الإثنين، 23 محرّم 1446هـ| 2024/07/29م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الورقة الثانية

حضارة الغرب الكافر.. سراب يحسبه الظمآن ماء

 

 

أكثر من مائة عام عاشتها الأمة الإسلامية في ظل حضارة الغرب الكافر، نشأت من خلالها أجيال لا تتصور الحياة إلا من خلال هذه الحضارة، رغم أن هذه الأجيال ظمأى للعيش الكريم، حيث يعيش الإنسان معززاً مكرماً كما أراد له الله سبحانه وتعالى القائل: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً﴾.

 

لكن للآلة الإعلامية الضخمة والبريق الأخاذ للحضارة الغربية مفعول السحر في أعين كثير من الناس، لذلك نجد أن طرفي الصراع في السودان؛ دعاة مدنية الدولة يطالبون بالحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان وغيرها من مفاهيم الحضارة الغربية، وفي الوقت نفسه يؤكد قادة العسكر الذين انقلبوا عليهم أنهم مع الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها من أفكار الغرب! وعندما يتبنى المتناقضان الأفكار السياسية الغربية نفسها، فإن ذلك يدل على زخم هذه الأفكار التي تم ضخها للناس بكثافة عبر مناهج التعليم، ووسائل الإعلام، حتى أصبحت كأنها الأمل المرتجى، والعلاج الناجع لما يعيشه الناس من أزمات. فما هو أساس هذه الأفكار الغربية؟ وما هي حقيقتها؟ وما هي الثمار المرجوة من العيش في ظلها؟

 

إن أساس أفكار الحضارة الغربية؛ من ديمقراطية وحريات وغيرها، هو عقيدة فصل الدين عن الحياة، الذي ينتج عنه طبيعياً فصل الدين عن الدولة، وهذه العقيدة هي العلمانية، أو ما تسمى في الفضاءات الفرانكفونية (باللائكية)، وهي في جوهرها عبارة عن رؤية معرفية تقوم على فلسفة لا تقر بصلاحية الدين للحكم ورعاية الشئون، وهذه العقيدة باطلة لأنها لم تقم على أساس يقنع العقل ويوافق الفطرة، بل نشأت كحل وسط (توافقي) كتسوية للنزاع في الغرب بين الكنيسة والمفكرين والحكام، فهي ليست عقيدة قامت البراهين العقلية على صحتها، لذلك نجد أن مهد (اللائكية) العلمانية هو فرنسا التي تبنت هذه العقيدة من خلال التصويت عليها، فقد خضعت اللائكية للتصويت في مجلس النواب بتاريخ 1905/07/03م بـ341 صوتاً للائكية، مقابل 233 صوتاً ضدها ثم خضعت للتصويت في مجلس الشيوخ بتاريخ 1905/12/06 فكانت النتيجة 181 صوتا معها مقابل 102 صوتاً ضدها لتصبح قانوناً يلزم الناس بها.

 

لذلك فإن جوهر هذه العلمانية أنها تجربة منحرفة ضالة، لقوم ضالين، فكيف تكون العقيدة التي نشأت ثمرة لتنازل أطراف متنازعة عقيدة صحيحة؟! إن العقيدة العلمانية عقيدة باطلة لمخالفتها للعقل، لأنها لم تحسم أمرها في وجود مدبر للكون أو عدمه! ومناقضتها للفطرة، لأن الإنسان ناقص ومحتاج لجهة كاملة، وهو الخالق، بل إن الإنسان لم يعرف عقيدة باطلة، هشة الأسس، سطحية المبررات، متهافتة البنيان الفكري كالعقيدة العلمانية.

 

إن الديمقراطية كنظام للحكم يمكن تعريفها بمقولة أبراهام لنكولن 1865م الشهيرة بأن الديمقراطية هي (حكم الشعب نفسه، بنفسه، لنفسه) وهي فكرة انطلقت من فرضية خيالية لمفهوم السلطة عند الغرب، فحواها أن الإنسان انتقل من الحالة الطبيعية التي كان يعيش فيها إلى حالة التمدن عبر عقد اجتماعي تنازل فيه الأفراد عن جزء من إرادتهم لتشكيل إرادة جماعية هي الإرادة العامة التي تشكل السيادة.

