السبت، 21 محرّم 1446هـ| 2024/07/27م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

حرب غزة والصاعقة الحضارية وانتفاضة معاقل اللاهوت العلماني "الجامعات"

 

 

 

تكاد تكون الحرب هي لحظة الصدق الوحيدة التي يكشف فيها الغرب الكافر عن حقيقته وينزع قناع نفاقه وخداعه، فالحرب هي الزمن الاستثنائي الذي يعبر فيه الغرب الكافر بأمانة تامة وصدق خالص عن حقيقة خبث طباعه ووحشية إجرامه وعدمية فلسفته وسحق ومقت حضارته. ففي الحرب يفصح الغرب الكافر ببلاغة وبيان تامّين عن وحشيته وطبيعته الإجرامية وماديته الكافرة الفاجرة العارية المجردة من كل ذلك الزيف الإنساني والدجل الحضاري، سادية في التنكيل والتعذيب والقتل والدمار والخراب، صليبية حاقدة وبغضاء سوداء على الإسلام وأهله، عنصرية مقيتة قاتلة وتصنيف عرقي بغيض مجرم، فلا مبادئ ولا قيم ولا مُثل، هي البَربَرية والهمجية وكفى!

 

فالحرب هي أفعل وأبلغ المختبرات في الإخبار عن حقيقة المبادئ ومنظومة المثل والقيم، والحرب هي أقسى وأصدق الامتحانات لقيم ومثل ومفاهيم ومعايير منظومة ما، بل لأسسها المعرفية وجذرها الفلسفي. علما أن الحرب لا تنفك عن حمولتها الفلسفية ومفاهيمها الحضارية؛ فهي أداة من أدوات المنظومة في تحقيق غاياتها وليست طارئا على المنظومة أو عطبا وخللا معرفيا رغما عنها. فالنظرية العلمانية الوضعية ترى في الحرب حقا وضعيا في الدفاع عن الحقوق العلمانية الوضعية، حتى إن الفيلسوف الأمريكي مايكل والزر يطرح مفهوم الحرب العادلة ويسوغها في سياق الانتصار لشرعة حقوق الإنسان (العلمانية)، ففي كتابه "الحروب العادلة والحروب غير العادلة حجاج أخلاقي"، يبرر عدله العلماني وحق الأنظمة الديمقراطية في استخدام العنف حصريا من أجل الحقوق (العلمانية) بعد إخفاق الوسائل الدبلوماسية السلمية.

 

فمن العبث تصور حروب محايدة مجردة ومفرغة من حمولتها الثقافية والحضارية، فالحرب العلمانية تستدعي دوما مسوغاتها ومبرراتها العلمانية وتستخدم بكثافة مفهومي العدل والحق العلمانيين وتعتبر مخالفتهما، بمعنى انتهاك الحقوق العلمانية جريمة، وتحرك من أجل ذلك مؤسساتها وأجهزتها العلمانية التنفيذية المخصصة لهكذا أمر كمجلس الأمن وهيئة الأمم ومحكمة العدل ومجلس حقوق الإنسان، وتبرر وتسوق حربها العلمانية كإجراء قانوني يستلزم الاقتصاص من الذين انتهكوا تلك الحقوق والحرمات العلمانية.

 

فمبررات ومسوغات حروب العلمانية اليوم هي ادعاءاتها الزائفة المشحونة بمصطلحات الديمقراطية وحقوق الإنسان والحريات والقانون الدولي والسلم العالمي وتلك الديباجة من المعايير العلمانية للحقوق، والمناهضين لهذه الحقوق العلمانية هم الأعداء المجرمون. إلا أن النظرية العلمانية على فساد وبطلان فلسفتها وحقوقها العلمانية الزائفة تختلف كليا عن حقيق الممارسة العملية، فمع الممارسة العملية تختفي النظرية وشعاراتها أمام الواقع الرأسمالي الذي أفرز فلسفته ومعاييره ومقاييسه الخاصة به والمعمول بها سياسيا، والحرب هي لحظة الحقيقة العارية التي تكشف عن حقيق الممارسة وحقيق الواقع الرأسمالي المجرم القاتل وفلسفته ومعاييره ومقاييسه المعمول بها سياسيا، وهناك حروب كاشفة فاضحة لحقيقة الغرب فلسفة وحضارة، فقد كانت الحربان العالميتان الغربيتان الأولى والثانية وحرب فيتنام واحتلال العراق وحرب غزة اليوم من تلك الحروب الكاشفة الفاضحة التي تحدث صاعقة حضارية وزلزلة ثقافية وخلخلة للقناعات النمطية والمفاهيم السائدة.

