- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
نقْص النَّقد الأجنبي في مصر
هل يبرِّر تفريط الدولة في الملكيات العامة ومواردها؟!
يقول النظام إن مصر تعاني، مثل كثير من دول العالم، من تداعيات تفشِّي جائحة كورونا عام 2020م، وما أفضى إليه من إغلاق عام وتعليق للكثير من الأنشطة الاقتصاديَّة، وكذلك من تبعات الأزمة العالميَّة النَّاتجة عن الغزو الرُّوسي لأوكرانيا في 24 شباط/فبراير 2022م، والَّتي تتجلَّى في ارتفاع أسعار الغذاء والوقود، ونقْص بعض المنتجات الزِّراعيَّة الأساسيَّة، لا سيِّما القمح. وقد انعكست تداعيات الغزو الرُّوسي لأوكرانيا على القطاع الاقتصادي في مصر، بهروب الأموال السَّاخنة من البلاد، لينخفض احتياطي النَّقد الأجنبي من 41 مليار دولار مطلع عام 2022م إلى 34 ملياراً مطلع العام الجاري. وكأن هذه الأموال الساخنة تدعم اقتصاد البلاد حقا وأن خروجها يؤدي لانهياره، وهو ما لا يحدث إلا في ظل الرأسمالية، وقد اضطرَّت الحكومة المصريَّة إلى تحرير سعر صرْف العملة الرَّسميَّة، الجنيه المصري، أمام الدُّولار الأمريكي 3 مرَّات خلال عام واحد، حسب زعمها، وكأنها لا تخضع بهذا لقرارات الصندوق الدولي وشروطه لمنح القرض، لتتهاوى قيمة العملة من حوالي 15.5 جنيه أمام الدُّولار في آذار/مارس 2022م، إلى 31 جنيهاً أمام الدُّولار الواحد، وإن كانت القيمة الفعليَّة، كما يشير خبراء ومراقبون، تزيد على 42 جنيهاً أمام الدُّولار، هذا الأمر قد يكون جيدا لو أن مصر بلد منتج وصناعي ولو أن الصناعات المصرية تملك القدرة على المنافسة وتجد إقبالا ومرونة في الطلب، ولو لم تكن مصر تستورد ما يزيد على 80% مما تستهلك، ولكن العكس هو الصحيح؛ فمصر تستورد ولا تملك مرونة في التعامل مع ما تستورد من منتجات ومحاصيل كالقمح والأدوية والسلاح وغيرها من الصناعات الثقيلة، بينما لا تلقى منتجاتها رواجا لدى المستوردين، ما يعني أن خفض العملة وبال على مصر وأهلها.
وتتَّبع الحكومة المصريَّة سياسة بيع أصول البلاد بهدف سدِّ عجْز النَّقد الأجنبي، وتوفير العملات الصَّعبة، وهو ما حذَّر منه خبراء اقتصاديون، حيث اعتبروا ذلك حلّاً مؤقَّتاً لأزمة تراجُع سعر العملة المحلِّيَّة أمام الدُّولار، فبيع الأصول يعني التفريط في الملكيات العامة والشركات المملوكة للدولة والسماح للمستثمرين الرأسماليين بتملكها خضوعا لقرارات المؤسسات الدولية الاستعمارية وليس بحثا عن توفير الدولار، فما سيتم توفيره من دولار ستلتهمه فوائد الديون وأقساطها والقائمة الطويلة لما تستورده مصر من سلع تستطيع إنتاجها، وتنوي الحكومة المصريَّة تحرير سعر الصَّرف مجدَّداً خلال الفترة الحالية، لكنَّها آثرت إرجاء الأمر إلى ما بعد 30 حزيران/يونيو 2023م، أي بعد انتهاء العام المالي الجاري، حرصاً على عدم حدوث أزمة في موازنة العام المقبل بتسعير الدُّولار بقيمة أعلى، رغم وجود الأزمة بشكل فعلي وما يفعله النظام فقط هو تأخير شعور الناس بتلك الأزمة ومحاولة تخفيف حدة آثارها، ومع ذلك، فإنَّ الحكومة تواجه ضغوطاً كبيرة من الدَّائنين الدّوليين والإقليميين وبنوك الاستثمار الكبرى للمسارعة في تحرير سعر الصَّرف، برغم ما سيؤول إليه من ارتفاع جديد في أسعار السِّلع والخدمات وما ينطوي عليه ذلك من زيادة في أعباء المواطنين. الأهمُّ من ذلك أنَّ تحرير سعر الصَّرف 3 مرَّات خلال عام واحد لم يفضِ إلى القضاء على المضاربات في السُّوق السَّوداء، ولا إلى توحيد سعر صرْف الجنيه مقابل الدُّولار، ولن يفضي، فالأزمة في العملة الورقية ذاتها وكونها ليست لها قيمة في ذاتها.
