الخميس، 03 ربيع الأول 1446هـ| 2024/09/05م
الساعة الان: (ت.م.م)
Menu
القائمة الرئيسية
القائمة الرئيسية

فكرة فصل السلطات بين النظرية والواقع ومخالفتها له ج4

بسم الله الرحمن الرحيم

 

وبعد أن بحثنا موضوع فصل السلطات بشكل واقعي مجرد لنناقش فيه أصحاب الفكر العلماني والديمقراطي والمنادين بالدولة المدنية وفصل السلطات، وبعد أن تعرضنا في الجزء الثالث إلى واقع الدولة الإسلامية، نريد في هذا الجزء الرابع أن نتناول مسألة ليست قليلة الأهمية ألا وهي ما نلاحظه على المفكرين والمشرعين الغربين قديما وحديثا وهم يتناولون موضوع نظام الحكم فلا يلتفتون إلى نظام الحكم في الإسلام قطعا. فنراهم يتجاهلونه تجاهلا تاما حتى يظن البعض أنه لا يوجد نظام حكم في الإسلام، فلا يقومون بدراسته وبحثه بصورة مجردة. وما يقوم به المستشرقون لا يعد دراسة ولا بحثا وإنما يقومون بكتابات مغرضة خدمة للحروب الاستعمارية التي يشنها الغرب المستعمر على الإسلام والمسلمين، وقد أسس معاهد الاستشراق على إثر هزيمته في الحروب الصليبية بقصد محاربة الإسلام فكريا. مع العلم أن الدولة الإسلامية كانت أعظم دولة في العالم على مدى قرون عديدة وكانت تغزوهم في عقر دارهم وتفتح بلدانهم وقد عمرت ثلاثة عشر قرنا. وسبب تجاهلهم لنظام الحكم في الإسلام وهم يشاهدون وجوده ماثلا أمامهم ويحسون بعدله ونجاحه سبب ذلك نابع من أمرين رئيسين :


أولهما :

 

أنهم كانوا يعتبرون الإسلام عدوا لهم فاتخذوه عدوا حقا، فكانت مواقفهم تجاهه مواقف عدائية، ولذلك لم يلتفتوا إلى نظام الحكم في الإسلام ولم يكلفوا أنفسهم بالبحث فيه ولو على سبيل أخذ المعلومات السابقة أو على سبيل حب الاستطلاع. وقد أدركوا أن الإسلام يخالف وجهة نظرهم مخالفة تامة ويتناقض مع حضارتهم تناقضا تاما فلا يوجد وجه شبه بين الإسلام وبين ما هم عليه. ومثل ذلك لم يدركه كثير من المسلمين في هذا العصر؛ بأن وجهة نظر الغرب على النقيض من وجهة نظرهم وحضارته وثقافته تتناقض مع حضارتهم وثقافتهم تناقضا تاما حتى يكونون محصنين ضد ما يأتيهم من الغرب ولا يلتفتوا إلى نظمه وتشريعاته سواء نظام الحكم أو غيره من النظم كما فعل المسلمون الأوائل الذين لم يلتفتوا إلى نظم الحكم لدى الأمم الأخرى ولا إلى تشريعاتهم ولم يترجموها. مع العلم أنهم ترجموا علومهم ليستفيدوا منها لأنهم أدركوا أنها ليست لها علاقة بوجهة النظر عن الحياة وليست لها علاقة بالحضارة والثقافة. فالعلم عالمي لا يستند إلى عقيدة معينة، تماما كما أدرك ذلك الغربيون بأن العلم عالمي فأخذوا العلوم من المسلمين وبنوا عليها وطوروها وتقدموا على أساسها بل تبنوا طريقة البحث العلمي التي اكتشفها المسلمون. وقد ترجم المسلمون فلسفات الآخرين للرد على قضايا فكرية تمر في فلسفاتهم وقد أثيرت أمام المسلمين فاضطر المسلمون لدراستها للرد عليها وإعطاء رأي الإسلام فيها، ولكنهم لم يترجموا نظم حكم تلك الأمم ولا تشريعاتهم.


وثانيهما :

 

اتخاذ الغربيين فكرة فصل الدين عن الحياة عقيدة لهم، وقاعدة فكرية يبنون عليها كافة أفكارهم، فرفضوا كل دين وكل فكر يمت إلى الدين كردة فعل على ما كان عندهم من واقع الدولة الدينية فقاسوا الإسلام على النصرانية. فلم يعنوا أنفسهم ببحث نظام الحكم في الإسلام ليكتشفوا أنه بعيد عن الدولة الدينية في مفهومهم والتي تعني الاستبداد الديني. فاتجهوا نحو الفكر السياسي والفلسفي لدى اليونانيين القدامى، لأنه فكر مادي بحت بعيد كل البعد عن الدين فاستقوا من هذا الفكر معلوماتهم الأولية فيما يتعلق بالفكر وبالسياسة وبنظام الحكم مثل فكرة فصل السلطات والديمقراطية والجمهورية وغيرها الكثير من الأفكار، ولكن قاموا بتطويرها حتى تلائم مبدأهم وواقعهم.


بينما نرى المسلمين منذ بدء الغزو الغربي لهم فكريا وسياسيا وعسكريا واحتلاله لبلادهم نراهم يأخذون كل شيء من الغرب. وكل ذلك بسبب الضعف الفكري الذي طرأ على أذهان المسلمين من جراء عوامل عديدة وقد بهرهم تقدم الغرب ماديا فتأثروا بفكره وبنظمه. فلم يلتزموا بوجهة النظر التي لديهم ولم يعودوا يدركون مدى التناقض بين وجهة نظرهم ووجهة نظر الغرب. ولذلك لم يتخذوه عدوا فكريا وسياسيا وحضاريا كما اتخذوه عدوا عسكريا محتلا. فرفضوا احتلاله لبلادهم وقاوموه ولكنهم لم يرفضوا فكره ونظمه وثقافته وحضارته. فالغشاوات التي غشت على فهم المسلمين لإسلامهم جعلهم يسيئون فهمه ويتأثرون بالفكر الغربي، ولم يدركوا سر تقدم الغرب المادي وسر تأخرهم المادي مع العلم أن الغرب كان متأخرا عنهم وكانوا هم متقدمين عليه، بل لم يكن عند الغربيين أي تقدم وهم يسمون عصورهم بالعصور الوسطى المظلمة والتي كانت لدى المسلمين مضيئة. فعندما صار الحال لدى المسلمين على هذا الشكل خضعوا للغرب ولفكره ولنظمه، فأخذوا النظام الجمهوري والديمقراطي ونادوا بالدولة المدنية وبالحريات العامة من دون إدراك لديهم أن ذلك كله يخالف الإسلام ونظمه. بل تجاوز البعض الحد بأن قال بأن ما عند الغرب يوافق الإسلام أو أنه في الأصل هو فكرنا وأن هذه بضاعتنا ردت إلينا. مع العلم أن الغرب يسخر من هذه الأقوال ومن أصحابها ويتعجب كيف أصبح هؤلاء أسرى لفكره الغربي ومنضبعين به، بل هو يتعجب كيف نجح في ذلك في أمة عظيمة لديها دولة عظمى سادت العالم مدة لم تسدها أية دولة في العالم عبر التاريخ وتؤمن بمبدئها وتتمسك به؟! فيعد ذلك من انتصاراته الكبرى على الإسلام فأصبح يعتبره فكرا رجعيا ليس له علاقة بالسياسة وبالفكر التنويري، بل صوره على أنه يحجر على العقول، فيسخر منه ويستهزء به بأشكال متعددة ويقيسه على النصرانية، بل إنه يحترم النصرانية كدين روحي أكثر مما يحترم الإسلام، وبعض الدول الغربية لا تعترف به رسميا كأحد الأديان الموجودة في بلادها، وكل ذلك بسبب الحقد الذي يكنه له وقد اتخذه عدوا له واعتبر الغربيون أن التاريخ انتهى بانتصار الرأسمالية بكل أفكارها ونظمها، ولا يوجد بعدها مبدأ سيسود في الأرض.


فقبول حركات تعتبر إسلامية بأفكار الرأسمالية من ديمقراطية ودولة مدنية وحريات عامة وبفكرة فصل السلطات وغير ذلك من الأفكار والنظم السياسية الغربية وبعد قيام الثورات التي تفجرت في وجه هذه الأنظمة التي تستند إلى الفكر الغربي الرأسمالي لهو دليل على أن التأثر بالغرب وبوجهة نظره وبأفكاره ونظمه ما زال موجودا لدى الكثير من الناس خاصتهم وعامتهم. فلو لم يكن ذاك التأثر موجودا لرفضوا تلك الأفكار والنظم جملة وتفصيلا وقد سببت لهم المآسي الكبيرة وعمتهم البلوى من جرائها منذ أن أدخلها الغرب عليهم، ولو لم يكن الأمر كذلك لأصروا على إقامة نظام الإسلام كما أقامه رسولهم عليه الصلاة والسلام ومن بعده الخلفاء الراشدون المهديون. بالرغم من أنه قد تولدت لديهم قناعة بأن الإسلام هو الحل ولكن لعدم بلورتهم لأفكاره وعدم وعيهم التام عليها وخاصة الأفكار التي تتعلق بالحكم وبالسياسة والاقتصاد بجانب ضعف الإرادة لدى القائمين على تلك الحركات فلا يجدون لديهم القدرة على التحدي وعلى تطبيق الإسلام والإصرار عليه مهما بلغت التضحيات، ولعدم وعيهم السياسي التام حيث يقعون في فخاخ الدول الغربية ويتخوفون من أنها سوف لا تسمح لهم بتطبيق الإسلام وسوف تجهز على بلادهم إذا ما فعلوا ذلك ويشعرون بأنه ليست لديهم القدرة على ردهم والتصدي لهم، كل ذلك عرقل إقامة نظام الحكم في الإسلام حتى الآن.


