فصل السلطات بين النظرية والواقع ومخالفتها له ج2
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
والدستور في الدولة المدنية التي تحكم المحكمة الدستورية بمقتضاه ويسن البرلمان القوانين حسبه وترعى الدولة شؤون الناس به؛ هذا الدستور لا يضعه الشعب الذي يعتبر في الديمقراطية هو المشرع الحقيقي وهو مصدر السلطات ولا يصدره البرلمان النائب عن الشعب في التشريع حسب التحايل الديمقراطي وإنما تضعه لجنة تأسيسية دستورية من عدد من الأشخاص يعينون من قبل السلطة التنفيذية المؤقتة أو من قبل سلطة عسكرية مؤقتة عندما تستولي على الحكم. وبعد أن تضع الدستور تحل تلك اللجنة التأسيسية، وبعد ذلك يعرض الدستور على الشعب لاجراء الاستفتاء عليه، فإذا أقر بأكثرية شعبية فوق النصف يصبح هذا الدستور ساري المفعول! وتكون هذه اللجنة قد حددت صلاحيات السلطات الثلاث وما يتعلق بها من كيفية تشكيلها وحلها. فيجري بعد ذلك انتخابات عامة لتشكيل السلطة التشريعية ومنها يجري تشكيل السلطة التنفيذية من جديد وتحل السلطة التنفيذية المؤقتة ومن ثم يتم تشكيل السلطة التنفيذية الدائمة وتعين السلطة القضائية.
فتكون مجموعة قليلة من الناس هي التي وضعت دستورا لكافة الناس فهي الحاكمة على الناس جميعا، فهذا يخالف القول في الديمقراطية بأن الشعب يحكم نفسه بنفسه أي أنه هو المشرع ويخالف حكم الأكثرية أيضا. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن قبول نسبة فوق النصف من الناس ولو كانت نسبة واحد في المئة فوق النصف يصبح هذا الدستور ساري المفعول، ويهمل الجزء الآخر من الشعب وربما يكون هذا الجزء أقل من النصف بواحد في المئة! فكيف يصبح الشعب مشرعا ولم يضعه وجزء هام منه يصل إلى النصف رفض الدستور؟ حتى إن الذين وافقوا على الدستور لم يطلعوا عليه والنزر اليسير من الناس من يطلع عليه وأقل من هذا النزر من يدرك معانيه وقد صوت الذين وافقوا عليه من تأثير دعائي وليس عن إدراك ووعي وهذا ما يشاهد في كافة الدول الديمقراطية. فكل ذلك يدل على عدم ديمقراطية الدستور حسب الفكر الديمقراطي الذي يجعل الشعب يحكم نفسه بنفسه. وتسري عدمية الديمقراطية في النظام الديمقراطي على البرلمان بعدما يتشكل حيث يشرع حسب فئة قليلة وبنسبة معينة لا تمثل الشعب جميعا وحسب دستور لم يضعه.
وإذا دققنا في ممارسات السلطة القضائية في النظام الديمقراطي وخاصة محكمة الدستور وفي المحاكم العليا الأخرى فسوف نرى مدى علاقتها بالسلطة التنفيذية بل بقوى نافذة في البلد؛ فهي تقع في كثير من الأحيان تحت تأثير القرار السياسي وتقف بجانب السلطة التنفيذية أو بجانب قوى نافذة في البلد. فعندما يكون الحال هكذا فمن الصعب أن تقول باستقلالية القضاء.
إن تناقض ذلك مع الواقع من كونه لا يمكن الفصل بين السلطات فصلا مطلقا، ولا يمكن عمل كل سلطة لوحدها، ولا يمكن منع تداخل هذه السلطات مع بعضها البعض، ولا يمكن تعيين القائمين فيها من دون تأثير الأخرى مباشرة أو غير مباشرة. وإذا وجد تنافر بين هذه السلطات فإن الدولة سيصيبها الشلل. فالحكومة تريد تشريعات معينة وترى مصلحة البلد في أمر ما كذا وكذا، وربما ترى المصلحة أكثر دقة مما تراه السلطة التشريعية والأخيرة تعارض الأولى. فالقائم على رعاية المصالح يدرك حقيقتها وحقيقة المشاكل التي يواجهها الحكم أثناء هذه الرعاية أكثر مما يدركها الجالسون في المجلس النيابي وإن كان رأيهم لا يجوز إهماله بسبب أنهم يراقبون هذه الرعاية. ولذلك لا يمكن أن تعمل الدولة إلا إذا صار توافق بين هذه السلطات وبعبارة أخرى إلا إذا وافق البرلمان على التشريعات التي تريدها الحكومة ولم ينقضها القضاء. فعندئذ تسير الأمور على ما يرام. وإذا قالوا فإن ذلك يسير على الأغلب في الدولة المدنية فنقول لماذا إذن الادعاء بفكرة فصل السلطات وهي تشل عمل الدولة وتعرقل سيرها في رعاية المصالح عند محاولتها تطبيق هذه الفكرة؟ وإذا تم التوافق بين هذه السلطات في الأغلب فكيف يتم الحديث عن وجود فصل للسلطات؟ فالفكرة واقعيا غير موفقة أو أنه لا يمكن تطبيقها واقعيا، فتبقى نظرية عند محاولة تطبيقها فإن عمل الدولة يشل فلا تتمكن الحكومة من رعاية المصالح.
