- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
علمانية بورقيبة تُجرم في حق الصحابي الجليل أبي لبابة الأنصاري
من قلب اليمن، التي كان يتجاذبها في ذلك الوقت ملوك الفرس والروم، استقل ثعلبة بن عامر الأب الأكبر لأوس عن قبيلته واستقر في يثرب (المدينة المنورة)، التي كانت تسيطر عليها العشائر اليهودية. وقد كان ذلك قبل الطوفان الكبير لسد مأرب. ثم في يثرب، تأسس ما صار يعرف لاحقا بقبيلة الأوس، وهي من سلالة ثعلبة بن عامر، الذي أخرج الله من أصلابه واحدا من خيرة صحابة رسول الله ﷺ، وهو من بني أمية بن زيد.
إنه الصحابي الجليل، أبو لبابة بن عبد المنذر رضي الله عنه (المعروف اليوم بأبي لبابة الأوسي الأنصاري)، الذي نشأ على وقع صراعات قبلية دامية تغذيها عصبيات مقيتة، بين قبيلته الأوس وقبيلة الخزرج، استنفرت جوارحه واستفزت عقله ليخوض رحلة البحث عن الذات ويعزز مكانته في قومه منذ بدأ مهنة التجارة، ولكنه في الوقت نفسه، تربى على قيم الرفعة والمروءة والكرم والعزة والشهامة التي يتمتع بها العرب، فنحتت جزءاً من شخصيته وهيأته لأن يكون واحدا ممن يعز الله بهم الإسلام ويعزهم بالإسلام، فيخلد اسمه في التاريخ بعد أن كان نكرة في الجاهلية.
فالعربي الحر ترتقي به عزة نفسه عن أن يرضى بالقليل ويقنع به، وروحه توّاقة دائماً إلى العلا، ولئن يحيا أياماً معدودة، وإن خالطتها المرارة، في عز وكرامة، أفضل له من أن يعيش سنوات طويلة في ذل ومهانة، وهذا ما عبر عنه عنترة بقوله:
فَلا تَرضَ بِمَنقَــصَةٍ وَذُلٍّ *** وَتَقــنَع بِالقَليلِ مِنَ الحُـطامِ
فَعَيشُكَ تَحتَ ظِلِّ العِزِّ يَومٌ *** وَلا تَحتَ المَذَلَّةِ أَلفَ عامِ
ولذلك شاءت الأقدار أن ينزل الإسلام على العرب بلسان عربي مبين، لا على الفرس أو الروم، حيث لم يكن ذكر لمكة أو يثرب في التاريخ قبل الإسلام، في الوقت الذي يتقاسم فيه الفرس والروم النفوذ على العالم.
ولكن بقدوم الإسلام الذي يأبى الذلّ والضيم، وجد المؤمنون بهذا الدين كل معاني العزة والكرامة التي يبحث عنها الإنسان الناهض، فتركوا ما كان بين أيديهم، وتجاوزوا كل العرقيات والعصبيات، وذابت شخصياتهم الفردية وانصهرت بالإسلام في بوتقة الهدي المحمدي، فصاروا إسلاما يمشي على الأرض، وقاموا لتشييد أعرق وأعظم حضارة عرفها تاريخ البشرية، وهي الحضارة الإسلامية التي خر لها جبابرة الفرس والروم في فترة وجيزة، لأن العزة لله جميعا. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً﴾.
وكغيره من أعضاء كتلة رسول الله ﷺ وصحابته الأخيار، انطلقت قصة أبي لبابة رضي الله عنه من دار الأرقم بن أبي الأرقم في مكة، مصنع الشخصيات القيادية، ولكن كيف حصل ذلك وهو من قبيلة الأوس في المدينة؟ الجواب يكمن في معرفة من أشرف على تبليغه رسالة الإسلام فكتّله ودرّسه في حلقات الذكر والقرآن.
إنه الصحابي الكريم والسياسي العظيم الذي قامت على كتفيه دولة الإسلام في المدينة، مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، ذلك الشاب القرشي الجميل المترف الذي يرتدي أحسن الثياب، ويتعطر بأفضل العطور، ولكن شخصيته القيادية الفذة جعلته يتلقف دعوة الإسلام في مهدها، فأسلم سرا في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وتلقى أفكار الإسلام تلقيا فكريا مؤثرا غير مجرى حياته. فقد اكتشف قومه أمر إسلامه فحبسوه، فلم يزل محبوسا إلى أن هاجر إلى الحبشة، ثم رجع مع المسلمين حين رجعوا، وهو مدرك لعظم الأمانة التي وضعت على عاتقه، ثم بعثه النبي ﷺ بعد عودته مع نقباء الأنصار الاثني عشر الذين بايعوا بيعة العقبة الأولى ليُعلّم من أسلم من أهل يثرب القرآن، ويدعوَ للإسلام، ويصلي بهم، فنزل ضيفاً على أسعد بن زرارة الذي يقال إنه أول من بايع ليلة العقبة الأولى.
وكان أبو لبابة رضي الله عنه من وجهاء المدينة وشجعانها وكبار تجارها، جاء إلى الحج وأسلم وهو في عنفوان شبابه ليلة العقبة الثانية بمكة المكرمة على يد مصعب بن عمير وشهد البيعة وأوفى بحقها قبل هجرة الرسول ﷺ، وكان في استقباله بالمدينة لما جاءها مع المهاجرين وهو أحد النقباء الاثني عشر الذين سماهم النبي ﷺ ليلة وصوله المدينة، وقد ظل ثلاثة أشهر يترقب قدوم النبي ﷺ لإقامة سلطان الإسلام في المدينة، قضاها في تعلم القرآن والتدبر في آياته على يد صانع الشخصيات القيادية، مصعب بن عمير رضي الله عنه، فكانت الآيات القرآنية تستنهض العقول من غفلاتها، وتستفز الأفكار من مراقدها، فتوقظ الهمم وتشحذ عزائم الثلة المؤمنة بالإسلام التي قامت على أكتافها دولة الإسلام. وكان ممن بايع ونصر وآوى، وهو من الأنصار، ولذلك استحق لقب "الأنصاري" عن جدارة.
لم يفكر في الذهاب إلى اليمن موطن أجداده، ولم يتمسك بحدود وضعها الفرس أو الروم، بل كان موجودا حيث يطلب المبدأ أن يوجد، فكان بادئ الأمر مرابطا في نقطة ارتكاز الدعوة لحماية الدولة الناشئة باعتباره من وجهاء المدينة، حيث استخلفه الرسول ﷺ على المدينة المنورة في غزوتي بدر والسويق، وشهد معه باقي المشاهد، فانضم إلى أهل الصفة بمسجد المدينة المنورة ونذر نفسه للجهاد في سبيل الله ونشر دين الإسلام.
كما استخلفه الرسول ﷺ على المدينة في غزوة بدر والقعقاع والسويق في السنة الثانية للهجرة، ثم شارك في غزوة فتح مكة في السنة الثانية للهجرة وكان حاملا لواء قومه. ومن أهم إنجازاته رضي الله عنه:
- انضم إلى جيش الزحف الذي جمعه سيدنا خالد بن الوليد من خيرة الصحابة الكرام.
- توجه إلى حرب الردة باليمامة لمقاتلة مسيلمة الكذاب وجيشه.
- توجه مع سيدنا خالد بن الوليد إلى العراق والشام وفلسطين ومصر.
- حضر فتح حصن عزاز بحلب من أرض الشام.
- حضر فتح دمشق وكان على باب الجابية صحبة أبي عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه.
- كان ضمن كتيبة من الفدائيين بقيادة سيدنا خالد بن الوليد في حرب اليرموك.
كان أبو لبابة رضي الله عنه وأرضاه جنديا من جنود الخلافة الراشدة، حاملا لواءها، كتفا بكتف مع قادة الرعيل الأول للدعوة، وكان رضي الله عنه نموذجا في الذود عن دين الله وإعلاء رايته، محبّا لذروة سنام الإسلام؛ الجهاد في سبيل الله.
أما وطنه، فلا تحدّه إلا الفكرة الإسلامية ومدى انتشار الدعوة، ليساهم في تشكيل الأمة وتقوية دعائم الدولة على أساس الفكرة المبدئية التي آمن بها، وهي الفكرة نفسها التي شكلت هوية أمة، لا يحتاج الراكب فيها من صنعاء إلى حضرموت إلى بطاقة هوية أو جواز سفر، وإنما يكفي أن تكون هويته الإسلام وقبلته الكعبة. بل لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.
ولم تقف إنجازاته عند هذا الحد، بل لقد اقتحم أبو لبابة مع المجاهدين في فتح مصر في سنة 20 للهجرة وكان حاملا لواء الجهاد. ثم قدم رضي الله عنه إلى إفريقية (تونس حاليا) في خلافة سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه وتوفي في عهد خلافة الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بضاحية مارث بالمكان المعروف بواد الغيران من ولاية قابس، ونقل جثمانه الطاهر إلى ربوة أبي لبابة بالسويدة من بلدة قابس حيث يوجد مقامه الآن، ليترك لمن بعده أمانة حمل المشعل وفتح بقية بلاد شمال أفريقيا وحتى أوروبا.
