- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الدولة المشبوهة الرأسمالية بعباءة إسلامية
مع اقتراب الأمة لوعيها العام لحتمية عودة الخلافة الإسلامية نجد بعض الناس يبحثون عن المخلّص من زمرة الحكام القائمين على من يصلح لهذه المهمة، ويمنون النفس بأن يكون الرئيس التركي أردوغان هو من يصلح لهذه المهمة فنجدهم يبررون له كل أفعاله ويحاولون تلميعها، ويتخيلون أنه يعمل بالخفاء إلى عودة الإسلام إلى سدة الحكم، واستئناف تطبيق شرع الله!
ولكن بحنكة الذئب، ومكر الثعالب عمل أردوغان على إيهام البعض بطرق غير مباشرة أن تطبيق الإسلام لا يكون إلا بالتدرج، لتفادي العالم الرافض لقيام الدولة الإسلامية وللحيلولة دون انقضاضه عليها على حين غرة. فنجد المؤيدين لمنهج أردوغان يبررون تطبيقه للقوانين العلمانية الصرفة بأنه نوع من أنواع الخداع للغرب، وأن كل الأعمال التي يقوم بها متمثلة بحكومته التي تعمل خلف الكواليس لعودة الإسلام إلى سدة الحكم.
ومن هذا القبيل ما أورده الكاتب الأردني داود عمر داود في مقالة في "القدس العربي" بعنوان: "معركة المصير واستئناف الحياة الإسلامية"، حاول فيها ربط فكر أربكان وتأثره بفكر حزب التحرير، على حد زعمه، ففكر الشيخ تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير رحمه الله المستمد من الكتاب والسنة، وكل من يقرأه يتأثر به لأنه منهج رباني يمثل البلسم لجراح هذه الأمة والعالم، ولا شك في ذلك مطلقا، ولكن حمله ثقيل لأن كل طواغيت العالم تمنع ظهوره، وتشن الحروب من أجل منع ظهوره في كيان تنفيذي، لأن هذا الفكر الذي انفرد به حزب التحرير بالسعي لتطبيق الإسلام فكرة وطريقة، سيخلعهم من جذورهم بمجرد وجوده على الساحة الدولية متجسداً بهذه الدولة الإسلامية العظيمة التي تطبق أحكام الشرع.
ومع أن الكاتب قال صراحة بأن أربكان سعى لتأسيس اتحاد إسلامي، ومنظمة أمم متحدة خاصة بالمسلمين، وإنشاء حلف عسكري إسلامي مثل حلف الناتو، وإصدار الدينار الإسلامي لمنع الغرب من نهبنا، وإنشاء سوق اقتصادية مشتركة، وإلغاء الجمارك والجوازات والتأشيرات بين البلاد الإسلامية، فإن جميع ما سبق هو عبارة عن محاولة لجمع بلاد المسلمين في كيان خاص على هيئة الكيانات الرأسمالية، وكأنه ليس لنا نظام إسلامي فريد من نوعه لا يشبه بهيكله أي نظام سياسي، وهو نظام الخلافة الذي فصله الشيخ تقي الدين رحمه الله تفصيلا رائعا بتأصيل شرعي في كتاب نظام الحكم، فأربكان أراد أن يقيم دولة إسلامية متماهية مع العلمانية، فيطبق فيها بعض الأحكام الشرعية مع الحفاظ على شكل الدولة الرأسمالية. غير أن إقامة الدولة الإسلامية لها طريقة واضحة وجلية في فكر الشيخ العلامة تقي الدين النبهاني مؤسس حزب التحرير رحمه الله تعالى.
وكان هدف أربكان من محاولاته تلك هو سحب البلد للقبول بالعلمانية التي تدور في فلك الإنجليز. فوجود هذا الرجل جعل المسلمين يلتحقون بالنظام ويقبلون العلمانية المحايدة ويقبلون العملية الديمقراطية، ولكن عندما ظهر خطر النفوذ الأمريكي من خلاله أو من خلال وسط حوله أو من خلال استمالته كون أمريكا دعمت خطواته في قبرص، ولذلك نجد أن الجيش التركي الذي كان يدين بتبعيته للإنجليز قد تخوف من ميول أربكان نحو أمريكا فقام فورا بإقصاء حكومته التي لم تعمر أكثر من 13 شهرا، وأجبره على الاستقالة. واعتبرت هذه المرحلة من مراحل الفشل الأمريكي في نقل تركيا لقبضتها، وليس كما يدعي البعض أنه أقيل لرغبته في تطبيق الإسلام.