 

لقد أفضت العلمانية الغربية إلى حروب شرسة أزهقت أرواح الملايين من الأبرياء وسوقتها كوعود بنهضة علمانية زائفة ووعدت ومنّت ضحاياها بوهم الأخوة الإنسانية والمساواة وسقيم وعقيم ديمقراطيتها وحرياتها، وهي حقيقة تسعى لتحقيق غايتها الرأسمالية في نهبهم واستعبادهم. فما الحروب العلمانية سوى حقيقة الوجه القبيح الذي تحمله حداثة الغرب وعقلانيته المتهافتة ورأسماليته المجرمة القاتلة، حين تنكبّ الآلة العلمانية المتوحشة في سحق البشر والشجر والحجر مجردة من أي قيم أم مثل أو معيارية أخلاقية، لا يحركها سوى مصالح حفنة اللصوص المتنفذين والمتحكمين في الآلة سببا وغاية.

 

وحرب غزة اليوم وإبادتها القائمة والمستمرة كحرب فيتنام في ستينات القرن الماضي ومحرقتها المروعة كشفت وفضحت المنظومة العلمانية نظرية وممارسة، فقد شكلت اختبارا حقيقيا للنظرية العلمانية وممارساتها العملية وأثبت الاختبار الفشل الذريع للنظرية وحقيق وحشية وهمجية الممارسة وجلى تهافت النظرية وزيف وبطلان ادعاءاتها (حقوق إنسان، حريات، سيادة الشعب، القانون الدولي...). فلقد كشفت إبادة غزة طبع العلمانية المتوحش وعرتها من ذلك القناع الذي تتدثر به لتتصنع به التطبع الأخلاقي الحضاري أمام منتسبيها ومريديها خارج نطاق الحرب.

 

فحرب غزة وإبادتها كشفت عن الحقيقة العلمانية الصادمة؛ أن العلمانية المادية لم تتجرد من القيم الدينية فقط بل تجردت من كل القيم والمثل والأخلاق بوصفها معايير غير مادية لا تنسجم مع الرؤية العلمانية المادية، فالمعيار العلماني المادي الوحيد هو الربح والخسارة المادية وتقاس بعدد القتلى والإبادة الجماعية وحجم التنكيل ومفعوله في العدو المفترض واحتلال الأرض ونهب الثروة وحيازتها، ما يجعل من العلمانية تهديدا مفزعا لمصير البشرية يبلغ حدود الإبادة والإفناء الجماعي.

 

