فكرة فصل السلطات بين النظرية والواقع ومخالفتها له الجزء الثالث
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
ومن جراء عدم إدراك كثير من المسلمين في هذا العصر لنظام الحكم في الإسلام ومن جراء وقوعهم تحت تأثير الفكر الغربي وتطبيق النظام الغربي عليهم مباشرة منذ فترة من الزمن والبريق الخادع له من جراء الدعاية الكاذبة له صعب عليهم أن يفرقوا بينه وبين النظام الغربي الديمقراطي. وصعب عليهم أن يفرقوا بين مفهوم الدولة الإسلامية ومفهوم الدولة الدينية عند الغرب، ولم يدركوا مدى تناقض الدولة المدنية مع الدولة الإسلامية ولم يدركوا فكرة فصل السلطات ومخالفتها للواقع ولنظام الحكم في الإسلام، ولم يدركوا معنى الديمقراطية الحقيقي فظنوا أن معناها الانتخابات أو ركز أمام أعينهم على هذا الجانب حتى يغطى على المعنى الحقيقي لها الذي يجعل التشريع للبشر حتى يتم تجريعها لهم، لأن الغرب أدرك أنه لا يمكن أن يقنع المسلمين بالديمقراطية إذا أظهرها على حقيقتها. ولذلك رأينا التناقض العجيب عندما قام مسلم يعتبر متدينا وأصبح رئيسا للجمهورية في مصر فيقسم في 29/6/2012 قسم الولاء لهذا النظام فيقول بأعلى صوته: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على النظام الجمهوري" في ميدان التحرير فتصفق له الحشود المليونية المسلمة هناك عندما أقسم على الولاء للنظام الذي ثاروا ضده. وخاطبهم قائلا: "اليوم أسس الشعب المصري لحياة جديدة ديمقراطية حقيقية وإعلاء مفهوم المؤسسية". وقال: "سأحترم وأقدر السلطة القضائية والسلطة التشريعية وأقوم بدوري لضمان استقلال هاتين السلطتين عن بعضهما البعض وعن السلطة التنفيذية". وقال: "سنكمل المشوار في دولة مدنية وطنية دستورية حديثة".
وإن من أسباب هذا التناقض العجيب لدى المسلمين ومن يتولى حكمهم هو أنه عندما قامت الثورات في العالم العربي وطرحت شعار إسقاط النظام وإعادة كرامة الإنسان ولم تطرح البديل بشكل واضح لعدم اكتمال الوعي لديها تحرك الغرب بسرعة وأدرك أن هذه الثورات حقيقية ستطيح بالأنظمة التي أقامها والدساتير التي وضعها ونصب عليها أتباعا له في فكرته وفي سياسته، فجعلهم عملاء مخلصين له ومستبدين في الأمة يسومونها سوء العذاب حتى يحافظ على نفوذه، فتحرك الغرب بسرعة وضحى ببعض عملائه وقبل بإسقاطهم في سبيل الحفاظ على نظامه الغربي الذي أقامه في بلاد المسلمين وقبل بأن يأتي أناس من المحسوبين على التيار الإسلامي بشرط أن يتعهدوا بالولاء للنظام الديمقراطي والدولة المدنية وأن يحترموا فكرة فصل السلطات. وبدأ الغرب يروج للنظام ذاته الذي أقامه من قبل والذي أصبح على وشك السقوط ولكن أراد الحفاظ عليه بتلميع صورته ليظهر أقل استبدادا، وصار ينادي ويروج للدولة المدنية القائمة على أساس فكرته في فصل الدين عن الدولة وفي هيكلها فصل السلطات.
فلو أدرك المسلمون إدراكا تاما بأن فصل السلطات شيء غير متحقق في الواقع وهو مخالف للواقع وأنه لا يوجد إلا سلطة واحدة يديرها شخص واحد يسمى الخليفة بأحكام شرعية مستنبطة مما أنزل الله لما قبلوا بالديمقراطية أو بفصل السلطات ولا نادوا بالدولة المدنية. فما حصل في الغرب لم يحصل عندنا بل كان تاريخنا مشرقاً مختلفا عن تاريخهم المظلم. فلم يحدث أن طالب الناس على مدى 13 قرنا بإسقاط الخليفة لأنه فرد واحد يحكم وأنه مستبد. لأن هذا الخليفة لم يكن مستبدا فلم يحكم حسب هواه وحسب مصالحه بل حكم بما أنزل الله فلم يعترضوا على حكمه ولذلك لم يكن مستبدا أو دكتاتورا. وكل ما اعترضوا عليه هو إساءة تطبيق البيعة أي أن الخليفة كان يرشح ابنه أو أخاه أو أحد أقاربه حتى يبايع على الخلافة من بعده باجتهاد خاطئ للمحافظة على وحدة الدولة ومنعا لاختلاف الناس من بعده والحيلولة دون الفتن. مع العلم أن الإسلام يعطي الحق للأمة لتختار وتبايع من تريد سواء ابن الخليفة أو أحد أقاربه أو أي شخص آخر من بينها يحوز على الأهلية. ولا توجد في الإسلام زمرة رجال الدين لأن الإسلام لم يعط حق التشريع للعلماء ولا لغيرهم من البشر، وما يقوم به العلماء هو الاجتهاد فقط. فيقومون ببذل الوسع في استنباط الحكم الشرعي لمسألة عملية من الأدلة التفصيلية أي من القرآن والسنة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس الشرعي. والخليفة ربما يكون هو أيضا مجتهدا فإذا تبنى حكما شرعيا سواء باجتهاده أو باجتهاد علماء آخرين فيصبح حكما شرعيا في حق الرعية فيلزم الناس به حتى يتمكن من رعاية شؤونهم وتسيير مصالح الدولة. فالدولة الإسلامية ليست دولة دينية بالمفهوم الغربي وإن كان أساسها الدين الإسلامي أي دستورها وقوانينها نابعة من الدين الإسلامي. بل هي دولة بشرية يحكمها بشر بما أنزل الله ويختار حكامها ونوابها من قبل البشر. فلم يعينوا من قبل الله فليست هي دولة إلهية وليست هي دولة ثيوقراطية. ورئيسها الخليفة أو الإمام ليس معصوما بل هو بشر يصيب ويخطئ. والإسلام يرفض الحصانة للحكام وممثلي الشعب كما يقرها النظام الديمقراطي. فالخليفة أو أي حاكم في الدولة أو أي نائب يحاكم من قبل محكمة المظالم فورا. والدولة النموذجية هي التي تكون على منهاج النبوة أي خلافة راشدة. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي".
