- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
لن يصلح الزمان ما أفسدته الرأسمالية
وحان وقت إسدال الستار على فصولها الأخيرة
عيّن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب الرئيسَ التنفيذي لشركة تسلا إيلون ماسك، ورجلَ الأعمال في مجال التكنولوجيا الحيوية والمرشح الرئاسي السابق فيفيك راماسوامي، لقيادة مبادرة جديدة تسمى "وزارة كفاية الحكومة"، هدفها خفض البيروقراطية، والحد من الهدر، وخفض إنفاق الحكومة الفيدرالية البالغ 6.5 تريليون دولار، ومن المقرر أن تركز هذه الخطة التي شبهها ترامب بـ"مشروع مانهاتن"، على الإصلاحات البنيوية لتبسيط العمليات الحكومية بحلول عام 2026م.
مع ذلك، فإن اقتصاد أمريكا في ورطة عميقة، حيث تجاوز دين الحكومة الفيدرالية الآن حاجز 33 تريليون دولار، وتستهلك مدفوعات العوائد الربوية وحدها جزءاً كبيراً من الميزانية الوطنية، ما يحرم الاستثمارات الحيوية في المدارس والرعاية الصحية والبنية الأساسية، وفي عام 2023م، أنفقت أمريكا 6.75 تريليون دولار، كان معظمها مخصصاً لسداد الديون القديمة. يمكن تشبيه الممارسات المالية لأمريكا باستنفاد أسرة لرصيد بطاقتها الائتمانية مراراً وتكراراً دونما سداد للرصيد، وفي كل عام تقوم الأسرة باقتراض المزيد من المال لتغطية مستلزماتها، في حين تتراكم الأقساط الربوية عليها، وهذا يخلق حلقة مفرغة ذاتية التجدد حين يتم تحويل الموارد التي يجب أن تكون لسدّ الحاجات الأساسية إلى سداد الديون.
كما أن الاحتيال والإهدار وعدم الكفاية في الإنفاق الحكومي يكلف مليارات الدولارات، ولكن حتى القضاء على هذه المشاكل لن يؤثر إلا بالكاد على الدين، واقتراح الساسة المتكرر لتخفيض الميزانية وتقليص الإنفاق كحل لا يمكنه علاج العيوب الرئيسية في النظام.
إن المشكلة تكمن في بنية النظام المالي نفسه، الذي بُنيَ على مبادئ الرأسمالية القائمة على الديون الربوية، التي تضاعف مكاسب نخبة صغيرة من الرأسماليين بشكل جنوني، على حساب الملايين الذين يكافحون يومياً من أجل تلبية احتياجاتهم. إن حل هذه الأزمة يتطلب فكراً جريئا يتجاوز الإصلاحات التدريجية، وبديلاً ناجعاً، وهذا البديل هو الاقتصاد الإسلامي، فهو نظام شامل يحقق تطبيقه العدالة والاستقرار والازدهار.
لن تنجح الرأسمالية في تحقيق نتائج عادلة، فهي تعمل على أمرين رئيسيين يعملان على إدامة التناقضات وعدم الاستقرار؛ الأول: تقوم المؤسسات المالية على الإقراض القائم على الربا، الذي يضمن نمو الدين بشكل مستمر ويوسع فائض الأثرياء أصحاب رؤوس الأموال. والثاني: تعطي الشركات والحكومات الأولوية للمكاسب قصيرة الأجل على الاستدامة طويلة الأجل، ما يؤدي إلى الانهيار الاقتصادي، والتدهور البيئي، واتساع الفجوة بين طبقات المجتمع.
كانت هذه المبادئ واضحة خلال الأزمة المالية عام 2008م، عندما فقد ملايين الأمريكيين منازلهم ووظائفهم ومدخراتهم - ليس بسبب إخفاقات شخصية بل بسبب عيوب في النظام - وسرعان ما تعافى الأثرياء من الأزمة، في حين واجه عامة الناس صعوبات اقتصادية طويلة الأجل، ومنذ ذلك الحين، لم يتغير الكثير بشكل أساسي.
في ظل النظام الاقتصادي الرأسمالي تتسع الفجوة بين الثروات أكثر فأكثر، وشخصيات مثل إيلون ماسك وغيره كدست أموالاً طائلة، مع ربط المليارات بالأسهم والمشاريع الاحتكارية والتوسعات المؤسسية، في الوقت نفسه الذي يكابد فيه العديد من الأمريكيين لدفع الإيجار أو تكاليف الرعاية الطبية. إن مطالبة شخص مثل ماسك بحل النظام ذاته الذي أغدقه بالمال، يشبه مطالبة الذئب برعي الأغنام، فقد ضاعف ماسك والعديد من أمثاله من ثرواتهم بسبب هذا النظام الفاشل، في حين يتحمل عامة الناس عواقبه.
إن تشبيه هذا المسعى بـ"مشروع مانهاتن" أمر مثير للسخرية حقاً، فمثله كمثل المشروع الذي يحمل الاسم نفسه، والذي قضى على المدن والحياة تحت ستار التقدم. يَعِدُ هذا المشروع بـ"إصلاح" الاقتصاد مع ضمان خروج المشتبه بهم المعتادين (النخبة الأكثر ثراءً)، ليدفع عامة الناس الثمن، كما هو الحال دائماً، مع التضحية بسبل عيشهم ومستقبلهم، وسوف يستمتع مهندسو هذا "الحل" العظيم بوهج نجاحهم، تاركين الجميع يتحملون تداعيات المشروع.
إن البديل لهذا المشروع هو النظام الاقتصادي الإسلامي الذي يقدّم نهجاً مختلفاً تماماً، فهو على عكس الرأسمالية ليس مصمماً ليكون مجزأً أو قابلاً للتكيف في إطار مدفوعات الديون الربوية، بل هو نموذج كامل متكامل، يؤكد على العدالة والمسؤولية المشتركة والحوكمة الأخلاقية، يشمل أحكاماً شرعية مثل تحريم الربا وإعادة توزيع الثروة وفرض القيود على الممارسات المضاربة والإنفاق الشرعي...
إن المعاملات القائمة على الربا محرمة في الإسلام، وبدلاً من استغلال حاجة الناس للديون، تنطوي العلاقات المالية في ظل الإسلام على مخاطرة ومكافأة مشتركة، وعلى سبيل المثال، فإنه بدلاً من منح قرض تجاري تقليدي يجمع من خلاله البنك نسبة ربوية ثابتة بغض النظر عن استفادة المقترض، فإن الناس في ظل الإسلام يستثمرون في المشاريع كشركاء، يتقاسمون الأرباح بينهم، وإذا كان أداء المشروع أقل من المتوقع، يتحمل الممول جزءاً من الخسارة، وهذا النهج يضمن أن يبذل كلا الطرفين وسعهم في سبيل نجاح الشركة، ويضمن تعزيز العدالة والحدّ من الممارسات المالية الاستغلالية.
في الإسلام تضمن أحكام تقاسم الثروة الإلزامية؛ كالزكاة، الحدَّ من الفقر والتفاوت مع تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية للجميع، فهي تعمل على إعادة توزيع جزء صغير من ثروة الفرد على الفقراء والغارمين وغيرهم، وعلى النقيض من أنظمة الرعاية المجتمعية العلمانية فإن الزكاة ليست سياسة تقديرية، بل هي جزء لا يتجزأ من النظام الاقتصادي الإسلامي.
إنّ الاحتكار في التجارة والمضاربة والأنشطة المالية الشبيهة بالمقامرة محرّمة في النظام الاقتصادي الإسلامي، فالاستثمارات يجب أن ترتبط بأصول حقيقية ملموسة مثل الشركات أو البنية الأساسية أو العقارات، وهذا من شأنه أن يعمل على استقرار الاقتصاد، ويقلل من احتمال حدوث فقاعات وانهيارات تزعزع استقرار مجتمعات بأكملها.
إن النظام الاقتصادي الإسلامي يعطي الأولوية للإنفاق لرفع المستوى المعيشي والرفاهية المجتمعية بدلاً من تحقيق الربح الخالص، ويخصص موارد للقطاعات الحيوية مثل الرعاية الصحية والتعليم والبنية الأساسية المستدامة، بدلاً من عمليات الإنقاذ المسرفة للشركات.
إن عواقب النظام الرأسمالي الحالي واضحة، فالدين الوطني المتزايد يؤدي إلى ارتفاع الضرائب، وتقليص الخدمات العامة، وعدم الاستقرار الاقتصادي، وفي الوقت نفسه، يتسع التفاوت في الثروة، بينما يقدّم النظام الاقتصادي الإسلامي بديلاً مُرضياً، قائماً على مبادئ يمكنها معالجة هذه القضايا النظامية بشكل مباشر.
إن الثمار الرئيسية للنظام الاقتصادي الإسلامي تشمل خفض الديون من خلال تحريم الربا، واستقرار الاقتصاد من خلال الاستثمارات الملموسة، وضمان العدالة والإنصاف من خلال أحكام مثل الزكاة، ومواءمة القرارات الاقتصادية مع تحقيق الرفاه المجتمعي بدلاً من دوافع الربح قصيرة الأجل.
إن إصلاح الاقتصاد الأمريكي يتطلب أكثر من مجرد حلول مؤقتة، وصحيح أن النموذج الاقتصادي الإسلامي يقدم إطاراً شاملاً لمعالجة الأسباب الجذرية لعدم المساواة، والاعتماد على الديون، وعدم الاستقرار، مع ذلك فإن هذا النموذج لن يتناسب مع الأنظمة الرأسمالية العلمانية كحلٍّ هجين، فمبادئه مترابطة ويجب تبنيها بالكامل لقطف ثمار قدرته على التغيير.
السؤال المُلحّ هو ما إذا كان المجتمع قادراً على تبنّي التحول بعيداً عن قبضة الرأسمالية الاستغلالية الجشعة. بالنسبة للمسلمين، فإن إقامة الخلافة هو أكثر من مجرد طموح، بل إنه واجب منبثق عن العقيدة الإسلامية، وتأثيره يمتد إلى ما هو أبعد من الالتزام الديني، فهو يوفر للإنسانية مساراً للتحرر من دورات الديون وعدم المساواة التي تحرسها الرأسمالية. إن نموذج الخلافة، الذي يرتكز على العدالة والمسؤولية الجماعية، يمكن أن يكون بمثابة منارة عالمية للعدالة واستعادة التوازن وتعزيز المساواة الاقتصادية للجميع.
﴿شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
علي خان – ولاية باكستان