- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مأساة البشرية ومعضلتها الكبرى
هي في استحالة حل عقدتها الكبرى بالعقل العلماني المادي!
لقد فشلت العلمانية وعلومها المادية التجريبية وكل وسائلها المادية التي سخرتها في حل العقدة الكبرى للإنسانية في تفسير وجودها سببا وغاية ومصيرا وتحقيق السعادة لإنسانها. بل انتهت المنظومة العلمانية المادية إلى نقيض ادعاءاتها، في كون دينها المادي وإلهه العلم المادي التجريبي ووسائله المادية الهائلة المتضخمة، انتهوا بالبشرية إلى غايات حقيرة دنيئة في توفير مادة استهلاك لإشباعات خاطئة وصولا إلى الشاذة لرغبات حيوان مادي مجرد من العقل والمثل والقيم والأخلاق، ما أنتج بؤسا إنسانيا لا مثيل له في حضارات وثقافات البشر، أصبح معه الانتحار والرغبة في الموت خيارا للخلاص من العلمانية وحضارتها وحياتها.
فالعقل العلماني في طبيعته التكوينية ماديٌّ، ففي عدائه السافر للدين وكون الدين مرجعية من خارج المادة ومتجاوزاً لها، اقتضت العلمانية في فصلها للدين عن الحياة وقضايا الفكر والتشريع مادية صلبة تعادي ما يتجاوزها وتخرجه من دائرة فلسفتها وثقافتها ومعارفها، والعلم المادي التجريبي كفيل بتحقيق الغاية العلمانية المادية، ما يفسر القداسة العلمانية للعلم المادي التجريبي بوصفه مصدرا ومرجعا أساسيا للاهوت العلماني، وهكذا تشكل العقل العلماني المادي.
وهنا تكمن المعضلة والعقدة العلمانية والعطب القادح في العملية الفكرية للعقل العلماني المادي أصلا، فقضايا العقدة الإنسانية الكبرى متعلقة بالحياة والموت والسعادة وما قبل الحياة والغاية منها وما بعد الموت والمصير، وهي قضايا في طبيعتها ثقافية فلسفية متجاوزة للمادة وتجد جذورها فيما وراء الماديات، يصبح معها العقل العلماني المادي وعلمه المادي التجريبي ومختبراته ومعامله قاصرا وعاجزا بل غير ذي جدوى في حل هذه القضايا التي تتجاوز نطاقه المادي ودائرة معارفه وانشغالاته.
فالعلم المادي يخبرك عن ميكانيزمات بعض مظاهر الحياة وعمل الأعضاء الحيوية والتركيبات الخلوية، لكنه أعمى وأصم وأبكم عن فهم سبب وجودها لأن سبب ومسبب الوجود خارج دائرة التجربة والاختبار ومتجاوز للمادة ونطاقها. وكذلك قضايا الموت والسعادة وما قبل الحياة وما بعد الموت والغاية والمصير، فهذه مسائل فكرية فلسفية وليست أبحاثا مخبرية تجريبية.
يضاف إلى ذلك أن العلم المادي التجريبي فضلا عن قصوره وعجزه المعرفي ومحدوديته المحكومة بالمادة كموضوع وميدان لمعارفه، ما ينتج عنه طبيعيا عجزه المطلق أمام الأيديولوجيات والقضايا الثقافية الإنسانية المتعلقة بوجهة النظر في الحياة وتشريعات أنظمة الحياة، وكذلك هناك نتائجه الظنية التي تحمل في طياتها قابلية الخطأ. وعليه فاستحال على العلم المادي التجريبي والعقل العلماني المادي الذي تشكل بناء عليه أن يوصل إلى أساس عقائدي يقيني مقطوع به كحل للعقدة الكبرى، فكيف يرجى التوصل إلى حقيقة أساسية يقينية قطعية متجاوزة للمادة بأدوات ومعايير مادية لعلم مادي تجريبي ظني في معارفه ونتائجه؟ وهذا هو المأزق المعرفي المدمر الذي أفرزته العلمانية المادية في استحالة حل عقدة الإنسانية الكبرى بأدوات معرفية علمانية، الأمر الذي أنتج مأساة إنسانية وتيهاً وحيرة وعالما مثقلا بالمخاوف والذعر والشهوات الشاذة العقيمة، عالماً فارغاً من المعنى أجوف لا مُثل ولا قيم ولا أخلاق، وأقسى منها وأدهى وأمرّ دُوَلُه الهمجية الموغلة في الطغيان والتوحش وكفى بإبادة أطفال ونساء غزة ورفح شاهد!