ورغم مرور قرون عديدة على ذلك، إلا أن مرقده ظل شاهدا على قوة رابطة العقيدة الإسلامية أمام جميع الروابط الأخرى، وعلى قوة هذه الشخصية المرابطة في سبيل الله، والتي خلد اسمها التاريخ، وكرمها أهل تونس جيلا بعد جيل، بمعرفة خصالها ومناقبها واستلهام الدروس والعبر من تاريخها وحفظ قبرها.
نعم، نحن أمام شخصية عظيمة، لها تاريخ حافل بالانتصارات والفتوحات، حوّل الإسلامُ صاحبَها من تاجر شاب في يثرب (أضعف نقطة على وجه الأرض) إلى قائد عسكري فذ يجوب الأرض فاتحا، فلم توقفه حدود ولا سدود عن تحويل ديار الكفر إلى دار إسلام، وهو ممن ينطبق عليهم قول أعداء الإسلام: "هؤلاء قوم لو أرادوا خلع الجبال لخلعوها". ولكن ماذا حصل بعد سقوط دولة الإسلام مطلع القرن الماضي؟
لقد فرض الاستعمار على الأمة ومن بعده ورثته من الحكام، فكرا رأسماليا دخيلا مستوردا، وحضارة فرضت زورا على واقع حضاري مخالف، بالقوة القاهرة والاستبداد والقمع والجبروت، حيث أصبحت ضاحية مارث التي وطأتها أقدام هذا الصحابي الجليل، موقعا لأعظم مواجهة حصلت في الحرب العالمية الثانية بين قوى الحلفاء والمحور، ضمن صراع صليبي محموم على النفوذ في شمال أفريقيا، وصارت القوى الاستعمارية تجتمع للذكرى في هذه البقعة انتصارا لكذبة السلام العالمي الذي ترعاه أمريكا، رأس الكفر وصانعة الإرهاب والدولة الأولى في أجندة الحرب على الإسلام.
هذا طبعا، بعد تشييد حصون الوطنية بأسلاك شائكة، وتفريق الأمة بدول كرتونية من صنع الاستعمار، ونصب أنظمة وظيفية تحول دون وحدتها على أساس الإسلام، خشية صناعة تفلت الأمة من أسياج الوطنية، بل خشية عودة الخلافة الراشدة التي تعيد الأمور إلى نصابها.
أما العلمانية التي ارتضاها بورقيبة لحكم تونس، عقب نسج خيوط مسرحية الاستقلال المزعوم، فكان من بين جرائمها في حق الإسلام، تدنيس التاريخ الإسلامي وتحريفه واستهدافه لتشكيك الناس في العقائد والأحكام، فلم يسلم من شر العلمانية ووقاحتها رسول الله ﷺ ولا صحابته الكرام.
ومن الأدلة الحسية على جرم هذا النظام العلماني الفاجر، ما نراه إلى اليوم من تطاول وتجرؤ على مقام الصحابي الجليل أبي لبابة الأنصاري في قابس، حيث يمن علينا بورقيبة بقبول ترميمه من سمو فخامته، مستحضرا ذنبا ارتكبه هذا الصحابي الذي تاب الله عليه، ليشهر به عند كل من يزور مقامه، ولسان حاله يقول، أن "الزعيم المجاهد" بورقيبة قد رضي بترميم مقام صحابي مات على أرض تونس، رغم ارتكابه لهذا الذنب، وكأن تونس هي ملك يمينه وليست جزءاً من بلاد الإسلام!
الأنكى من ذلك، أن يصبح مقام هذا الصحابي الجليل تزامنا مع ذكرى مولد رسول الله ﷺ، مكانا للرقص على إيقاع الأغاني الشعبية التونسية اليوم، في عهد من يتشبه بالفاروق عمر، ويرتمي في أحضان زعيم فرنسا الصليبية، ألا ساء ما يحكمون!
لو كان هذا الصحابي حيّا، لحمل دعوة الإسلام، ولانتفض في وجه من استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ليسقط عروش الظالمين من حكام المسلمين، وليقود شعوب الأمة في صراعها لبقايا حضارة استنفدت أغراضها في بلادنا من أجل أن تحل محلها حضارة عميقة الجذور في وجدان أمة الجهاد والاستشهاد، هي حضارة الإسلام العظيم.
ختاما، إن مقام سيدنا أبي لبابة رضي الله عنه وسائر الصحابة الكرام محفوظ عند الله سبحانه، لا تطاله أيدي المجرمين من دعاة الحداثة والعلمانية ممن انسلخوا عن الإسلام وأعلنوا ولاءهم للكافر المستعمر.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ لَا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾. وهذا وعد من الله تعالى للنبي ﷺ ومن آمن معه، وهم الصحابة، بالكرامة في الآخرة، وبالشرف التام، والمقام الرفيع، والنور الظاهر.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
المهندس وسام الأطرش – ولاية تونس