 

والديمقراطية لا تنفصل عن فكرة الحريات، حسب ما هو موروث من الفلسفة اليونانية، ففي كتاب السياسة يقول أرسطو طاليس: "مبدأ الحكومة الديمقراطية إنما هو الحرية.. لأن الحرية هي الغرض الثابت لكل ديمقراطية"، أما أركان الديمقراطية التي لا تنفصل عنها فهي أفكار: "السيادة للشعب، وفصل السلطات، والحريات، وحقوق الإنسان، والمساواة، والتعددية، والانتخابات والتداول السلمي للسلطة، وسيادة القانون، وحكم الأغلبية مع حفظ حق الأقلية".

 

والديمقراطية كانت وما زالت محل انتقاد من المفكرين الغربيين أنفسهم، وهو ما قرره جاك رانسيير في كتابه "كراهية الديمقراطية" بقوله: "ليست كراهية الديمقراطية جديدة بالتأكيد إنها قديمة قدم الديمقراطية"، وقد اقترح عالم السياسة والقانون الفرنسي موريس دوفرجيه في كتابه "الأحزاب السياسية" تغيير عبارة "حكم الشعب بالشعب" إلى عبارة: "حكم الشعب بصفوة من الشعب".

 

وقد كان محور نقد مفكري الغرب أنفسهم للديمقراطية يتلخص في الآتي:

 

أولاً: طغيان الأغلبية وضياع حقوق (الأقليات).

 

ثانياً: خطورة توسع سلطة الرأي العام التي يتحكم فيها أصحاب المصالح، وجماعات الضغط، ما يؤثر على الانتخابات والقرارات.

 

ثالثاً: قانون الأوليغاركية الحديدي، حيث تحتكر السلطة والتنظيم السياسي مجموعة قليلة من الرأسماليين.

 

رابعاً: تحول الديمقراطية مع مرور الوقت إلى بيروقراطية معقدة لتكون السلطة بيد المتخصصين فقط.

 

ورغم أن هذه الانتقادات منطبقة على واقع الديمقراطية، إلا أن هؤلاء المفكرين لا يتصورون بديلاً عنها، بل ينظرون إليها بوصفها أرقى، أو أمثل، أو أفضل أنظمة الحكم، كما اعتبرها فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ" بأنها المرحلة الأخيرة في تطور البشرية الأيديولوجي.

 

لقد سبقنا مفكرو الغرب إلى تحرير شهادة الوفاة للديمقراطية، غير أنهم جعلوا من الواقع مصدراً للتفكير، فانحرفوا وجعلوا من الديمقراطية معياراً لأنظمة الحكم بدل أن يجعلوها هي نفسها موضعاً للتفكير، لأنهم قسموا أنظمة الحكم التي عرفتها البشرية إلى قسمين، فإما أن يسلم النظام بأهلية الشعب للحكم فيكون ديمقراطياً، أو لا يسلم بذلك فيكون إما الميرتوغراطية؛ أي حكم الكفاءات، أو الأوليغاركية وهو حكم القلة من أجل مصالحها، أو الأرستقراطية؛ أي حكم النبلاء، أو الأوتوقراطية؛ أي حكم الفرد، أو الثيوقراطية وهو حكم النخبة الدينية.

 

وبالنظر إلى هذه الأشكال يتم تفضيل الديمقراطية. لكن هل الديمقراطية هي حكم الشعب فعلاً؟ الإجابة قطعاً أن الشعب لا يحكم، ولا تحكم أغلبيته، بل الذين يحكمون هم الحكام الذين تختارهم صفوة من الرأسماليين أصحاب الثروات والنفوذ الذين يمتلكون الإعلام والمال.

