- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
صحّة الطّفل في تونس
بين سراب الاتفاقيات الدولية وحقيقة الواقع الرّأسماليّ المُزري
أعلنت وزارة المرأة والأسرة والطّفولة وكبار السّنّ عن احتضان تونس مؤتمرا أمميّا تحت عنوان "طفولة بدون تعذيب بدني" في حزيران/يونيو 2020 ليُشارك ضمنه أكثر من 700 خبير ومسؤول دوليّ، وذلك بإشراف منظمة الأمم المُتّحدة.
أوّلا: لعاقل أن يتعقّل فيربط بين حقيقة الواقع ومضمون القوانين والجلسات والمُؤتمرات التي لا تشرف عليها دولة تونس ولا هيئات تابعة ولا وزارات، بل "النّظام الرأسمالي العالمي" نفسه من يسهر على نموّها وتغلغلها داخل الأمّة، فلا ينفك يثبّت عروقه في كلّ المجالات ليكون آخر مشاريعه وآخر من في قائمة مخطّطاته هي الطّفولة، وإنّنا نعي جيّدا ما يُحاك في الكواليس المُظلمة، إذ تحلّ تونس المركز الأوّل عربيّا وأفريقيّا في مؤشّر حقوق الطّفل سنة 2019، في مقابل وابل من المعاناة وحالات الانحطاط التي يشهدها واقع الطّفولة اليوم، وهو أقل ما يقال عنه بأنّه واقع كارثيّ على جميع الأصعدة.
إنّ المعلوم ضرورة أنّ من أهمّ مقوّمات العيش لأجل بناء طفل سليم جسديّا وعقليّا ونفسيّا هي الصّحّة، وهي مؤشّر على دنوّ الأمم من ارتقائها، فعودة بنا نحو وضع الصّحة للأطفال بتونس لنجده حتما وضعاً كارثيّاً، فنجد الرعاية الاستشفائية تشهد نقائص ليست بالهيّنة بل هي بدورها المُسبّبة في عدّة مشاكل، ومن ذلك نقص التّجهيزات الّذي أودى بحياة الكثير من الأطفال والذي هو بدوره عادة ما ينجم عنه أخطاء طبيّة، فحسب تصريح للمُتفقّد العام بوزارة الصّحّة طه زين العابدين أنّ 40 مولوداً يهلكون من 100 ألف مولود سنويّا بسبب تقصير طبي أثناء عمليّة الولادة، وعلّنا لا ننسى حادثة "الكرتونة" في كانون الثاني/يناير 2019 التي ذهبت فيها حياة 12 رضيعا في سلّة مُهملات الدّولة بعد أن حمّلوهم إلى أهاليهم في "كرتونة"، فحتى الموت لا خشوع أمامه!
كما إلى اليوم لم تُفد البحوث الأمنيّة بمُلابسات القضيّة ومن المتسبّب وراء ملحمة جماعيّة باردة؟!
كما لا يُلقى كلّ الوزير على النّقائص في الجانب التّجهيزيّ للمُستشفيات، بل تُسجّل الإحصاءات تواطؤاً كبيرا من الإطار الطّبّي في عدم التّمحّص في الحالات المرضيّة المعروضة، وأشهر حادثة نستدلّ بها على هذا الطّرح هي حالة محمّد أمين الطّفل من مواليد أيار/مايو 2013 والّذي قرّرت عائلته ختانه بتاريخ تموز/يوليو 2014 ليغادر غرفة المشفى مشلولا وفاقدا لنعمة البصر جرّاء جرعة زائدة من التّخدير.
وحسب مُنظّمة الصّحّة العالميّة فإنّه قد تم استيراد لوالب القلب المنتهية الصّلاحية عبر "الكنام" والتي تورّطت فيها أربع مصحّات معروفة بتونس وذلك سنة 2016، ممّا يكشف لنا عن حقيقة وجود العصابات المُنكبّة على المتاجرة في الأرواح البشريّة مُقابل غايات نفعيّة مصلحيّة، وفي ذلك تسليط للضّوء على الحقيقة البشعة للنّظام الرّأسماليّ المُهيمن.
ولا ننسى أيضا ذكر حالات الاكتظاظ بالمستشفيات (معدّل 12/3 طفلاً وأمّاً تقريبا في الغرفة الواحدة) ممّا يسبّب تلوّثا يغيب فيه التّعقيم والنّظافة للغرف والأغطية والأسرّة ودورات المياه وبعض الأحيان للآلات الطبيّة نفسها فيصبح الطّفل المريض معرّضا للإصابة بمرض ثان (الزّكام، العدوى البوليّة، أمراض الجلد) أو كأقلّ تقدير لا يمكن أن نطلق على هكذا أماكن مخصّصة من الدّولة كمستشفيات ترتقي بصحّة الطّفل وكلّ الأفراد.
في المقابل تتفاقم الأخطاء الطبيّة، أمام سكوت مُطبق من الدّولة وتقصير في مُحاسبة الجُناة والمتورّطين في هذه الحوادث حيث سجّلت 570 قضيّة مرفوعة لدى المحاكم سنة 2015 من جملة 7000 حالة خطأ طبّيّ كلّ سنة وذلك ما أفادت به وزارة الصّحّة التّونسيّة لتسجّل أيضا 105 حالة وفاة سنة 2017 بسبب تعفّن بقسم أمراض الدّمّ نجم عن إهمال الإطار الطبي لهذا القسم لتتراجع في النهاية النسبة العامة للمطابقة لمتطلبات حفظ الصحة بالمستشفيات من 86٪ سنة 2015 إلى 51٪ سنة 2017، فماذا إذاً ننتظر من دولة جباية غيّبت دورها الرّعوي لشؤون النّاس ومصالحهم؟
إضافة إلى أنّ مستشفى البشير حمزة بالعاصمة تونس هو المستشفى الوحيد المخصّص لعلاج الأطفال على مستوى البلاد وهو بدوره يعاني من حالات اكتظاظ ونقص في الأدوية والمعدّات ممّا يؤثّر سلبا على صحّة الأطفال المرضى كما يؤثر أيضا على طبيعة العلاقة بين الأولياء والطّاقم الطبيّ، وذلك ما أفادت به طبيبة الأطفال سامية حمودة، وفي خضمّ هذه النّقائص والتّجاوزات الّتي يشهدها قطاع الصحّة للأطفال بتونس فإنّ ميزانيّة وزارة الصّحّة في قانون الميزانيّة لسنة 2019 قد قدّرت بـ20.055 مليار دينار، أي ما يعادل 5.04٪ من مجموع الميزانيّة العامّة، و80٪ منها تصرف نحو نفقات الأجور والتّصرّف، فيما تخصّص 269 مليون دينار لتطوير القطاع وبناء المستشفيات وتدعيمها في مقابل أن الدّين العمومي للوزارة قد بلغ أربعة أضعاف ميزانيّتها.
وكتلخيص عامّ لوضع الصّحّة في تونس، يدوّن الوزير السّابق للصّحّة في تدوينة له على موقع التّويتر: "ما لم يتمّ الوقوف جديّا وإصلاح قطاع الصحّة في 2019، فسنقول وداعا لمنظومة الصّحّة العموميّة في تونس".
وكما يقال "شهد شاهد من أهلها" فأيّ بيان وإثبات لحال المنظومة الصّحّيّة المُتآكل والمزري بعد هذا؟
تنصّ المادّة عدد 3 من الإعلان العالمي لحقوق الطّفل: "تكفل الدّول الأطراف أن تتقيّد المؤسّسات والإدارات والمرافق المسؤولة عن رعاية أو حماية الأطفال بالمعايير الّتي وضعتها السّلطات المُختصّة ولا سيما في مجالي السّلامة والصّحّة وفي عدد موظّفيها وصلاحيّتهم للعمل وكذلك من ناحية كفاءة الإشراف".
وتونس من البلدان الأعضاء للدّول الّتي تكفلها منظّمة الأمم المُتّحدة، والواقع أكبر شاهد على زيف القوانين الّتي تمرّر لنا عبر الحبل الغربيّ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يدل على فقدان الدّولة سيادتها بفعل أيادي المستعمر الّتي لا شاغل لها اليوم إلاّ لعب دور المفعول به أو المُستهلك لكلّ منتوج قانوني غربيّ سواء تعارض مع عقيدة الإسلام أم وافقها!
فاتفاقية حقوق الطّفل الصّادرة في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1989، قد فرضت في سياق إملاءات على تونس، فيما لا نرى أثرا لقوانينها - خياليّة المضمون - على أرض الواقع، لتليها وثيقة "عالم جدير بالطّفولة" الّتي تسعى من خلالها الجمعيّة العامّة للأُمم المُتّحدة إلى تثبيت أفكار وقيم تتعارض تعارُضا تامّا مع أحكام الإسلام ليصِل أثر هذا الإفساد إلى تونس عن طريق تحضير إدراج مادّة "التّربية الجنسيّة" الّتي تدعو صراحة لإباحة الإجهاض وتُشجّع ضمنيا على الزّنا (إدراج سياسات منع الحمل ببرنامج التّاسعة أساسي) والشّذوذ (إمكانيّة تقبّل أشكال أخرى للعائلة مثل: أب وأب وطفل يكوّنون أسرة)، بطابع غربيّ علمانيّ لا يعترف بالإسلام ولا يحسب له مكانة لرأيه الواضح والجازم في هذا المشروع.
إنّ هذا المُؤتمر الّذي تُخطّط له العصابة الغربيّة بالتّعاون مع سياسيين قد سلبوا الدّولة سيادتها إنَّما هو مثال آخر على عجز الطّبقة السّياسيّة في رعاية شؤون الطّفل من جهة عبر استيراد قوانين واتفاقيات غير مرغوب فيها من الأمّة ولا هي من ثقافتها الإسلاميّة المُتأصّلة فيها، ومن جهة أخرى يشير هذا الأمر على عمالة الدّولة ووصاية المُستعمر في أدق تفاصيل مستقبل الأمة وهي الطّفولة، فلو اطمئنّ الغرب على نهب الثّروات والتّدخّل في الشأن الاقتصادي والسّياسي والاجتماعي للدّولة، فإنّه قد ترك حيّزا من الجهد لرقبته، فيحنيها نحو النّاشئة الجديدة عبر إفسادها.
فهو على دراية بأهميّة "الطّفل" بالنّسبة للأمّة الإسلاميّة، فماذا لو كان ذخرا لها وجندا ضديدا عنيدا لمصالحه في الأراضي الإسلامية؟
إن المُتسبّب في كلّ هذه المعضلات إنّما هو نتاج وتحصيل حاصل لعلمانيّة النّظام وطابعه الرّأسماليّ في معالجة الأمور وذلك يعني فصلاً لعقيدة الأمة الإسلامية عن سياسة حياتها، فلم تورث هذه السياسة السيئة الإخراج غير طبقة سياسية هشّة وعميلة للغرب المستعمر، طبقة سياسيّة تفرح وتضرب الطّبول لتتويجات مهداة لها من العدوّ في حين إن الواقع مخالف تماما لظاهر هذه الاحتفالات والتهاني، فمن جهة فإن دولة تونس دولة علمانيّة تفصل الدين عن السياسة، ومن جهة أخرى تسارع لهاثا في استيراد مناهج وعقائد ووجهات نظر غربيّة بطابع ليبيراليّ دينه النّفعيّة والمصلحة، يرفضه أهل الزّيتونة خاصّة وأمة الإسلام عامّة بطبيعة أنّه يتعارض كليا مع أصل عقيدتنا وذلك ما تسبب بشقاء الطفولة كإفراز طبيعي وتلقائي لعلمانيّة الدّولة.
إنّ الطّفولة اليوم بتونس مهدّدة بالإتلاف والعبث، ليس في الجانب الصحّيّ فقط وليس في تونس فقط، بل في كلّ البلاد الإسلاميّة ولا حلّ للحدّ من هذه المُؤامرة إلاّ بسيادة الدّولة، ولا سيادة للدّولة إلاّ بنظام الإسلام العظيم الّذي بسياساته يقطع دابر عداء غربيّ. فتوفير الصّحّة في دولة الإسلام هو حُكم شرعيّ ينفّذه الحاكم خدمة للرعية جميعا لتكون هذه السلطة ذات وظيفة رعويّة، لا جبائية رأسمالية تسيّرها النّفعيّة والمصلحة، فلا سبيل للطفل بحياة كريمة وصحّة سليمة وأسرة متينة كما أرادها له الله عزّ وجلّ إلاّ بالإسلام حتّى تعود للأمّة عزّتها وللرّاية رفعتها.
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
رحاب عمري