وقد هاجم الإسلام مفهوم الدولة الدينية عند الغرب التي يشرع فيها رجال الدين. فجاءت الآيات تهاجمهم قائلة: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله". ( التوبة 31) ووصفت هؤلاء المشرعين بالكذابين فقالت: "وإن منهم لفريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون". (آل عمران78) وهددهم الله الحاكم على عباده بعذاب منه لفعلهم ذلك مقابل عرض دنيوي فقال: "فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا..". (البقرة 79) وغير ذلك من الآيات العديدة التي تهاجم المشرعين من رجال الدين. كذلك هاجم الإسلام الدولة المدنية التي يصبح فيها زمرة من الناس مشرعين فقال تعالى: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله..". (التوبة 29) وقال: "إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا. أولئك هم الكافرون حقا.." (النساء 150 ـ 151) وقال: "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا. وإذا قيل لهم تعالوا إلى الله والرسول ليحكم بينهم رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا". (النساء 60ـ61) فالذين يزعمون أنهم مؤمنون أو مسلمون ومن ثم يرفضون حكم الله ويريدون حكم البشر وهو حكم الطاغوت وصفهم الله العالم بخفاياهم بأنهم منافقون وليسوا بمؤمنين وقد أضلهم الشيطان ضلالا بعيدا. فالديمقراطية التي تجعل البشر مشرعين هي طاغوت والدولة المدنية القائمة على ذلك هي أيضا طاغوت، أي؛ هما استبداد ودكتاتورية. ووصف الذين لا يحكمون بما أنزل الله بالكفرة والظلمة والفسقة. فالحكم بغير ما أنزل الله هو الظلم بعينه وهو الاستبداد. وفرض إقامة الدولة الإسلامية التي تحكم بما أنزل الله في العديد من الآيات، كما إن كثيرا من الأحكام التي تتضمنها الآيات وتطلب من المسلمين تطبيقها لا يمكن تطبيقها من قبل الأفراد بل تقتضي وجود دولة لتطبيقها. بجانب ذلك هناك كمّ هائل من الأحاديث التي تتعلق بالدولة الإسلامية منها قولية ومنها فعلية وإلى جانب ذلك كله إجماع الصحابة واستمرارهم بالفعل على إقامتها وتقويتها. والأمة كلها بعلمائها وبعامتها وبحكامها كلهم اتبعوا ذلك على مدى 13 قرنا وحافظوا عليه وطبقوه لأنهم أدركوا أن ذلك من صلب دينهم، بل إن ذلك تاج الفروض فمن دونه لا يمكن أن تقام الفروض الأخرى.
فالدولة الإسلامية فيها سلطة واحدة ترعى شؤون الناس ومصالحهم بشرع الله خالقهم. فكانت السيادة للشرع وليست للأمة ولا للخليفة، ولكن السلطان للأمة تمنح الشخص الذي تنتخبه خليفة السلطة ليرعى شؤونها ومصالحها حسب أحكام الشرع. فعندئذ لا يكون الخليفة مستبدا. وإن كان هو على رأس السلطة ويملك كامل الصلاحيات إلا أن للدولة أجهزة عديدة من معاوني تفويض يعاونون الخليفة وينوبون عنه، ومعاوني تنفيذ، وولاة وعمال، وجيش، وأمن داخلي، وخارجية، وصناعة، وقضاء ومنهم قاضي المظالم، وهناك جهاز إداري، وبيت مال، وإعلام، ومجلس أمة يشاوره الخليفة ويحاسب الخليفة. فقاضي المظالم ينظر في الدعاوى المرفوعة ضد الخليفة وغيره من الحكام في الدولة فليس لأحد منهم حصانة وينظر في شرعية القوانين. ولكنه ليس سلطة منفصلة وإنما يعين ويعزل من قبل الخليفة، ولكن حين النظر في الدعاوى لا يجوز للخليفة أن يعزله. ومجلس الأمة ينتخب من قبل الأمة لينوب عنها في الشورى والمحاسبة، فليس له حق التشريع. ولذلك كانت الدولة الإسلامية بشرية ينتخب رئيسها من قبل البشر وهو ليس معصوما وليست له الحصانة، وليس له حق التشريع وإنما هو يتبنى الأحكام الشرعية فتصبح قوانين نافذة ظاهرا وباطنا يلزم الناس باتباعها. فالأمة قادرة على محاكمة الخليفة أمام محكمة المظالم وقادرة على إسقاطه بواسطتها عند مخالفته للأحكام الشرعية، فلها حق المطالبة بعزله لأسباب شرعية. فالسلطان في الدولة الإسلامية للأمة أي للبشر ولكن السيادة فيها للشرع. فالكل حاكم ومحكوم خاضع للشرع. لأنهم كلهم مخلوقون فلا عصمة ولا حصانة لأي أحد منهم، كلهم سواسية كأسنان المشط أمام سيادة الشرع.