هذا الوضع الحضاري المأساوي الذي كشفته وعرته إبادة غزة أحدث صدمة حضارية كبرى في الداخل الغربي، وأحدث صاعقة حضارية لشعوب الغرب تجاه منظومة قيمهم العلمانية وتَكَشَّفَ لهم حقيق زيف ادعاءاتها، فاتخذت شكل مظاهرات واحتجاجات شعبية واسعة في عواصم الغرب ومدنه، وخلال الأسبوعين الماضيين انتقلت هذه المظاهرات والاحتجاجات إلى الجامعات العريقة في أمريكا ثم تمددت وانتشرت إلى جامعات أمريكا وأوروبا لتصل إلى أكثر من 120 جامعة ومعهداً، وما يزيد عن 2000 معتقل، والخطير في هذا التحول هو في كون الجامعة هي النواة الصلبة للفكر والثقافة العلمانية الغربية، فنحن في قلب معمل التوليد الفكري والثقافي للنظرية العلمانية، وأي خلخلة لقلب المنظومة وعقلها هو خلخلة لذات النظرية العلمانية، فالحالة الجامعية اليوم أبعد ما تكون عن التفسير المشاعري لحركة الشعوب ومن كون ردة فعل الشعوب كانت مشاعرية آنية، أما احتجاجات وحركة الجامعات فمطبوعة مصبوغة بالتفكير، فتأتي متأنية متأخرة، فنحن في معاقل الفكر والثقافة، وهذه الحركة محصلة فكرية تتجاوز ردة الفعل المشاعرية للشعوب، وتتعمق بطبيعة انشغالاتها الفكرية في الأسباب والغايات والأهداف المعلنة والخفية والطبيعة الثقافية والفلسفية وأعطابها وخللها ما يكسبها زخما وخطورة، وهذا ما يفسر الاختلاف البين للدولة الغربية وساستها وأجهزتها والطبقة السياسية في التعامل مع احتجاجات ومظاهرات الجامعات، فحتى وقت قريب كانت الاستهانة الغربية بالمظاهرات والاحتجاجات الشعبية الحاشدة المنددة بإبادة غزة، أما مع احتجاجات ومظاهرات الجامعات فقد باتت العصا الغليظة هي لغة الخطاب وبات القمع هو الأسلوب المعتمد؛ في مناقضة سافرة لقواعدهم الدستورية وقوانينهم وادعاءاتهم الفلسفية للحقوق (حرية الرأي وحرية التعبير وسيادة الشعب ودولة القانون...)، بل ضاقت صدور المسؤولين والساسة في أمريكا وأوروبا باحتجاجات جامعاتهم معقل لاهوتهم العلماني، فقد قال الرئيس الديمقراطي، جو بايدن إنه يستنكر "الاحتجاجات المعادية للسامية" وأولئك الذين لا يفهمون ما يحدث مع الفلسطينيين، ووصف الرئيس السابق دونالد ترامب، المرشح الجمهوري لانتخابات عام 2024، الاحتجاج في الحُرم الجامعية بأنه "فوضوي". ودعا الكثير من السياسيين في أمريكا إلى استخدام القوة ضد المحتجين، وطالب عضوا مجلس الشيوخ الجمهوريان توم كوتون وجوش هاولي بنشر الحرس الوطني في جامعة كولومبيا، وكذلك فعل رئيس مجلس النواب مايك جونسون، كما أرسل حاكم تكساس جريج أبوت قوات ولاية تكساس (الحرس الوطني) لتنفيذ اعتقالات جماعية، ما أدى إلى تفريق مظاهرة في جامعة تكساس بمدينة أوستن.

 

وهذه الاحتجاجات والمظاهرات في الجامعات العريقة الغربية؛ هارفرد، ييل، ستانفورد، كولومبيا، جامعة جورج واشنطن في العاصمة الأمريكية، والسوربون، وسيانس بو في العاصمة الفرنسية باريس... وغيرها من معاقل اللاهوت العلماني هي بمثابة الصاعقة الحضارية الكبرى للغرب ويرى فيها ساسة الغرب تهديدا جديا للمنظومة العلمانية ودولتها الرأسمالية ومصالح الطبقة المتنفذة الحاكمة، ما يفسر ذلك القمع والقسوة في التعامل معها بالضرب والاعتقال والفصل من الخدمة والطرد من الجامعة والسجن وتهمة معاداة السامية المعلبة الجاهزة لتسويغ كل هذا الإجرام والقمع.

 

