى باقي الشعوب الأخرى... ولا نقصد بالتغيير هنا الانتقال من حال إلى حال آخر وإن كان المعنى يحتمله، أي لا نقصد به الانتقال من الحكم الملكي إلى الحكم الديمقراطي، أو التخلص من رئيس إلى رئيس آخر، أو الانتقال بالدولة من الوحدة إلى كيانات مجزأة أو العكس.
فالبعض من المسلمين يرى أن العمل العسكري هو الرائد والقائد والأساس في كل عمليات التغيير والارتقاء بالشعوب نحو الأفضل، ويبني على هذا التصور الخاطئ طريقه في التغيير، فيجد نفسه في نهاية الطريق قد انحرف عن هدفه المنشود، بل قد يجد أن هدفه المنشود قد أصبح في يد غيره من قوى سياسية موجودة في الواقع.
وقبل أن نذكر مخاطر العمل العسكري في عملية التغيير وخطأه، نريد أن نذكر قضية مهمة في هذا الموضوع وهي: أن العمل العسكري قد يكون واجباً في بعض الأحيان أو مندوبا تجاه واقع معين يقتضيه، وهذا الأمر هو موضوع آخر منفصل عن العمل التغييري على أساس الفكر... فإذا داهم الأعداء بلداً من بلاد المسلمين - على سبيل المثال - أصبح التصدي لهذا العدو بالعمل العسكري فرضاً على المسلمين؛ الأقرب فالأقرب، وإذا لم تحصل الكفاية إلا بجميع المسلمين صار الجهاد فرضا على كل المسلمين، وإذا تسلط حاكمٌ ظالم على رقاب الناس فصار يسفك الدماء، ويغتصب وينتهك الأعراض، ويسلب الأموال فإن المسلم يجوز له أن يستخدم القوة العسكرية في وجه هذا الحاكم لرد صولته وظلمه، بل قد يصل الأمر إلى الوجوب لرد هذا الصائل وإيقافه عند حده.
فهذا وذلك من عمليات الرد والصد للحكام الظلمة والتصدّي للاعتداء، أو الظلم ليس لها أي ارتباط بموضوع التغيير الفكري والبناء المميز للمجتمع على أساس هذا الفكر، رغم أنها قد تمهد لموضوع البناء الفكري، وتسهل مهمته إذا أزالت القوى المادية المتغطرسة والمتحكمة في رقاب الناس، ولم تأت بمن هو أسوأ أو أظلم من سلفه!!
لكن الملاحظ عبر تاريخ المسلمين في العصر الحديث - في ظل الثورات ضد الاستعمار-، وعبر أحداث الثورات الجديدة في بلاد المسلمين ضد عملاء الاستعمار من الحكام، هو أن العمل العسكري في هذه الثورات لم يقترن بالوعي الفكري الكافي لإحداث تغيير صحيح فكانت الأمور تنقلب إلى الوضع السابق أو أسوأ منه في بعض المناطق، فعلى سبيل المثال عندما قامت حركات التحرر في العالم الإسلامي، وخاصة في البلاد العربية في بدايات القرن الماضي وأواسطه، فإن هذه الحركات لم تؤت ثمرتها إلا في ناحية واحدة فقط؛ وهي طرد القوى العسكرية الأجنبية من بلاد المسلمين، ولكنها لم تنتج تغييراً صحيحا ولا ارتقاءً بالشعوب نحو الهدف الصحيح؛ وهو الارتقاء بالشعوب فكرياً وبناء دولة على أساس الفكر الذي تحمله الشعوب (فكر الإسلام)، لذلك تفاجأت الشعوب الثائرة المتحررة بأن الثورات التي أشعلتها وغذتها بدمائها وشهدائها كانت وبالا عليها عندما ارتقى فوق رقابها رويبضات من قوى الاستعمار السياسي، وأصبحوا هم القادة والرؤساء، وزاد الأمر سوءاً أن الفكر الذي حكم به هؤلاء الرويبضات هو الفكر الغربي البغيض الذي يتبناه ويطبقه أعداؤهم في بلادهم (الفكر الرأسمالي).