والتناقض الذي يحصل بين هذه السلطات أو التعارض بينها سببه :
أولاً :
أن الحاكم هو الذي يجب أن يتبنى القوانين؛ لأنه هو الذي يحكم ويمارس الحكم ويرعى مصالح الناس فكان أدرى وأحق بذلك. ولذلك وجب أن يكون الحاكم هو الذي يسن القوانين والمجلس يراقبه ويحاسبه ويرشده، والقضاء ينظر في شرعية تلك القوانين ودستوريتها.
ثانيا ً:
رؤية الأمر المعين الذي يراد سنه أو تبنيه قانونا أهو مصلحة أو غير مصلحة؟! وهذا يرجع إلى مسألة التحسين والتقبيح للأعمال. فعندما ترك للإنسان تعيين الحسن والقبح في الأعمال فعندئذ تختلف الرؤى بين الناس، لأن العقل يكون هو الحكم، وعقول الناس مختلفة وأهواؤهم ومصالحهم التي تؤثر على عقولهم مختلفة. فكل إنسان يقيم المصلحة حسب هواه وحسب مصلحته وحسب قدراته العقلية وإحاطته بالأمر الذي يراد أن يسن ليصبح قانونا. وتتغير النظرة للحسن والقبح من زمن لآخر ومن بيئة إلى بيئة، ومن شخص إلى شخص. فعندما تكون النظرة للحسن والقبح متأثرة بهذه العوامل ولا يمكن للإنسان أن يتحرر منها فيكون من الخطأ الفاحش أن يترك للإنسان حق التشريع لأنه لا يمكن أن يعطي نظرة صحيحة عن حسن العمل أو عن قبحه حتى يقرر أن ذلك مصلحة أو مفسدة! ولهذا لا يعطى حق التشريع لا للحاكم ولا للبرلمان ولا للقضاء ليقرر الحق في التشريع.
ثالثاً :
أنه لا يمكن أن يسير أعمال الدولة ويرعى مصالح الناس ويدير شؤونهم إلا سلطة واحدة فالدولة سلطة واحدة وليست عدة سلطات. وهذا هو الواقع ولذلك لا يمكن أن يسير الأمر على ما يرام إلا إذا وافق البرلمان على التشريعات التي تريدها الحكومة ولم ينقضها القضاء. وإذا لم يحصل ذلك فإن التناقض سيظهر وبذلك تتوقف أعمال الدولة أو تتوقف رعاية المصالح وإدارة الشؤون وكأنه لا توجد دولة. فلو استمر الأمر هكذا في كل مسألة فتصبح الدولة في حكم العدم. وبذلك لا يمكن الرعاية إلا بتوافق ما يسمى بالسلطات الثلاث فتعتبر سلطة واحدة. ولذلك فإن البلد لا يدار إلا بسلطة واحدة.
رابعاً :
أن القيادة فردية فلا يمكن للدولة أن تسير إلا إذا كان هناك شخص واحد هو الذي يقرر في النهاية أن الأمر يجب أن يسير هكذا أو هكذا. وإذا ترك اتخاذ القرار لمجموعة من الناس فإن تسيير الدولة أو إدارتها لا يتحقق لأن قدراتهم العقلية ومداركهم متفاوتة. فللحسم والقطع في الأمور أي للعزم على التنفيذ لا بد إلا أن يكون القائد فردا واحدا. وأما دور الآخرين فهو للشورى وللمراقبة وللمحاسبة.
وعندما سحبوا من الحاكم في الغرب حق التشريع لأن ذلك يؤدي إلى الاستبداد وأعطي هذا الحق للشعب حتى يقضى على الاستبداد فأدركوا أن الشعب لا يستطيع التشريع فسقطت الديمقراطية، فصار تحايل على الأمر بأن أعطي هذا الحق لمجلس يمثل الشعب. فأصبح البرلمان هو المستبد الذي يشرع رغما عن الجميع. بل جعلوا فوق مجلس الشعب محكمة تقضي وتحكم عليه. فأصبحت هذه المحكمة بمثابة المستبد في الأمر فإنها تحكم رغما عن المجلس وعن الشعب كله. فإذن لم يستطيعوا أن يتخلصوا من الاستبداد من قبل فرد أو من قبل مجموعة من الأفراد.
فما حصل في الغرب من ردة فعل على الدولة الاستبدادية أو الديكتاتورية لكونها دولة ثيوقراطية أي دولة دينية أو دولة الاستبداد الديني كان بسبب أن فردا ومعه فئة ممن يسمون النبلاء والعائلات الثرية بالتحالف مع رجال الدين أو الكنيسة كانوا يشرعون حسب مصالحهم. فالكنيسة تشرع بصلاحيات كاذبة من الله ليحصل توافق بينها وبين الدولة وتتواطأ على حكم الناس بغير ما أنزل الله. فحصل الاستبداد فنودي بالدولة المدنية ليتخلصوا ممن أسموها بالدولة الدينية بالمفهوم الغربي وبالديمقراطية حتى يحكم الشعب نفسه بنفسه، ولكن لم يحصل من هذا القبيل شيء كما ذكرنا. أي لم يحكم الشعب نفسه بنفسه فلم يشرع ولم يحكم بل بقي محكوما والتشريعات تصدر من فوقه رغما عنه من قبل فئة قليلة من الناس فعاد الاستبداد بصورة أخرى. بل إن الدولة المدنية الديمقراطية يتحكم فيها أصحاب النفوذ وخاصة أصحاب رؤوس الأموال فهم الذين ينتخبون الحاكم وهم ينتخبون مجلس الشعب وهم يتحكمون في الحكم ولكن بصور خفية تخفى على كثير من الناس.
والناس يذهبون إلى صناديق الاقتراع ليصوتوا على أشخاص فرضوا عليهم من قبل أصحاب النفوذ وعلى رأسهم أصحاب رؤوس الأموال. ولذلك سادت دكتاتورية أصحاب رؤوس الأموال أي الاستبداد الرأسمالي فسمي النظام بالرأسمالي وهذه الحال في كل دول الغرب الديمقراطية. وقد جعلوا للحاكم ولأعضاء الحكومة والبرلمان الحصانة، فلا يحاكم هؤلاء وهم في الحكم وفي المجلس، وهذا نوع من الظلم والاستبداد. فالحاكم أصبحت له الحصانة كما كان في العصور ما قبل ظهور الديمقراطية حيث كان للملك وللنبلاء وللإقطاعيين الحصانة. وإذا قيل يجب أن تكون للحكام حصانة ما داموا في الحكم حتى يتمكنوا من الحكم وحتى يكون هناك استقرار فنقول إنكم قد أقررتم بالاستبداد. فالحق ألا يجعل لأحد حق بالحصانة، بل يجب أن يحاكم الحاكم فورا مثله مثل عامة الناس.
والخلاصة أن القول بتعدد السلطات وبفصل السلطات قول خاطئ لأنه غير متحقق فعليا، ولا توجد غير سلطة واحدة في الدولة وهي التي ترعى مصالح الناس وتسير شؤونهم. ولقد رأينا أن فكرة تعدد السلطات وفصلها وجدت كردة فعل على الاستبداد من جراء حصر السلطة في شخص رئيس الدولة ملكا كان أو إمبراطورا، ولكن الاستبداد ليس آتيا من ذلك وإنما هو آت من أن المشرعين هم البشر سواء في الدولة المدنية الحالية أم الدولة الدينية البائدة. فالقضية أن التشريعات التي يصدرها البشر لا تنتج العدل وإنما تنتج الظلم. فلا بد أن يأتي التشريع من خالق البشر، والبشر يديرون أنفسهم بهذه التشريعات، فينتخبون حكامهم ويحاسبونهم ويقومونهم ويسقطونهم بناء على ذلك التشريع الذي أنزله خالقهم. فعندئذ يزول الاستبداد ويسود العدل ويسعد البشر.