تحذير من مغبَّة بيع أصول البلاد لحلِّ أزمة الدُّولار
وليرضى الغرب عنها وخضوعا لقرارات الصندوق الدولي، أعلنت الحكومة المصريَّة مطلع العام الجاري استعدادها لطرْح مجموعة من الأصول المملوكة للدَّولة قبل نهاية العام المالي الجاري، سعياً لتوفير حصيلة من النَّقد الأجنبي تبلغ 2.5 مليار دولار؛ لسدِّ الفجوة في العملات الأجنبيَّة البالغة 16 مليار دولار، وفقاً لما كشَف عنه تقرير صندوق النَّقد الدُّولي في 10 كانون الثاني/يناير 2023م. وتضمُّ قائمة الأصول المزمع بيعها 32 شركة، ستُطرح للاكتتاب العام في البورصة أو تُباع مباشرةً لمستثمرين أجانب. ومن السِّياسات الأخرى المطروحة للحصول على مزيد من النَّقد الأجنبي منْح الجنسية المصريَّة مقابل وديعة بالدُّولار أو شراء عقار، والسَّماح بالإعفاء الجمركي للمصريين بالخارج عند استيراد السَّيَّارات مقابل وديعة بالدُّولار. غير أنَّ خبراء اقتصاديين يعيبون على الحكومة اتِّباع مثل تلك السِّياسات من أجل سدِّ عجْز العملات الأجنبيَّة؛ حيث يرونها مؤقَّتة ومرهقة وغير مجدية على المدى البعيد، كما أنَّ الحكومات السَّابقة تطبِّق سياسات مشابهة منذ 3 عقود ولم تؤتِ ثمارها، بل أدَّت إلى مزيد من التَّأزُّم الاقتصادي، (روسيا اليوم، 2023/3/27م) (عربي21، 2023/4/29م) كل هذا ليس علاجا للأزمة ولا يرقى لأن يكون مسكنا للألم الناتج عنها ولو لبعض الوقت بل هو انغماس في الأزمة وتعميق لها تماما كمن يداوي جراحه بشرب السم! فبيع الأصول والشركات يعني فقدان مصادر دخل كانت كفيلة بتوفير المال لما تحتاجه الدولة لو وجهت نحوها بعضا من الدعم لتطوير أدائها وتحسين إنتاجها ودعم المصنعين والصناعات وخاصة الثقيلة منها.
بيع الأصول لن يحلَّ وحده الأزمة الاقتصاديَّة
حتى الغرب يدرك أن الحلول فاشلة وأن بيع الأصول لن يخرج مصر من تلك الأزمات وإن كان يرى أنه يحتاج إلى أشياء وفق رؤية الرأسماليين والتي تصب عادة في صالح أصحاب رأس المال دون وضع أي اعتبار للشعوب التي تدفع الفاتورة من دمائها. فوفق تقرير أصدره بنك أوف أمريكا، وهو مصرف استثماري أمريكي متعدِّد الجنسيَّات، مطلع أيار/مايو 2023م، لن يكفي بيع أصول مصر في معالجة مشكلتها الاقتصاديَّة الآخذة في التَّأزُّم، مشيراً إلى أنَّ نقْص العملات الأجنبيَّة وعدم استقرار سعر صرْف الدُّولار من بين أسباب تأخُّر البيع، بل وتخارُج كيانات اقتصاديَّة ضخمة من البلاد، كان أحدثها شركة الدَّار العقاريَّة الإماراتيَّة، وقبلها بأيَّام شركة إكسترا السَّعوديَّة الَّتي أوقفت أنشطتها التَّوسُّعيَّة في مصر. وأضاف التَّقرير أنَّ الخطوات الَّتي تتَّخذها الحكومة المصريَّة لا تفي بشروط صندوق النَّقد الدُّولي الَّتي أعلنها عند منْحه البلاد قرضاً جديداً بقيمة 3 مليارات دولار في كانون الأول/ديسمبر الماضي، موضحاً أنَّ مصر ستبيع أصولاً إلى دول الخليج بقيمة 6.7 مليار دولار خلال السَّنوات الخمس المقبلة. في حين رأى رئيس شركة أوراسكوم للتَّنمية القابضة أنَّ سبب تفاقُم الأزمة الاقتصاديَّة وتراجُع قيمة العملة المحلِّيَّة يرجع إلى سياسات حكوميَّة خاطئة طُبِّقت خلال العامين الماضيين، هي وقْف الإنتاج والبيع والاستيراد، (المتداول العربي، 2023/5/3م). الجميع يرى الأزمة ويدرك عمقها وفشل النظام في التعامل معها ومع هذا فهم ينظرون إليها ويحاولون علاجها من وجهة النظر الرأسمالية سبب كل الأزمات والتي لا تملك حلولا ولا معالجات.
ونتساءل: كيف ستوفِّر الحكومة المصريَّة العملات الأجنبيَّة اللازمة لسدِّ العجز واستيراد السِّلع الأساسيَّة، إن لم يكن بيع الأصول كافياً؟! وما مآل زيادة الأعباء على المواطنين مجدَّداً برفع الأسعار بعد تحرير سعر صرْف العملة المحلِّيَّة للمرَّة الرَّابعة خلال أقلِّ من عام ونصف؟!
يرى رئيس أوراسكوم القابضة أن هناك سياسات حكومية خاطئة تطبق خلال العامين الماضيين ويرى الخبراء الاقتصاديون أن السياسات التي تنتهجها الحكومات منذ 3 عقود أدت لمزيد من التأزم الاقتصادي، وحذر خبراء من سياسة بيع أصول البلاد بهدف سدِّ عجْز النَّقد الأجنبي حيث اعتبروا ذلك حلّاً مؤقَّتاً لأزمة تراجُع سعر العملة المحلِّيَّة أمام الدُّولار. كما أن تحرير سعر الصَّرف لم يوحد سعر الصرف ولم يقض على المضاربات في السوق السوداء بل إنه ينعشها، فما هي أسباب الأزمة الحقيقية وكيف يكون علاجها والتعامل معها؟
إن سبب الأزمة ليس هو السياسات الحكومية التي انتهجتها الحكومة خلال العامين الماضيين ولا حتى منذ العقود الثلاثة الماضية، فقد ساهمت تلك السياسات فقط في تفاقم الأزمة ولا زالت تساهم، فالأزمة في حقيقتها أزمة نظام يوجد البيئة الخصبة لكل أنواع الفساد والتربح الحرام ويمكّن الغرب بشركاته الرأسمالية من نهب ثروات البلاد وخيراتها ويغرق البلاد في مستنقع القروض وما تجره من سياسات وشروط وقرارات وتبعية للغرب ومؤسساته الاستعمارية، فالنظام يمنح الشركات الرأسمالية حقوق التنقيب عن النفط والغاز والمعادن وباقي الثروات واستخراجها بل وتكريرها ومن ثم بيعها، بينما هذه المنابع وما فيها من ثروات هي حق للأمة لا يجوز للدولة أن تمنح شركات الغرب امتيازا عليها أو حقا للتنقيب فيها أو حتى إنتاج الثروة منها، بل يجب على الدولة أن تهيمن بنفسها على تلك الموارد وتنتج الثروة منها بأن تنشئ شركات تنقيب أو تستأجر من يستخرج الثروة مقابل أجرة محددة وتعيد توزيع ما ينتج من ثروة على الناس بالتساوي دون تمييز بين مسلم وغير مسلم.
إن التصدي للأزمات يتطلب التالي:
أولا: الامتناع عن طلب أو قبول أية قروض أو منح أو معونات من الغرب ومؤسساته الاستعمارية حتى لو لم تكن مشروطة وحتى لو كانت غير ربوية، فمصر بمواردها وطاقات شبابها الهائلة في غنى عن أية قروض، فقط تحتاج لأن يفتح أمام الناس باب إحياء الأرض بالسكن والزراعة والإعمار وأن يمكّنوا من الانتفاع بموارد البلاد وثرواتها، عندها لن نحتاج لاستيراد القمح بل سنصدره.
ثانيا: إنشاء صناعات ثقيلة في البلاد تكون عماداً لكل الصناعات فنصنع الآلات التي تصنع المصانع وخطوط الإنتاج وتصنع السيارات والطائرات والأسلحة خاصة الثقيلة منها فنستغني بها عن استيراد السلاح وغيره من السلع الاستراتيجية كالدواء مثلا فلا يصبح للغرب سلطان على البلاد.
ثالثا: إلغاء التعامل بالعملات الورقية خاصة في التعاملات الدولية، واعتماد نقود من الذهب والفضة أو ورقة نائبة عنهما مع وضع فترة انتقالية يتم فيها سحب ما في يد الناس من عملات ورقية قديمة وصك عملات جديدة من أساسها الذهب والفضة، وبهذا تكون عملة البلاد لها قيمة في ذاتها تتحدى التضخم ولا تؤثر فيها الكوارث والنكبات.
هذه هي الحلول الحقيقية لما تعانيه مصر من أزمات، وهي حلول يستحيل على النظام الحالي القيام ولو بجزء صغير منها، فالأعمال العظيمة لا يقوم بها العملاء بل تحتاج مخلصين للقيام بها وتحمل تبعاتها، فالغرب لن يسمح بتطبيقها ففيها ضرب لمصالحه بالكلية، كما أنها جزء لا يتجزأ من الإسلام وأحكامه ونظامه ولا تطبق بمعزل عن باقي الإسلام، وبالتالي فإن تطبيقها يحتاج أن يطبق الإسلام كاملا في ظل دولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
محمد حسن التهامي – ولاية مصر