حتى وإن تحركت في الإنسان فطرته واستفزه بؤس الحياة العلمانية واستجاب لقهر ضعفه وعجزه وأنصت لنداء غريزته بحثا عن خالقه وسبب وجوده، فأقصى خطوات العلم المادي التجريبي أن يوصل إلى التصميم المحكم والنظام المتناهي الدقة والاستحالة السببية في كون التصميم عشوائيا والتنظيم اعتباطيا صدفيا أو من إفرازات ومتولدات المادة، كون المعادلات الرياضية والأنساق الهندسية والدوالّ وقواعد الرياضيات والفيزياء والفلك ما كانت لتكون لولا التصميم المحكم المتين والنظام المتقن البديع، فعلوم المادة هي مجرد استنباطات لقوانين المادة من المرجع الأصل الذي هو نظام الكون، فهي نظير الأحكام الشرعية المتعلقة بالإنسان المستنبطة من أدلتها الشرعية، فكذلك هي قوانين المادة هي مجرد قوانين مستنبطة من النظام الكوني فهو مرجعها ومصدرها، والعلم المادي التجريبي فيه القابلية للوصول إلى النتائج المتعلقة بالتصميم المحكم والنظام المتقن البديع لأنه ضمن نطاقه المادي المحسوس. لكن السؤال الذي يلي التصميم والنظام هو عن المصمم والمنظم، وهو سابق للتصميم والتنظيم ومتجاوز للمادة وقبلها، وهنا يصبح العلم المادي التجريبي غير ذي جدوى، ويصبح الحل العقائدي وحل أخطر مسائل العقدة الكبرى هو في تجاوز العلم المادي والانسلاخ التام من تهافت العقل العلماني المادي وطريقة تفكيره المعطوبة العقيمة، والعودة إلى العقل الصرف وطريقة التفكير العقلية المتجردة من علائق وقيود العلمانية المادية، للوصول للحل القطعي اليقيني المتعلق بالخالق المدبر المتجاوز للمادة والذي ليس كمثله شيء، ثم الاهتداء للمرجعية والمصدر المعرفي المقطوع بصحته والمتجاوز للمادة والذي هو الأساس في البناء العقائدي والحضاري والثقافي وأنظمة الحياة، والذي لا يمكن إلا أن يكون وحيا من الله، والذي به يتوصل إلى الأجوبة اليقينية المقطوع بصحتها عن الحياة والموت وما قبل الحياة وما بعد الموت والسعادة والغاية والمصير، لأن الجواب ببساطة من خالق الإنسان والحياة والموت العليم الخبير بها وبما قبلها وما بعدها.