فهذه الاحتجاجات أسقطت الكثير من الأقنعة الفلسفية المصطنعة والمفاهيم العلمانية المعلبة الجاهزة والقوالب المعرفية النمطية الزائفة، فقد شكلت اختبارا حقيقيا للمنظومة العلمانية وبخاصة أن الاختبار تم في معاقل اللاهوت العلماني واختبره مثقفوه، بل لقد خبرت شعوب الغرب ومثقفوه نقيض ادعاءات منظومة العلمانية، فلقد أصبحت الكلمة والرأي جريمة، وأصبحت الدولة العلمانية الغربية، صاحبة الادعاء الأول في حماية الحريات والحقوق، أداة قمع لصاحب الكلمة والرأي، وهي نفسها من تنتهك قانونها الأساسي وترمي بادعاء دولة القانون والمؤسسات وراء ظهرها، فلقد خبرت شعوب الغرب ومثقفوها زيف وتهافت النظرية العلمانية وحقيق همجية الممارسة العملية، ولقد خبروا أن سيادة الشعب وحرية الرأي وحرية التعبير ودولة الحقوق والقانون والمؤسسات، هي مجرد شعارات جوفاء لاستهلاك الغوغاء، تتساقط وتتهاوى عند كل امتحان حقيقي للمنظومة، وأن الفلسفة الوحيدة والإيمان الوحيد لإدارة الدولة والمجتمع هي مصلحة عصابة الحكم المتنفذة، فهي من تحدد بوصلة ومسار وغاية الفكر والسياسة. ويزيد من حدة الصاعقة الحضارية تلك المناقضة الغارقة في الوحشية والإجرام من أن مجرد كلمة أو رأي للتنديد بإبادة أطفال ونساء غزة يعتبر جريمة ومعاداة للسامية من الدولة الديمقراطية العلمانية الغربية، بينما فعل إبادة غزة القائم والمستمر والدولة الديمقراطية العلمانية الغربية ضالعة فيه بكل ترسانتها العسكرية وغطائها السياسي هو حق في الدفاع وضد من؟! ضد شبر أرض لعزل مظلومين لقرن من الزمن ومحاصرين لعقدين من الزمن، كل ذنبهم أنهم انتفضوا ضد ظالمهم! هكذا صارت شعوب الغرب ترى الهمجية والوحشية التي أفرزتها منظومتها العلمانية اللا إنسانية البائسة، واليوم هي تكتوي ببعض نارها.

 

 

فالقضية ليست في تحليل إنسانية الإنسان الغربي، بل كل القضية هي في تحليل منظومة علمانية غربية أغرقت أهلها وأشبعتهم حتى التخمة مصطلحات مشحونة بزيف الإنسانية والهم الإنساني والمسؤولية الإنسانية والسعادة الإنسانية والحضارة الإنسانية والأخوة الإنسانية... بل وابتدعت لهم مؤخرا الديانة الإنسانية، فاستفاق أهلها على وحش في جثمان بشر لا يشبع من دماء البشر حوّل العالم إلى غابة وصيّر إنسانها مادة افتراسه. وهذه الصاعقة والصعق الحضاري ما كان ليكون لولا ذلك الثبات والصبر العقائدي اللذان لا نظير لهما في فلسفات البشر، أمام وحشية وهمجية غربية صهيونية غير مسبوقة ضد أطفال ونساء عزل فوق شبر أرض، بلغت هذه الهمجية حدودها القصوى في حرمان من بقي حياً من كسرة خبز ورشفة ماء، فإبادة غزة هي انحطاط البشرية إلى أقل من درك الحيوان، وسبب ومادة هذا التدرّك الهمجي هي منظومة الغرب العلمانية الكافرة المجرمة القاتلة، فهي مادة كل الشرور ومصنع البؤس والشقاء الإنساني.

 

كما أن القضية ليست في انتظار سقوط منظومة علمانية كافرة فاجرة متهالكة وحضارتها المجرمة القاتلة المتعفنة، بل القضية كل القضية في هدمها واستئصال حضارتها وإقامة صرح الإسلام العظيم وخلافته الراشدة على منهاج النبوة على أنقاضها وأنقاض دولها الظالمة وإخراج البشرية من فحمة ليلها إلى نور الإسلام وهديه.

 

الحق والحق ما نؤمن به معشر المسلمين أن القضية ليست قضية الإنسان الغربي في إسقاط كفره، بل إيمانا وحكما شرعيا هي قضية المسلم في هدم الكفر وإعلاء راية الإسلام، فذاك ما يقتضيه إيماننا وإسلامنا وشهادتنا على العالمين. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وقال سبحانه: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾.

 

 

كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير

مناجي محمد

 

 

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع