خطبة جمعة من جعل الدنيا أكبر همه شتت الله شمله
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (.... مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّهِ أَفْشَى اللَّهُ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ أَكْبَرَ هَمِّهِ ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أُمُورَهُ ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ.... ) رواه ابن ماجة والبيهقي، إن في هذا الحديث تحذير من جعل الدنيا أكبر همنا، وفي المقابل أن نجعل الآخرة هي همنا وليس فقط أكبر همنا، وهذا الأمر عباد الله يكون بأن نجعل الدنيا مساسة ومقودة بالإسلام، لا أن نجعل الدنيا غاية في حد ذاتها، فهو الخطر الذي حذرنا منه رسولنا عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فيجب علينا أن نربط حياتنا كلها بالإسلام، لا أن نجعل بعضها بالإسلام والبعض الآخر بالهوى وحب الدنيا.
أيها المسلمون: ان هناك مشكلة كبرى متمثلة في الإنفصال الحاصل بين العقيدة والأحكام المنبثقة عنها في الحكم والإقتصاد والإجتماع وغيرها عن حياتنا، وهذا الفصل سيؤدي إلى نتيجة حتمية لا نحبها وهي الشقاء وتشتيت الشمل والبؤس، ونزول المصائب، أما سبب وقوعنا في ذلك هو الغفلة في عدم الربط بين عقيدتنا وأعمالنا في الحياة، وسبب هذه الغفلة يكمن في الخلل في مفهوم العبودية. قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} الأنعام، فهذه الآية تجعل ليس فقط أن تكون العبادات لله بل كل الحياة وحتى الممات لله تبارك وتعالى.
أيها المسلمون: عندما تم حصر الإسلام في العبادات أي حصرت العبودية لله تبارك وتعالى في الصلاة والصوم وسائر العبادات كان الخلل، لذلك نجد أن كثيراً من الأفراد والجماعات والحكام يهتمون فقط بربط مفهوم العبودية ببعض الإسلام أما باقي شئون الحياة فلا. فمثلاً في الإقتصاد تصور البعض أنه يكفي في الإقتصاد وشئون المال حرمة الربا أما الباقي فليس مهماً، فكثر بذلك أكل المال بالباطل أو الإنفاق في المحرم، حتى استساغ البعض أكل الحرام مباشرة لعدم الإهتمام العام بأحكام المال في الإسلام بين الجماعة وكأن المال أصبح مستباحاً، فأصبحت الدنيا بذلك هي الهم وليس غيرها. وفي الإجتماع؛ أي علاقة الرجال بالنساء، سيطرت الأعراف والتقاليد، ولو أخذنا مثالاً واحداً وهو ما أحله الله للرجال من تعدد الزوجات إلى أربعة فنجد النساء لا يرضين بذلك ليس بالغريزة وحدها بل بالأعراف واعتبار ذلك عيباً أن يتزوج زوجها عليها أخرى، وكذا لا يرضى أهلها بذلك، وحتى الرجال ربما تكون لهم الرغبة والقدرة، ولكن أصبحت الأعراف وحب الدنيا هي الحَكَم، أما العبودية فتكون عندهم حائرة بين الشركاء.
أيها المسلمون: نجد أن البعض يظلم البعض فلا يلتزم بالعقود في المعاملات كأن يكون الواحد أجيراً فتضاف له أعباء لم يتفق عليها ولا يأخذ عليها أجراً بعد رضاه بالعمل الإضافي فنجد المسلم يهيئ نفسه ليعيش بأي وضع ولا يحاسب من ظلمه ولا ينكر عليه مجاوزته للعقد، ويجعل سبب ذلك حبه للدنيا ويعتبرها هي التي ترزقه، فيظن أنه لو حاسب الظالم على أساس الإسلام سيفقد وظيفته، والنتيجة أن يقع المسلم في الذل والخنوع، وطالما سكت عن حقه هو فسيسكت عن كل شئ، ولو نهبت أمامه الأموال وارتكبت أمامه المحرمات، ونجد أننا لو جعلنا حياتنا كلها وفق الإسلام، ولم نجعل الدنيا هي الهم لما أصابنا هذا الهوان، لقد كفل الله تعالى لنا الرزق وجعله بيده، وهذا من العقيدة، والغفلة عن هذه العقيدة جعلت بعض المسلمين لا يأتمرون بالمعروف، ولا يتناهون عن المنكر، قال صلى الله عليه وسلم: ( أَلاَ لاَ يَمْنَعَنَّ أَحَدَكُمْ هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ الِحَق إِذَا رَآهُ، أَوْ شَهِدَهُ، فَإِنَّهُ لاَ يُقَرِّبُ مِنْ أَجَلٍ، وَلاَ يُبَاعِدُ مِنْ رِزْقٍ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ، أَوْ يُذَكِّرَ بِعَظِيمٍ)، فالإيمان بأن الرزق بيد الله واجب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، وكذا يحرم على المسلم أن يحقر نفسه، فلو كانت العبودية لله لما حصل هذا الظلم أو الهوان.
أيها المسلمون: لقد ظن البعض أن المسلم يكون محققاً لمفهوم العبودية إذا كان مظهره حسناً فيلبس الطيب من الثياب ويتصف بالأخلاق الحسنة ويتكلم بطيب الكلام، فأصبح هذا هو التدين، اي بالمظهر العام فقط. أما المفهوم الشامل للعبودية هو أن نربط كل حياتنا بالإسلام، فقد أصبح غائباً حتى تحولت حياتنا إلى حياة غير اسلامية.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى وآله وصحبه الكرام النجبا ومن تبعهم باحسان إلى يوم اللقاء، وبعد،
أيها المسلمون: إن الله تعالى أكرمنا بالعقل؛ وهو نعمة عظيمة فنجدها تعمل بشكل طبيعي، فمثلاً عندما يلمس الواحد منا معدناًُ ساخناً بيده يعطي العقل إشارة سريعة جداً لسحب الواحد منا يده، لأن العقل فيه معلومة ثابتة راسخة أن النار حارقة، فإن استمر اليد على المعدن الساخن فسيحترق، وكذلك المسلم أمره الله ان يستخدم هذا العقل في الوصول إلى الحق؛ وهو عقيدة الإسلام، فالعقيدة الإسلامية هي التي يجب أن تحكم على كل الحياة، وبنفس الآلية، فما كان حلالاً أحللناه، وما كان حراماً اجتنباه، لا أن نسير بالمصلحة والأعراف التي هي هرولةً وراء الدنيا المضيعة لصاحبها، فتقع المشكلات والمصائب التي تجعلنا حيارى، فكيف تكون الحياة إذا كان المسلم يسرق أو يكذب أو يزني، فهل بعد ذلك يكون سعيداً، بل الذي سيحدث هو أن يكثر البلاء فيجترئ علينا الكفار، ويكثر الظلم، ويظهر الفقر والضيق كما حدث لآل فرعون وقومه عندما عبدوا الدنيا بطاعة فرعون، قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ * فَلَمَّا آَسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} (الزخرف 54 -56)، وقال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى *قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا} طه.