وهذا الأمر يتكرر اليوم في بعض الثورات في بلاد المسلمين، حيث تعمد قوى الاستعمار إلى التسلق فوق دماء وشهداء الثورات لتجني ثمرتها؛ إما عبر انتخابات صورية أو قيادات كاذبة تدعي تمثيلها للناس، أو عبر تسلق بعض القادة العسكريين، عن طريق دعم بعض الجهات السياسية وإيصالهم إلى كرسي الحكم، وهذا كله يحصل نتيجة عدم وعي الشعوب على مشروعها الفكري الحضاري، ونظرتها للتغيير على أساس أنها عملية تخلص من واقع الظلم فحسب.
وهذا الأمر - في قلب الموازين وخلط الأوراق وطمس الحقائق وتزويرها - تحاول قوى الاستعمار أن تستغله في تيئيس الناس، وحصر مطالبهم في لقمة العيش، أو إيجاد الجو الآمن في بعض البلاد، وطمس موضوع التغيير الفكري الصحيح، بل إيصال الشعوب لدرجة اليأس من أية عملية تغيير صحيحة على أساس صحيح مستقبلاً، وإيجاد قناعات معينة، وهي: أن التغيير يجب أن يتم تحت رعاية الغرب وبإشرافه، وإلا فإن الدمار والخراب والانفلات الأمني والفقر هو الذي يحل محل القادة السياسيين من عملاء الغرب.
والحقيقة أن هذه المشكلة لا يستحيل حلها، كما يصور البعض من المضبوعين بثقافة الغرب، وأن عملية إعادة الأمور إلى المسار الصحيح، هي أمر سهل وميسور، إذا وضعت الشعوب أقدامها على الطريق الصحيح في تصحيح المسار ولم تبق سائرة في الخط الأعوج.
فالشعوب حقيقة تريد التغيير الصحيح وإن كانت لا تدرك حقيقته أحيانا بالشكل الواضح الدقيق، وتريد الارتقاء على أساس فكر الإسلام، وتريد بناء دولتها على أساس الإسلام لتعيد أمجادها وعزتها لكنها ما زالت - وللأسف - تضل الطريق، نتيجة عدم وعيها على الواقع أولا، وعلى طريقة التغيير الصحيحة ثانيا، وعلى القوى الاستعمارية وعملائها وأساليبهم الشيطانية ثالثا، وبالتالي يسهل على قوى الاستعمار تضليلها وحرفها عن المسار، بل إيقاعها في حفره وشراكه.
وإن واجب الأحزاب المخلصة الواعية في بلاد المسلمين، وواجب العلماء والسياسيين المخلصين هو انتشال الشعوب من هذا الواقع الشرير، ومن هذه الحفر السوداء التي حفرها المستعمر بمكر ودهاء، وتوعية الشعوب على حقيقة ما يجري في بلادها، وذلك عبر الأمور التالية:-
1- توضيح فكرة العمل العسكري وحدوده وأحكامه، ومتى يستخدم هذا العمل ومتى لا يستخدم، ومتى يكون واجباً ومتى يكون محرما.
فبعض الحركات في بلاد المسلمين صارت تستخدم هذا العمل العسكري، وتسخر فيه أبناء المسلمين في قتل الأمة ومشاريعها لخدمة القوى الاستعمارية، مثل استخدام العمليات التفجيرية ضد المسلمين - سواء أكانت بالأشخاص أم بالسيارات - في قتل الناس في تجمعاتهم الحياتية؛ في الأسواق والمساجد والمدارس والطرق وغير ذلك... أو استخدامها في قوى الجيش من المسلمين التي لا تعتدي على الناس، ولا تشارك في قتل الناس وحربهم؛ من فرق الجيش أو الشرطة أو غيرها... فمثل هذه الأمور تحتاج إلى بيان وتفهيم فقهي وسياسي لأن بعض الأعمال قد تكون مدمرة سياسياً، أي تكون ضد مصلحة المسلمين وتستغل من قبل المستعمر في أمور مقلوبة.
2- ملازمة الوعي الفكري والسياسي للعمل العسكري، لأن العمل العسكري وحده إذا خلا من الوعي الصحيح على الإسلام والوعي السياسي على الأحداث الجارية، فإنه سرعان ما تركب موجته ويسخر في غير طريقه الصحيح، وهذا الأمر ظاهر في بعض الأعمال العسكرية في سوريا وفي العراق... فيجب على الواعين فكرياً أن يبذلوا قصارى جهودهم في توعية التنظيمات العسكرية من هذا الجانب، لأن الجهل مدمر للحركات العسكرية، ويجعلها في نحر الأمة بدل أن تدافع عن نحرها، وطريقة التوعية هذه تكون ببيان حدود الأعمال العسكرية وغاياتها، وبيان حقيقة التغيير الصحيح، وكيف يتوصل إليه.
3- التحذير المستمر من الاتصال بالقوى الاستعمارية الخارجية أو الدول العميلة لها، وهذه القضية هي من أخطر ما يواجه الحركات العسكرية، وخاصة أنها تحتاج إلى الدعم العسكري والمالي من أجل تسيير شئونها العسكرية، فتقع في حبال الدول العميلة للغرب، وبالتالي تملي عليها شروطها وتملي عليها خطة عملها السياسي وخطة عملها العسكري، وتجد نفسها في نهاية المطاف وإذا بها عميلة للقوى المحيطة، كما هي الحال مع بعض الحركات العسكرية في الشام أو العراق، حيث وجدت نفسها في نهاية المطاف رهينة المساعدات والأموال السياسية، تتحكم بها الدول المحيطة مثل تركيا والسعودية، وبعض مشيخات الخليج...، وطريقة التفهيم والتوعية تكون برسم الخط المستقيم بجانب الخط الأعوج وهو أن العميل الذي تحاربونه هو تماما كالعميل الذي تتلقون المساعدة عن طريقه وترتهنون لشروطه السياسية والفكرية، وإن التخلص من الظلم لا يكون باستبدال ظالم بأظلم أو شبيه له، وأن الاستعانة بعملاء الاستعمار ضد عملاء آخرين لا يجيزه الإسلام، وفد رفضه الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من مرة...
4- تصور الهدف المنشود بعد العمل العسكري، لأن الكثير من الحركات العسكرية لا تفكر فيما وراء العمل العسكري، فتفهّم هذه الحركات ماذا تريد وما هو هدفها، وكيف يمكن تحقيق هذا الهدف؟، لأن المصيبة هي أن معظم القادة العسكريين لا يوجد عندهم وعيٌ فكري ولا سياسي ولا تصور للأهداف والغايات من العمل العسكري لذلك يسهل حرفهم وتسخيرهم في مشاريع لا تخدم الأمة ولا هدفها الصحيح.
5- فالهدف يجب أن يكون محدداً وواضحاً - خلال وبعد العمل العسكري للتخلص من الظلم - وهو بناء الدولة الجديدة على أساس فكر الإسلام بتطبيق شرع الله، لا لشيء آخر كما حصل في تونس ومصر عندما حرفت الثورات عن غايات الناس الصحيحة.
6- عدم الاقتتال والتلهي في الأهداف الجانبية ونسيان الهدف الأساسي أثناء العمل العسكري، كما حصل - على سبيل المثال - في أفغانستان، وكما هو حاصل مع بعض الجماعات المقاتلة في الشام، فهذا الأمر يدمر كل الأعمال السابقة، وينزع ثقة الناس من الثورة، ويجعل تفكير الناس يذهب إلى العهد السابق للخلاص من هذا الواقع السيئ، وقد انجرت بعض القوى في الثورات - للأسف الشديد - وراء أضاليل الاستعمار، وصارت تقتتل فيما بينها؛ كما حصل في مصر وليبيا وكما حصل مع بعض الفرق العسكرية في الشام، فهذه من المخاطر الكبرى التي تحيط بالثورات.
وقبل أن نختم نقول: بأن العمل العسكري إذا ما خرج عن أصوله وأهدافه وغاياته في محاربة الظلم والفساد وتغيير المنكرات، يزيد الطين بلة، والمأساة مآسٍ جديدة، وقد يرتهن للعملاء نتيجة طول الفترة، والحاجة إلى الدعم المالي والعسكري، وقد ينحرف عن أهدافه الصحيحة نتيجة الخلط وعدم الوعي، وقد يصبح جزءاً من الواقع السيئ نتيجة عدم الوعي على الواقع وطريقة تغييره.
لذلك نقول إن العمل العسكري ابتداء ليس طريقاً للتغيير، ويجب أن يبقى في حدوده؛ وهي رد الظلم ورد الصائل، ومحاربة الكفار في حال الاعتداء على بلاد المسلمين، ولا يستخدم العمل العسكري للتغيير مطلقاً لأنه لا يوصل إلى الهدف ولا إلى طريق التغيير، ويبقى ضمن أهدافه وغاياته ولا يخرج عنها، أما العمل المنتج فهو العمل الفكري الواعي الصحيح؛ الواعي على فكرته وطريقته للوصول إلى تطبيق هذه الفكرة، وعلى طريقة تطبيق هذه الفكرة بعد الوصول إلى الهدف الصحيح.
فيجب أن تأخذ الشعوب العبرة من الأحداث التي سبقت ومن الأحداث في ظل الثورات الحالية؛ في فهم العمل العسكري والتعامل معه، وعدم الانزلاق في مكائد الاستعمار والارتهان السياسي له... يجب أن نأخذ العبرة مما جرى في أفغانستان والجزائر وليبيا وما يجري كذلك في أرض الشام، ليكون عملنا واضحاً وصحيحاً في التقدم نحو الهدف وعدم الزيغ عنه في طرق جانبية لا تسمن ولا تغني من جوع، وفي الوقت نفسه يجب أن نبذل قصارى جهودنا في تصحيح مسار الثورات العسكرية، ووضعها على الخط الصحيح فكرياً وفقهياً وسياسياً، لأن انحراف مثل هذه الحركات سيرجع الأمة سنوات إلى الوراء، ويضع الناس في حالة من اليأس نتيجة اختلاط الأمور، ويجب أيضا أن تكون أحداث الثورات مناسبة طيبة لنا لتوعية الأمة وتفهيمها أن العمل الفكري الصحيح على أساس الإسلام هو المنتج وهو المنجي لها من هذا الواقع السيئ وأن كل الأعمال الأخرى إذا انفصلت عن هذا الطريق فإنها دمارٌ وخراب وهلاك، ولا توصل إلى نهضة ولا تحسّن أوضاعا ولا ترفع ظلماً، بل إنها تزيد الأمة خراباً فوق خراب ودماراً فوق دمار.
وفي الختام نقول: لعل هذه الأحداث تكون مقدمات لوعي الأمة وقبولها للفكر الصحيح نتيجة المآسي التي تحصل في بلادها ونتيجة اختلاط الأوراق والألاعيب السياسية، فنسأله تعالى أن يكون ما يجري في بلاد المسلمين فاتحة خير يفتح عقول الأمة وقلوبها للعمل الفكري الصحيح، وعدم جريها وراء السراب الخادع القاتل، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ [النور: 39]، ويقول سبحانه: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: 109]
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حمد طبيب - بيت المقدس