الْقُوَّةُ الرُّوْحِيَّةُ أَكْثَرُ الْقُوَى تَأْثِيْراً
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
يندفعُ الإنسانُ للقيامِ بالعمل بمقدارِ ما يملكُ من قِوَى، وكلما كانت قواهُ أكثرَ كان اندفاعهُ أكثرَ. ويكون مقدارُ ما يحقِّقهُ من أعمالٍ بمقدار ما يملكهُ من قوى. غيرَ أن الإنسانَ يملِكُ قوًى متعدِّدة، فيملكُ قُوىً مَادِيَّةً تتمثَّلُ في جسمهِ والوسائلِ التي يستعملُها لإشباعِ شهواته، ويملكُ قُوىً مَعْنَوِيَّةً تتمثَّلُ في الصفاتِ المعنويَّة التي يهدفُ إلى الاتِّصافِ بِها، ويملكُ قُوىً رُوحِيَّةً تتمثَّلُ في إدراكهِ لصلتهِ بالله أو شعورهِ بِها أو بِهما معاً. ولكلِّ قوَّة من هذه القِوَى الثلاثِ أثرٌ في قيامِ الإنسان بالعملِ. إلاَّ أن هذه القوَى ليست متساويةً في التأثيرِ في الإنسان بل تتفاوتُ تأثيراً على الإنسانِ. فالقوَى الماديَّة أضعَفُها تأثيراً والقوَى المعنوية أكثرُ تأثيراً من القوَى المادية.
أما القوَى الروحيَّة فهي أكثرُها تأثيراً وأشدُّها فعاليةً. ذلك أن القوَى المادية من جسميَّة ما هي إلا وسيلة تدفعُ لإرضاءِ شهوة صاحبِها إلى العملِ بمقدار تقديرهِ لها ليس أكثرَ. وقد لا تدفعهُ إلى العملِ مطلقاً مع توفُّرِها لأنه لا يجدُ حاجةً لهذا العملِ. وعلى هذا فهي قوًى محدودةُ الاندفاعِ، ووجودُها وحده لا يحتِّمُ الاندفاعَ إلى العملِ. فالإنسانُ حين يريد أن يحاربَ عدوَّهُ يَزِنُ قُوَاهُ الْجِسْمِيَّةُ ويبحثُ وسائلَهُ الماديَّة، فإذا وجدَ فيها الكفايةَ لِمُحاربَةِ عدوِّهِ أقدمَ وإلاّ أحجمَ وتراجعَ. وقد يجدُ قِوَاهُ كافية لسَحْقِ عدوِّهِ ولكن يتوهَّمُ أنه قد ينتصرُ بمن هو أقوَى منه فيَجبَنُ، أو يرَى أنَّ صَرْفَ قواهُ في رفاهيةِ نفسه أو رفعِ مستوى عيشه فيتقاعسُ. فمحاربةُ العدوِّ عملٌ يريد أن يقومَ به الإنسانُ ولكن لَمَّا كان يريدُ أن يندفعَ لذلك بمقدارِ ما يملكُ من قوى مادية صارَ اندفاعه محدوداً بِها وصارَ متردِّداً في القيامِ بالعمل مع توفُّرِها حين عَرضَتْ له عَوارِضُ بعثت فيه الْجُبْنَ أو التقاعُسَ.
وهذا بخلافِ الْقُوَى الْمَعْنَوِيَّة فإنَّها تبعثُ في النفس تيَّارَ القيامِ بالعملِ أوَّلاً ثم تسعَى للحصولِ على القوَى الكافية للقيامِ به دون أنْ تقفَ عند حدِّ قِوَاهَا الموجودةِ، وقد تندفعُ بأكثر مما تملِكُ من قوى ماديَّة عادةً، وقد تقفُ عند حدِّ ما وصلت إلى جَمْعِهِ من قِوَى. وعلى أيِّ حال فهي تقومُ بأكثر مما تملكُ من قوى ماديَّة وذلك كمَن يريد أنْ يحاربَ عدوَّهُ لتحريرِ نفسه من سيطرتهِ أو للأخذِ بالثأر أو للشُّهرة أو انتصاراً للضعيفِ أو ما شاكلَ ذلك، فإنه يندفعُ أكثرَ ممن يحاربُ عدوَّهُ للغنيمةِ أو للاستعمار أو لِمُجرَّدِ السيطرةِ أو ما شابهَ ذلك. والسببُ في هذا هو أن القِوَى المعنويَّة هِيَ دَافِعٌ دَاخِلِيٌّ مَرْبُوطٌ بِمَفَاهِيْمَ أَعْلَى مِنَ الْمَفَاهِيْمِ الْغَرِيْزِيَّةِ وَيَتَطَلَّبُ إِشْبَاعاً مُعَيَّناً فَتَنْدَفِعُ الْقُوَى لإِيْجَادِ الْوَسَائِلِ لِهَذَا الإِشْبَاعِ فَتُسَيْطِرُ عَلَى الْمَفَاهِيْمِ الْغَرِيْزِيَّةِ وَتُسَخِّرُ الْقُوَى الْمَادِّية وَبِذَلِكَ تُصْبِحُ لَهَا هَذِهِ الْقُوَّةُ الَّتِي تَفُوقُ الْقُوَى الْمَادِّيَّةَ.
ومن هنا كانت دولُ العالَم كله تحرصُ على إيجادِ القِوَى المعنويَّة لدى جيوشِها مع استكمالِ القوى الماديَّة.
أما الْقُوَى الرُّوحِيَّةُ فإنَّها أقوَى تأثيراً في الإنسانِ من القوَى المعنويَّة والقوى الماديَّة، لأن القوَى الروحيَّة تنبعثُ من إدراكِ الإنسان صلتَهُ باللهِ خالقِ الوجود وخالقِ القوى. وهذا الإِدْرَاكُ الْعَقْلِيُّ أو الشُّعُورُ الْوُجْدَانِيُّ بِهذه الصِّلة باللهِ يجعلُ اندفاعَ الإنسانِ بِمِقْدَارِ مَا يَطْلُبُ مِنْهُ الْخَالِقُ، لا بمقدارِ ما يملكُ من قوى، ولا بمقدارِ ما يمكنهُ أن يجمعَ من قِوَى، بل بمقدارِ ما يطلبُ منه مهما كان هذا الطلبُ سواءٌ أكان بمقدارِ قِوَاهُ أم أكثرَ أم أقلَّ، فقد يكون الطلبُ تقديمَ حياتهِ صراحةً، أو قد يكون مؤدِّياً إلى تقديمِ حياته فإنه يقومُ بالعملِ وإنْ كان أكثر مما يملكُ من قوى وأكثر مما يجمعُ من قوى. ومن هنا كانت القوى الروحيَّة أَكْثَرَ تَأْثِيْراً من جميعِ القوى التي لدَى الإنسانِ. إلاَّ أن هذه القوى الروحيَّة إن كانت ناجمةً عن شُعور وجدانِي فقط فإنه يَخْشَى عليها من الهبوطِ والتغيُّر بسببِ تغلُّب مشاعر أُخرى عليها أو تحوُّلها بالمغالطةِ إلى أعمالٍ أخرى غير التي كانت مندفعةً لها. ولذلك كَانَ لِزَاماً أنْ تكون القوَى الروحية ناجمةً عن إدراكٍ وشُعورٍ يقينيَّين بصلةِ الإنسان باللهِ، وحينئذ تَثْبُتُ هذه القوى ويظلُّ تيَّارُها مُندفعاً بمقدارِ ما يطلبُ منها دُونَ تَرَدُّدٍ. وإذا وُجدت القوى الروحية لَم يصبح أيُّ أثرٍ للقوى المعنوية لأن الإنسانَ حينئذ لا يقومُ بالعمل بدافعِها بل بدافعِ القوى الروحية فقط، إذ لا يحاربُ عدوَّهُ لأخذ غنيمةٍ ولا لفخرِ النصر، بل يحاربهُ لأن الله طلبَ منه ذلك، سواءٌ حصلت له غنيمةٌ أم لَم تحصل، نالَ فخر النصرِ أم لَم يعلم به أحدٌ، لأنه لَم يَقُمْ بالعملِ، إلاَّ لأن اللهَ طلبَ منه ذلك. أما القوَى الماديَّة فإنَّها تصبحُ وسائلَ للعملِ لا قوى دافعة عليه.
وقد حَرَصَ الإسلامُ على جعلِ القوى الدافعةِ للمسلم قوًى روحيةً حتى ولو كانت مظاهرُها ماديَّة أو معنوية، إذ جعلَ الأساسَ الروحيَّ هو الأساسُ الوحيد للحياة الدُّنيا كلِّها. فجعلَ العقيدةَ الإسلامية أسَاسَ حياتهِ، والحلالَ والحرامَ مِقْيَاسَ أعمالهِ، ونوالَ رضوانِ الله غَايَةَ الْغَايَاتِ التي يسعَى إليها. وحتَّمَ عليه أن يقومَ بأعمالهِ كلِّها صغيرها وكبيرها بِحَسْبِ أَوَامِرِ اللهِ وَنَوَاهِيْهِ بِنَاءً عَلَى إِدْرَاكِ صِلَتِهِ بِاللهِ تَعَالَى. فإدراكُ الصِّلة بالله والشُّعورُ بِها إدراكاً وشُعوراً يقينيَّين هو الأساسُ الذي تقومُ عليه حياة المسلمِ، وهو القوَى التي تدفعهُ للقيامِ بأيِّ عملٍ صَغُرَ أم كَبُرَ، فهو الرُّوحُ التي تقومُ بِها حياتهُ الدنيويَّة في جميعِ أعماله، وبمقدارِ ما يملكُ من هذا الإدراكِ والشُّعور يكون مقدارُ ما عنده من قوًى روحيَّة. ولذلك كان وَاجباً على المسلمِ أن يجعلَ قِوَاهُ هي القوَى الروحية فهي كنْزُهُ الذي لاَ يَفْنَى وهي سِرُّ نَجَاحِهِ وانتصارهِ.
محمد العموش أبو أنس