 

أما ركن النظام الديمقراطي الركين فهو الحرية، وهو أيضاً كذبة أخرى تضاف إلى كذبة (حكم الشعب)، فالحرية كمصطلح سياسي غربي تعني: "تبني العلمانية والعيش وفق النمط الغربي كما حدده بارونات المال والإعلام والجنس"، أما الحرية بمعنى الانعتاق من كل القيود، وأن يفعل الإنسان ما يشاء فهذه فكرة خيالية لا وجود لها أصلاً، لأن الإنسان كائن مجتمعي يعيش في جماعة، ويستحيل عليه عقلاً أن يتحرر من قيود النظام، أو القوانين المنظمة لعيشه مع غيره، أو كما قال مونتسكيو في كتابه "روح القوانين": "الحرية هي حق فعل كل ما تسمح به القوانين"، إذاً على الإنسان أن يختار فقط بين أن يعيش عبداً لقوانين شرعتها صفوة من الرأسماليين، أو أن يكون عبداً لله ينظم حياته بقوانين من لدن اللطيف الخبير.

 

أما التعددية الغربية فهي تعددية داخل المبدأ الرأسمالي نفسه، لذلك حارب الأحزاب الشيوعية سابقاً، وحارب، وما زال يحارب الإسلام السياسي، ويصفه بالتطرف والراديكالية والأصولية، إن التعددية الغربية يقصد بها اختلاف الآراء والمشاريع، والأفهام الفكرية والسياسية داخل المبدأ نفسه، وهذه لا تعتبر ميزة للحضارة الغربية، بل هذه التعددية موجودة في الإسلام الذي يسمح بوجود الأحزاب على أساس عقيدة الإسلام.

 

والغرب كاذب في ادعائه حفظ حقوق (الأقليات)، فعلى الرغم من أنه قسم المجتمع إلى مجالين عام وخاص، حسب تقسيمات علماء السياسة والاجتماع، واعتبر أن الديمقراطية متميزة في السماح بالخصوصية والتنوع في المجال الخاص، أما المجال العام فيلزم به الجميع، وكل ذلك محض كذب، فالدول الغربية الآن تفرض قيمها ومفاهيمها في المجال الخاص، وتراقب المسلمين في كل كبيرة وصغيرة، وتحاسبهم على كل فكرة، وتمتحنهم في ثقافتها وحضارتها لتجبرهم على الذوبان في حضارتها، وقد ذكرت إذاعة البي بي سي أن 95% من الأغلبية الذين تم استطلاعهم في الامتحان الذي يعطى للمهاجرين رسبوا فيه!! وذلك أبعد ما يكون عن التعددية المدعاة. ولا شك أن الناظر في الحضارات ليجد أن مفهوم الذمة الذي يقول به الإسلام فكراً وممارسة هو أرقى وأضمن للحقوق من مفهوم (الأقليات) الغربي.

 

أما الانتخابات كأسلوب لاختيار الحاكم، فموجودة في كل الحضارات، ومنها الإسلام، وهو ليس ميزة للديمقراطية، بل الناظر للديمقراطية الغربية يجد أن الانتخابات تقع تحت مؤثرات كثيرة تخرجها من النزاهة، وليس أدل على ذلك مما قاله وفعله ترامب عندما أعلن فوز بايدن.

 

أما ثمار العيش في ظل الديمقراطية الغربية، فسوف آخذ نموذجاً لإحصائيات مأخوذة من أمريكا وبريطانيا، وألمانيا، وفرنسا، وكندا، تصف واقع هذه المجتمعات أمنياً واجتماعياً واقتصادياً:

 

-     يُقتل في أمريكا شخص واحد كل 17 دقيقة بالسلاح.

-     من بين كل ألف أمريكي يوجد 9 في السجون.

-     سنوياً يتعرض 100 ألف أمريكي للضرب بالرصاص، يموت منهم يومياً 89 شخصاً.

-     ينتحر يومياً 53 شخصاً.

-     قتلت الشرطة الأمريكية بدوافع عنصرية 1143 شخصاً في العام 2014 وحده.

-     في بريطانيا في العام 2016، سجل 50% من المواليد غير شرعيين.

-     83 ألف طفل لقيط سنوياً في بريطانيا بحسب الديلي تلغراف.

-     نسبة الجناية الزوجية في ألمانيا 46% للرجال، و43% للنساء.

-     سجلت ألمانيا خلال عام 2010 أكبر عدد للأطفال المولودين خارج نطاق الزواج في تاريخها، فقد كشفت مصادر مكتب الإحصاء الاتحادي في مدينة فيزبادن الألمانية أن واحداً من بين كل ثلاثة أطفال ولدوا العام الماضي لأبوين غير متزوجين. وقدر المكتب إجمالي عدد هؤلاء الأطفال بـ225 ألف طفل "DW".

-     نسبة الجناية الزوجية في فرنسا 55% للرجال، و32% للنساء. و60% من المواليد خارج إطار الزوجية.

-     هناك 19.7 حالة حمل لقاصر لكل ألف في بريطانيا بحسب الغارديان، يعني 2%.

-     في أمريكا تعرضت 20 مليون امرأة للاغتصاب والاعتداءات الجسدية.

-     تقول صحيفة (Family Relation) إن امرأة من كل امرأتين تتعرض للظلم والعدوان من زوجها.

-     في كندا تتقاضى المرأة فقط 72% من أجور الرجال حين قيامها بالعمل نفسه وامتلاكها الخبرات نفسها، وهو تقرير صادر عن منظمة أوكسفام كندا.

-     اقتصادياً بحسب أوكسفام في كانون الثاني/يناير 2019 فإن 26 شخصاً من أصحاب المليارات يملكون نصف ثروات سكان المعمورة.

-     في العام 2017م عندما كان الدين العالمي 217 تريليون دولار، كان كل إنسان على سطح الأرض رجلاً كان أم امرأة، أم طفلا، مديناً بحوالي 29 ألف دولار "سكاي نيوز عربية"، وفي العام 2021 ارتفع الدين العالمي إلى 296 تريليون دولار.

إن نظام الحكم الذي يمكنه عملياً رعاية الشئون يقوم في أصله على الإجابة عن ثلاثة أسئلة هي: بم يحكم؟ ومن يحكم؟ وكيف يحكم؟

ولقد أجاب مبدأ الإسلام عن هذه الأسئلة بإجابات مبدئية، متسقة، منطبقة على واقع الحكم، ليست بينها أجوبة وهمية، أو كاذبة، أو غير منطبقة على الواقع.

فالحكم يكون بالمبدأ الذي ارتضاه مجموع الناس، وهو في حالتنا مبدأ الإسلام.

 

والذي يحكم هو الذي تختاره الأمة صاحبة السلطان، وتعقد له البيعة عقداً شرعياً.

وكيف يحكم، فإنه يحكم بما أنزل الله في كتابه، وما جاء في سنة نبيه ﷺ، متبنياً أحكاماً شرعية، إما باجتهاده، إن كان الخليفة مجتهداً، أو باجتهاد غيره إن لم يكن من أهل الاجتهاد، ويجعلها دستوراً وقوانين يسير بها الحكم والسلطان، فإنه في مرحلة الرأي تتسع الدائرة حسب شكل أجهزة الدولة شرعاً، يقول سبحانه وتعالى: ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾، وفي مرحلة اتخاذ القرار فإنه أمر فردي: ﴿فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾.

 

هذا هو نظام الحكم في الإسلام؛ الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.

 

 

 كلمة ألقاها الأستاذ المحامي حاتم جعفر (أبو أواب) عضو حزب التحرير / ولاية السودان في الخامس عشر من رمضان المبارك 1443هـ في صالة منتجع (دوسة السياحي) خلال فعالية الإفطار الرمضاني السنوي الذي نظمه حزب التحرير/ ولاية السودان، والذي حضره جمع غفير من السياسيين والإعلاميين والعلماء وزعماء الإدارات الأهلية، وغيرهم ممن يهتمون بأمر العامة بالإضافة لشباب حزب التحرير.

 

قدمها: الأستاذ المحامي حاتم جعفر (أبو أواب)*

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع