معالم الإيمان المستنير المعلم التاسع والعشرون: القضاء والقدر (ح6)
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها المؤمنون:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وبعد:
يتساءل كثير من الناس فيقولون:"هل الإنسان مسير أم مخير؟" ويحارون في الإجابة, فينقسمون إلى فريقين: منهم من يرى أنه مسير, ومنهم من يرى أنه مخير, وكلا الإجابتين على إطلاقهما غير دقيقتين؛ لأن المدقق في الأفعال يرى أن الإنسان يعيش ضمن دائرتين:
الأولى تسيطر هي على الإنسان: وهي الدائرة التي يقع الإنسان في نطاقها, وتقع ضمن هذه الدائرة الأفعال التي لا دخل له بها, سواء أوقعت منه أو عليه.
والثانية يسيطر الإنسان عليها: وهي الدائرة التي تقع في نطاق تصرفات الإنسان, وضمن نطاقها تحصل أفعاله التي يقوم بها بمحض اختياره.
أيها المؤمنون:
من أجل توضيح الدائرة الأولى التي تسيطر على الإنسان نقول: إن الأفعال التي تحصل في هذه الدائرة التي تسيطر على الإنسان لا دخل له بها, ولا شأن له بوجودها قسمان: قسم يقتضيه نظام الوجود, وقسم لا يقتضيه نظام الوجود.
أولا: قسم تقتضيه أنظمة الوجود, والإنسان يخضع لهذه الأنظمة، ويسير بحسبها سيرا جبريا لا يستطيع الخروج عنها, لأنه يسير مع الكون ومع الحياة طبق نظام مخصوص لا يتخلف, ولذلك تقع الأعمال في هذه الدائرة من الإنسان على غير إرادة منه, وهو فيها مسير وليس بمخير. ومن أمثلة هذه الأنظمة:
1. كونه أتى إلى هذه الدنيا على غير إرادته, وسيذهب عنها على غير إرادته.
2. كونه يبصر بعينيه, ويسمع بأذنيه, وكذلك سائر الحواس التي حباه الله بها.
3. كونه يمشي على رجلين, ولا يستطيع أن يطير بجسمه فقط في الهواء.
4. كونه لا يستطيع أن يمشي بوضعه الطبيعي على الماء.
5. كونه لا يدرك إلا ما يقع تحت حواسه.
6. كونه لا يمكن أن يخلق لنفسه لون عينيه, ولا أن يوجد شكل رأسه ولا حجم جسمه, وإنما الذي أوجد ذلك كله هو الله تعالى, دون أن يكون للعبد المخلوق أي أثر ولا أية علاقة في ذلك؛ لأن الله هو الذي خلق نظام الوجود, وجعل الوجود يسير حسبه ولا يملك التخلف عنه.
ثانيا: قسم لا يقتضيه نظام الوجود: وتقع فيه الأفعال التي لا قبل له بدفعها, فهي تقع منه أو عليه جبرا عنه, ولا يملك دفعها مطلقا. ومن أمثلة ذلك:
1. كما لو أطلق شخص النار على غزال يريد اصطياده, فأصاب إنسانا لم يكن يعلمه فقتله.
2. وكما لو سقط شخص عن ظهر حائط على شخص آخر فقتله.
3. وكما لو تدهور قطار أو سيارة, أو سقطت طائرة لخلل طارئ, لم يكن بالإمكان تلافيه فتسبب هذا التدهور والسقوط قتل الركاب.
فهذه الأفعال بقسميها تسمى قضاء؛ لأن الله سبحانه هو الذي قضى الفعل, ولذلك لا يحاسب الله العبد عليها. وهي كلها تقع ضمن الدائرة التي تسيطر على الإنسان، أي أن هذه الأفعال تقع منه أو عليه جبرا عنه.
وعلى هذا فتعريف القضاء: هو الأفعال التي تقع في الدائرة التي تسيطر على الإنسان سواء أكان يقتضيها نظام الوجود أم كان لا يقتضيها, بل تقع من الإنسان أو عليه جبرا عنه, ولا يملك دفعها مطلقا. وعلى الإنسان أن يؤمن بهذا القضاء ويسلم ويرضى به, بل ويطيب به نفسا؛ لأنه من الله سبحانه وتعالى. ورحم الله الإمام الشافعي حيث قال:
دع الأيام تفعل ما تشاء وطب نفسا إذا حكم القضاء
ولا تجزع لحادثة الليالي فما لحوادث الدنيا بقــــــــاء
وتحضرني في هذا المقام قصة قصيرة وقفت عليها, وكنت أحد شهودها: ذهبنا مرة لعيادة أحد المرضى المصابين بداء السرطان من شباب حزب التحرير, وقد كان لهذا الشاب فضل كبير علي, إذ أشرف على تدريسي علم أصول الفقه مدة ليست بالقصيرة. قال له أحد الشباب ممن أتوا لزيارته وهو يدعو له ليصبره ويخفف عنه من آلامه! أبو عماد: جعلك الله من الصابرين على بلوائه! فأجاب مكملا الدعاء على الفور دون تلعثم وبلسان ذرب فصيح: أبو الرائد: ومن الراضين بقضائه! لله درك يا أبا الرائد! رحمك الله, وأسكنك فسيح جناته, وجمعنا وإياك في مستقر رحمته, عند مليك مقتدر, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقا! آمين آمين آمين, برحمتك يا أرحم الراحمين!
أيها المؤمنون:
نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة, موعدنا معكم في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى, فإلى ذلك الحين وإلى أن نلقاكم ودائما, نترككم في عناية الله وحفظه وأمنه, سائلين المولى تبارك وتعالى أن يعزنا بالإسلام, وأن يعز الإسلام بنا, وأن يكرمنا بنصره, وأن يقر أعيننا بقيام دولة الخلافة في القريب العاجل, وأن يجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها, إنه ولي ذلك والقادر عليه. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.