ومع اعتلاء أردوغان سدة الحكم استطاعت أمريكا انتزاع تركيا من قبضة بريطانيا عبر معارك سياسية طاحنة، كان آخرها الانقلاب الأخير الذي مكنها من القضاء على أي وجود إنجليزي في تركيا. ولكن هناك أموراً على الساحة الدولية تغيرت ما بين زمن أربكان وزمن أردوغان؛ ففي السابق كانت أمريكا تسعى لسحب السنة إلى جانبها وإخراجهم من عباءة بريطانيا، واليوم تحقق لها هذا بعد أن سيطرت على أكثر البلاد الإسلامية وخاصة السعودية، وإنهاء الوهابية، وتغيير ولاء الحكام في السعودية ليخضعوا للسياسة الأمريكية، ولا يخفى هذا على أحد اليوم.
وإذا تناولنا ما جاء به الكاتب (على أنه قد يحمل شيئا من الصحة) دون أي تحامل، فهناك ثلاثة احتمالات لا رابع لها:
١- أن يكون صحيحاً ما يقال عن الرئيس التركي بالعمل لعودة الخلافة واستئناف الحياة الإسلامية. وهذا بعيدٌ كل البعد عن الحقيقة فقد استلم الحكم رئيساً للوزراء منذ عام 2003، وبعد تحويل الحكم إلى النظام الرئاسي استمر في الحكم رئيساً للجمهورية منذ عام 2014، ونجد أن كل الإنجازات التي حققها على صعيد الجمهورية التركية قد أنجزها بالعلمانية ويصرح بأعلى صوته عبر لقاءاته مفتخرا بذلك، وهذا ما قاله عبر قناة العربية في لقاء معه قبل أربع سنوات عندما سأله المذيع أن الكثيرين يجدون صعوبة بالجمع بين الإسلام والعلمانية، فأجابه: "أجد صعوبة في تفسير فهم العالم الإسلامي في الربط بين الإسلام والعلمانية، حيث قمنا بتأسيس حزبنا وعرفنا العلمانية، ووضحنا علاقة الإسلام وصلته بالإرهاب لذلك ميّزنا بين أن نكون مسلمين كأفراد وبين النظام العلماني، أنا مسلم أحكم تركيا بنظام علماني وهي تعني التسامح من قبل الدولة، والدولة تقف على نفس المسافة من كل الأديان والطوائف. هل هذا مخالف للإسلام؟" انتهى.
فهو يعلنها صراحة أنه يحكم بنظام علماني بحت وليست لديه النية لتطبيق نظام آخر وإن كان هو مسلماً!
ومن ناحية أخرى فقد مضى على توليه منصب رئيس الجمهورية أكثر من سبع سنوات ونجده في كل عام أبعد عن الإسلام من العام الذي قبله! ففي الناحية السياسية نجد الطائرات تنطلق من أراضيه لتقتل المسلمين في سوريا وليبيا والعراق، وهو الذي بنى الجدار الفاصل على طول الحدود مع سوريا ويقتل كل من يحاول تجاوزه من جيرانه المسلمين مطبقاً التعليمات الأمريكية في محاربة الإسلام والمسلمين دون أقنعة بل بكل صراحة يعلنها. وللأسف يبرر له البعض ما يفعله بكل قناعة!
أما الناحية الاقتصادية فإننا نعلم كيف قام بضربته الأخيرة لتحقيق مكاسب سياسية قبل الانتخابات لضرب خصومه ولو تم ذلك بكسر الشعب وتجويعه، فبعد قيامه بالإصلاحات الجديدة القائمة على الربا الصريح، داعياً الناس لوضع أموالهم وسحب قروض بنكية ربوية ويضمن لهم العوائد الربوية، وبعدها نجد أن أسعار كل شيء ترتفع أكثر فأكثر؛ فقد تم رفع تعرفة الكهرباء والغاز والمحروقات بنسب تفوق 50%، وارتفاع هذه المواد يؤدي إلى اشتعال الأسعار بطريقة مرعبة، أي يمن عليهم بعطايا بيمينه ويسترد أضعافها بشماله! فهل هكذا تكون رعاية الشؤون؟! أم هي إنجازات خاصة استعداداً للانتخابات القادمة عام 2023م ليبقى في الحكم فيما تدعمه وتقف وراءه أمريكا؟!!
وبعد هذا الاستعراض نجد أن هذا الاحتمال بعيد كل البعد عن الحقيقة، وإنما أردوغان يداعب مشاعر الأمة التواقة لعودة الإسلام.
٢- أنه رجل مسلم يحكم بالعلمانية وليس له أي طموح أن يكون خليفة للمسلمين، ولا يعمل لتطبيق الشرع الإسلامي. وهنا أيضا نجد أنه لو كان كذلك لتغيرت أعماله التي ينسبها للإسلام كقوله: "سوف أواصل صراعي مع الربا حتى أخلص شعبي من هذا الوباء العظيم"، وقوله: "الربا هو السبب والنتيجة هي التضخم". (خطابه في 2021/12/19)
وهنا سؤال يطرح نفسه: لماذا نجد الغرب يشوه صورة أي رئيس تكون له شبهة الانتماء للإسلام، ومن ثم يخرجونه من سدة الحكم فورا، بغض النظر عن الجهة التي يدين لها بالولاء، وهذا ما حصل مع كثير من الشخصيات مع أنها كانت تنصاع للنظام الدولي وتنفذ أوامر أمريكا وغيرها، ومع ذلك تم استبعادها، ولكن لا نجد ذلك يحصل للرئيس رجب طيب أردوغان؟! لماذا؟
فتجده يعتلي منابر تدعم بظاهرها الإسلام، ويقوم ببعض الحركات التي تظهر الإسلام ولو بشكل بسيط، ثم لا نجد أن أمريكا تعمل على إسقاطه، بل يتلقى الدعم تلوَ الآخر!!
مع أنه لو تبنى أو طبق الحكم بما أنزل الله لاتبعته الأمة بكاملها في ليلة وضحاها لِما تحمل من رغبة صادقة لعودة الحكم الإسلامي وأيام العزة والكرامة، فالأمة تقف إلى جانب من يريد تطبيق الشريعة واستئناف الحياة الإسلامية، وستبذل الغالي والنفيس من أجل ذلك. فلو فكر وخطى خطوة واحدة بهذا الاتجاه لرأى بأم عينه هذا المشهد العظيم من هذه الأمة المعطاءة، ولكن لا نجد أي حراك لأمريكا ضده، بل دعم اقتصادي وسياسي وعسكري ومواقف دولية ترفع من شأن تركيا وتدفع بها إلى مصاف الدول الاقتصادية الكبرى.
٣- والاحتمال الأخير مع أني أرجو أن يكون غير وارد لما يحمل من مكر عظيم ضد هذه الأمة. حيث إن الغرب يعلمون أن دولة الخلافة الراشدة بإذن الله قادمة، لذلك هم يقربون شخصية حاكمة لتكون قريبة للأذهان العامة على أنه يصلح لأن يكون خليفة وهو أبعد ما يكون عن ذلك، والذي هو يتوافق مع شخص أردوغان، وذلك لأمر خفي قد يكون صمام الأمان عند قيام دولة الخلافة الحقيقية فيعلن هو أيضا قيام خلافة إسلامية ويطبق الشرع ولكن بغية خنق الخلافة الحقيقية وتشتيت الأنظار وهو معروف للناس ومسوق له سابقا.
والخلافة الحقيقية قد تكون جديدة على الساحة، ومع وجود نصوص صريحة منها حديث الرسول ﷺ: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»، إلا أن بُعد الناس عن الدين عبر مئة عام ويزيد جعل فيهم ضعفا فكريا كبيرا ولا يضعون هذه النصوص موضع التطبيق.
فشخصية أردوغان تصلح لهذا الموقف لما يمتلكه من دهاء ومكر وهم يثقون به ثقة كبيرة جدا حيث ينفذ كل ما يطلب منه بشكل دقيق جدا، وهم على ثقة بأنه لن يقيم الإسلام مهما تعرض لضغوط، فهو يعمل على إرساء العلمانية وتنفيس الشعوب الإسلامية من أي ضغط وحرف رغبتهم لعودة الإسلام إلى سدة الحكم. فوجوده يشكل صمام أمان من ناحيتين:
1- عمله على دمج فكرة العلمانية مع الإسلام والتي ينادي بها ويعتبر تركيا مثلا يقتدى به وأنه يحقق المساواة والعدل والرفاهية والعيش الهني،
2- أنه في كامل الجاهزية ليلعب أدواراً تسند له لوأد الإسلام.
أيها المسلمون: إن مكر الغرب فاق كل تصور، وهو حتماً لا يغفل عن مثل هذه الشخصيات لو كانت مخلصة، فلا تنخدعوا بظاهرها وكونوا أصحاب بصيرة مستنيرة، وكونوا مع من يسعى لإعادة تطبيق الشرع واستئناف الحياة الإسلامية. وهذا الفرض له طريقة واحدة من فكرة الإسلام نفسها خطها رسولنا الكريم وجعلها طريقا مرسوما نتبعه طاعة لله ولرسوله لإقامة دولة الحق التي وعدنا الله سبحانه بها وبشرنا بها الرسول ﷺ في الحديث الشريف: «ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ»، فاعملوا مع العاملين ولا تكونوا من الخاسرين.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
نبيل عبد الكريم