- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
التّقوى بين مناعة الحكم بالإسلام ووهن حكم الرّويبضات
جعل الله التّقوى جوهر ما دعا إليه الإسلام ومفتاحا لنيل الخيرات والفوز بالجنّات. ولذلك ورد هذا اللّفظ في القرآن في سياقات متعدّدة مفادها أنّ التّقوى هي أساس الخُلق والعبادات والعلاقات والمعاملات. ويقول ابن القيم رحمه الله في تعريفها الشرعي: "حقيقة التّقوى العمل بطاعة الله إيمانًا واحتسابًا أمرًا ونهيًا، فيفعل ما أمر الله به إيمانًا بالآمر وتصديقًا بوعده، ويترك ما نهى الله عنه إيمانًا بالناهي وخوفًا من وعيده".
لقد كان لنا في رسول الله أسوة حسنة وفي صحابته سنّة حسنة، فقد كانوا يَصومون، ويُصلُّون، ويَحجُّون، ويُجاهدون، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، كانوا يقيمون أمرَ الله كلّه بحسب الطّريقة الشّرعيّة المنضبطة، قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَآ أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. لقد كانوا قلّة مستضعفين يُعذّبون ويقتّلون حتى يحيدوا عن دينهم ولكنّهم ثبتوا وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنّ الله عليهم وأقام عليه الصّلاة والسّلام دولة تذود عن المسلمين وتحمي بيضتهم وتحمل دعوة الإسلام إلى الخارج. وهذه هي الخيرية التي يُحَصِّلُها المسلمون من تطبيق الدّولة لشريعة الإسلام كاملة - بما في ذلك إقامة الحدود - فيأمن الناس على دينهم، وأنفسهم وعقولهم وأعراضهم وعلى أموالهم.
لقد وفّرت دولة الخلافة البيئة الإسلاميّة وأرست جوّا إيمانيّا فارتقت بالفرد ليعيش في عبادة الله عز وجل واتّقائه حق تقاته: يُطاع فلا يُعصى ويُذكر فلا يُنسى ويُشكر فلا يُكفر. صارت التّقوى صفة من صفات المجتمع بتطبيق الأحكام الشرعية كاملة، ذلك لأنّ النّاس حاكما ومحكوما يراقبون الله في سرّهم وعلانيّتهم، ولم يكن ذلك حكرا على شهر رمضان بل هذا دأبهم في رمضان وسائر أيّام السّنة.
ونستحضر هنا وقائع على سبيل الذّكر نستدلّ بها على تقوى النّاس عامّة وعلماء وحكّاما: الأولى الأمّ التي أرادت من ابنتها أن تخلط اللبن بالماء فذكّرتها ابنتها أنّ أمير المؤمنين نهى عن ذلك، فقالت: وأين أمير المؤمنين؟ إنه لا يرانا. فردّت عليها البنت: إن كان عمر لا يرانا فَربُّ عمر يرانا فزوّجها عمر بن الخطّاب أحد أبنائه. والثانية حين خرج عبد الله بن دينار مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى مكة، فقال عَرَّسْنا في بعض الطريق، فانحدر عليه راع من الجبلِ، فقال له: يا راع بعني شاة من هذا الغنم، فقال: إني مملوك. فقال: قل لسيدك أكلها الذئب. فقال: أين الله؟ فبكى عمر رضي الله عنه ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه، وأعتقه.
وهنا بيان على أهمّية الدّولة في إثارة بيئة التّقوى بمكافأة المتّقين وتحفيزهم على الاستزادة من فعل الخيرات وترك المنكرات والتنافس في أداء فرائض الله وترك محارمه بينما يشقّ على المسلمين اليوم القيام بأبسط العبادات ويمنعون من الصّلاة والصّوم ويحارَبون لمظاهرهم الإسلاميّة وهم في ديارهم بل ويسجن وينكّل بكلّ من اتّقى الله وأبى أن يشهد شهادة زور أو يسرق أو يرتشي أو يغشّ أو يمتنع عن حرام صغيرِه وكبيرِه...
والثّالثة، قول الحسن البصري لعمر بن هبيرة - وكان واليًا على العراق -: "وحقُّ الله ألزم من حق أمير المؤمنين، والله أحقُّ أن يطاع، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فاعْرِض كتابَ أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل؛ فإن وجدته موافقًا لكتاب الله؛ فخُذ به، وإن وجدتَه مخالفًا لكتاب الله؛ فانبذه".
فأين علماء السّلاطين اليوم من نصيحة ومحاسبة الحكّام وولاة الأمور؟ أين ثباتهم من الفتن التي تُعرض عليهم لتشتري ذممهم؟ أين هم من قوله e «الْعُلَمُاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ»؟ أين هم في المحن والشدائد والنّاس تقتدي بهم وتنتظر منهم الموقف ليعرفوا الحق من غيره؟ أين هم من قول الإمام أحمد بن حنبل لعمّه: "يا عم، إذا أجاب العالم تقيّة، والجاهل يجهل، فمتى يتبين الحق؟".
والرّابعة وصيّة سيّدنا عليّ رضي الله عنه لوالي مصر مالك بن الحارث الأشتر أن أمره بتقوى الله، وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه، وأن ينصر اللهَ سبحانه بيده وقلبه ولسانه. والخامسة الخليفة المستنصر، رحمه الله، كان يقف على أمواله ويقول: أترى أعيش حتى أنفقها كلها؟ فكان يبني الربط والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلّة من محالّ بغداد دار ضيافة للفقراء لا سيما في شهر رمضان.
أمّا اليوم فقد باع الحكّام ثروات المسلمين وامتلأت خزائن قصورهم ومن ثمَّ نصّبوا أنفسهم زعماء، أحلّوا الحرام وحكموا بغير ما أنزل الله، يتحكّمون بأرزاق النّاس ويجعلون حياتهم ضنكا ويضيّقون عليهم الخناق حتى ينغمسوا في السّعي وراء لقمة العيش فيُخضعوهم تحت وطأة الحاجة وقلّة ذات اليد.
هذه هي التقوى؛ صلاح في العقيدة وانضباط واستقامة في السلوك، وهذا نتاج بثّ الدّولة للمفاهيم الشّرعيّة والحثّ على إظهار الصّلاح والأمر بالمعروف ومكافأة المتّقين والنّهي عن المنكر فتجعل المسلم ينساب تلقائيّا لاتّباع أوامر الله واجتناب نواهيه فيجعل بينه وبين ما حرم الله حاجزاً ليس فقط شهرا في السّنة بل على مدارها.
إن التّقوى من عزائم الأمور لا من رخصها وهي أسّ البنيان وأيّ بناء ما لم يقم عليها هو هاوٍ لا محالة مآله جهنّم وبئس المهاد: ﴿أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [سورة التّوبة: 109].
والتقوى وصية النبي e لأمته، فعن العرباض بن سارية قال: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الْغَدَاةِ فَأَقْبَلَ عَلَيْنَا فَوَعَظَنَا مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الأَعْيُنُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَأَنَّ هَذَا مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَقَالَ: «أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعَ وَالطَّاعَةَ وَإِنْ عَبْدًا حَبَشِيًّا مُجَدَّعًا، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ».
فقط حين يكون الإسلام في سدّة الحكم والسيادة، تكون التّقوى مفهوما ولا تقتصر فقط على العبادة، والتّطبيق العملي للإسلام لا يكون إلاّ بتنصيب المسلمين لإمام جنّة يتقي الله فيهم ويطبق شرع الله عليهم فيردّ للأمّة هيبتها وللدّولة شوكتها وهو ما سيؤجّج التّقوى في قلوب المسلمين ويحثّهم على التّلبّس بها في حياتهم الدّنيا خوفا من غضب الله وطمعا في مرضاته.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
م. درة البكوش