كما أن العلمانية المادية في عدائها للدين وتبنيها لمادية صلبة حدية، أنشأت منهجا تفكيكيا تدميريا لكل ما هو غير مادي بالنسبة لها، وولدت معضلة معرفية حضارية وثقافية لم يسبق لها مثيل في حقل الثقافة والمعرفة، فمنهجها التفكيكي التدميري أتى على المعارف المتعلقة بالماهيات فهشمها وحرفها وحورها لتنسجم مع مادية علمانيته حتى يقيسها ويعيرها بمعاييره المادية ويحدد لها ماهيات علمانية مادية خلاف حقيقتها وماهياتها الأصلية، علما أن ماهيات المحسوسات تعرف وتحدد وتفهم كما هي ولا تحرف وتحور لتجري وتسري عليها معايير العلمانية المادية، فالماهية تفهم كما هي على حقيقتها وأصلها ثم يتخذ تجاهها الحكم الثقافي والموقف الحضاري، أما أن تسلط الثقافة على الماهية فتولد ماهية غير الماهية الأصلية الحقيقية فهنا التدمير المعرفي للحقائق والتزييف الثقافي الممنهج. فنحن مع العلمانية المادية ومنهجها التفكيكي التدميري أمام حالة من المسخ الثقافي والتشوه الفكري غير المسبوق في تاريخ المعرفة، معها حرفت ماهية الإنسان إلى مادة صماء وعقله إلى ميكانيكا حوسبة حتى تنطبق عليه معايير المادية العلمانية، وحرفت ماهية النوع الإنساني كخِلْقة وفطرة ثابتة ليصبح مادة مائعة سائلة يتشكل نوعها بحسب ظروفها وملابساتها، واصطلح على الماهية العلمانية المحرفة المستحدثة مصطلح "الجندر"، وحرفت ماهية السعادة إلى شهوة ولذة مادية عابرة، وحرفت ماهية الحياة إلى حركة ميكانيكية إنتاجية واستهلاكية، وماهية الموت إلى عطب في الميكانيكا العضوية وتعفن مادي... وقد وصل التفكيك والتدمير إلى اللغة نفسها مادة الخطاب الإنساني في تفكيك مفرداتها ومعانيها ومبانيها وفصل الموضوع مبنى ومعنى عن صاحبه ما اصطلح عليه فلسفيا "موت الكاتب" انتهى إلى موت النص نفسه، فلكل أن يفهم ما يشاء كيف شاء! وهذه العدمية المعرفية استحال معها طرق مواضيع مصيرية كقضايا العقدة الكبرى فضلا عن البحث عن حلها، فهذه العدمية العلمانية منشغلة بتحويل الذكر إلى أنثى والأنثى إلى ذكر وإشاعة الشذوذ الجنسي وأرباح سوق الدعارة وبنوك المني والبطون المستأجرة للإنجاب وحقن البقر بهرمونات الخنازير وجعل أعلاف البهائم العاشبة من مركبات اللحوم وإبادة الشعوب والاستعمار والنهب... فهذه العدمية والشذوذ الحضاري والثقافي المدمر استحال أن يحل عقدة الإنسانية الكبرى فضلا أن يحقق سعادتها.
فجوهر المعضلة المعرفية العلمانية هو في العلمانية نفسها وبنيتها المعرفية المادية، فهي وثنية حديثة وشرك وثني معاصر تمت فلسفته، فأكثر التعريفات شمولية لمعنى العلمانية كما أوردها معجم أوكسفورد "العلماني هو ما ينتمي إلى هذا العالم الآني والمرئي.... وهو ما يهتم بهذا العالم فقط"، والخلاصة أن العلمانية هي في جوهرها وبنيتها مادية صلبة وغير معنية بما وراء المادة. ثم إن العلمانية هي وليدة ردة فعل على دين أوروبا الكنسي وطغيان واستبداد رهبانه وملوكه، جاء بناؤها الفكري والثقافي في تنافر تام وعداوة عميقة مع دينها الكنسي واستبداده، استغرقت بعدها هذه العداوة والنفور كل دين وكل مقدس. ولما كان أساس الدين هو الإله وهو فكرة الدين المحورية، وهو كذلك جوهر وأساس حل العقدة الكبرى، كانت المعضلة المعرفية العلمانية جذرية يستحيل معها حل العقدة الكبرى بأدوات العلمانية المعرفية.
عبَّر عن هذا المعنى الفيلسوف الأمريكي ريتشارد رورتي في وصفه الفلسفي للحداثة العلمانية في العالم الغربي بأنها "مشروع نزع الألوهية أو القداسة عن العالم"، ثم بين النتائج المنطقية المتولدة عن هذه الرؤية العلمانية بقوله "إن الحضارة العلمانية الحديثة لن تكتفي باستبعاد فكرة القداسة أو بإعادة تفسيرها بشكل جذري، وإنما ستهاجم الذات الإنسانية نفسها كمصدر للحقيقة". ما يعني التنكر والنكران المطلق لأي مقدس أو رباني والإلحاد التام في المقدسات والكفر بكل المحرمات، ما أنتج هذه الإباحية والانحلال الشامل كترجمة للمادية العلمانية المتحللة والمجردة من كل ما هو مقدس وما وراء ماديتها كالمثل والقيم والأخلاق.
فقضية العقدة الكبرى ليست كأي قضية وحلها حتمي مصيري بالنسبة للإنسانية ولا يمكن تجاوزه أو تأجيله، فهي القضية الإنسانية المصيرية الأولى، وحلها هو مبتدأ البناء الإنساني ومنتهاه وأساس الحياة والاجتماع البشري، وأساس الحضارة والثقافة وأنظمة الحياة وسعادة الإنسان أو شقائه، فخطورة القضية من خطورة أسئلتها المصيرية وأهدافها النهائية، وحلها والجواب على أسئلتها متوقف عليه حاضر الإنسانية ومستقبلها ومصيرها، فالأهداف النهائية للإنسانية متوقفة على حل العقدة الكبرى.
والعلمانية المادية فشلت فشلا مأساويا في الجواب عن عقدة الإنسانية الكبرى، بل وفي حقارة معارفها وتهافت فلسفتها وزيف ثقافتها في تحريف الماهيات وتزوير الحقائق، اختصرت الهدف النهائي للإنسانية في النمو الكمي لإنتاج السلع والخدمات ومعدلات الأرباح، وبها يقاس الإنسان والمجتمع والدولة، وهي المعيارية الوحيدة للحياة والحضارة والسعادة، وهكذا انتهت الإنسانية مع النظرة العلمانية المادية العدمية إلى نكبتها العظمى ومأساتها المفنية.
فقضية العقدة الكبرى تجد جوابها فيما وراء مادية علمانية الغرب، ولن يكون لها حل إلا في مصدر معرفي ومرجعية متجاوزة للمادة ومتجاوز لعطب العقل العلماني المادي، وحلها لن يكون إلا بالدين ولن يكون لها حل خارج الدين، يبقى السؤال المصيري الأعمق هو في الحل الصحيح وطريق الوصول إليه، بمعنى الدين الحق للتوصل إلى الأجوبة الصادقة الحقيقية لحل عقدة الإنسانية الكبرى.
فكان حقا على مريدي إنقاذ الإنسانية المعذبة وإنقاذ أنفسهم من هذه الحيرة الممزقة والتيه والضياع المهلك، حل العقدة الكبرى حلا صحيحا عبر نظرة عميقة مستنيرة لهذا الوجود وبفكر مستنير يجلي حقيقة هذا الوجود سببه وغايته ومصيره وأهدافه النهائية وحقيقة سعادة إنسانه.
والدين الوحيد الحق في دنيا الناس اليوم هو الإسلام ولا شيء سواه، وعقيدته الإسلامية هي الحل الوحيد الحق للعقدة الكبرى، فبالعقيدة الإسلامية تحل العقدة الكبرى للإنسانية حلا صحيحا يوافق فطرة إنسانها ويقنع عقله ويطمئن قلبه ويزيل حيرته ويبصره طريقه وغايته ويحقق سعادته. وهذا الحل هو الأساس الذي يقوم عليه الإسلام بوصفه مبدأ يعالج شؤون الحياة جميعا، فالإسلام عقيدة وأنظمة حياة فهو فكرة وطريقة للحياة كلها، به تصاغ الحياة والحضارة والثقافة والمجتمع والدولة وينجلي غيب المصير ويتضح سبيل الخلاص وتتحقق السعادة وتنقذ الإنسانية من وثنية العلمانية وجاهلية حضارتها، وتولد من جديد لتنعم بنور الإسلام وتغمرها رحمة ربها خالقها وبارئها.
﴿الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مناجي محمد