مع العلم أن الأفكار والنظم الغربية التي ينادون لتطبيقها بعد الثورة هي بالأصل قائمة في بلادهم ومطبقة عليهم منذ سقوط الخلافة. وقد شاهدوا بل عايشوا فساد تلك الأفكار والنظم الغربية واصطلوا بنارها قرنا من الزمان فلحقهم الظلم والجور وأصابهم الفقر بسببها. فكيف يقبلون بها مرة ثانية بعدما ثاروا عليها؟ فيظهر أن تلميع الغرب لها من جديد، وإغراء البعض بالمناصب، والاستعجال بقطف شيء ما من ثمار الثورة من إعادة الكرامة وتنفس رائحة الانعتاق من الظلم والاستبداد جعل البعض يغتر بذلك فيقبل بإعادة النظام السابق من جديد بصورة ملمعة وبوجوه جديدة. كما حصل تماما بعدما انعتق الناس من نير المستعمر وخروج جيوشه من بلادهم فأخذوا نظمه التي كان يطبقها عليهم أثناء استعماره المباشر لهم! فلم يتغير حالهم بعد خروج المستعمر بل أصبح المستعمر يديرهم بواسطة هذه الأنظمة التي أقامها. فالدساتير التي وضعها المستعمر أثناء الاستعمار بقيت بعد خروجه والآن يعملون على إبقائها بعد الثورة بعد إجراء عمليات تجميلية عليها.


ومن جانب آخر فإن الشعوب الغربية قد سئمت أنظمتها الرأسمالية وذاقت الويلات منها وهي تعيش في ضنك من العيش وتبحث عن بديل وقد بدأت تتململ من جديد. فكان الأحرى بالمسلمين الثائرين أن يفكروا في هذه الظاهرة ويعملوا على أن يكونوا محررين ومخلصين لتلك الشعوب بعدما تأثرت هذه الشعوب بثوراتهم فأرادت تقليدها ولكنها لم تنجح حتى الآن. وقد قامت الشعوب الغربية ضد نظمها سابقا وقد تطلعت إلى الاشتراكية كمخلص لها، وقد حاربت الدول الغربية الفكر الاشتراكي بكل الوسائل ومن أخبثها تبنيها لتشريعات اشتراكية والسماح لتأسيس أحزاب اشتراكية لا تتعارض مع المبدأ الرأسمالي وتصل إلى الحكم وتصدر تشريعات اشتراكية تعتبر ترقيعات في ظل المبدأ الرأسمالي وقد عبر عنها باشتراكية الدولة، مع العلم أن الاشتراكية المستندة إلى الفكر الماركسي وصلت إلى الحكم في روسيا والصين وغيرهما من البلدان التي اتبعتهما ولكنها فشلت وسقطت فلم يعد لها وجود سوى اسمها والأحزاب الحاملة لاسمها. فالغربيون حتى الآن لا يتطلعون إلى الإسلام كنظام للحياة يمكن أن يأخذوا به ليحل محل المبدأ الرأسمالي مع أنهم في حاجة ماسة إلى نظام حياة ينقذهم. فما زال الغرب ينظر إلى الإسلام على أنه مجرد دين كهنوتي، وليس على اعتبار أنه دين ومن دولة ونظام حياة كما هي حقيقته. وأغلب الحركات الإسلامية من أحزاب وجمعيات وهيئات ومؤسسات لا تعرض الإسلام على الغرب بهذه الصورة بل تتوجس من عرضه عليه بهذه الصورة وهي متأثرة بالفكر الغربي فلا تستطيع أن تجيب على كثير من الأسئلة بل تظهر نفسها بأنها تقبل بأفكار الغرب ولا تعرض إلا الجانب الروحي والخلقي من الإسلام. وبجانب ذلك فإنه لا توجد دولة في العالم الإسلامي تكون نموذجا لتطبيقه ولحمله للعالم وتلفت نظر الغربيين بشكل جاد إليه أي إلى الإسلام باعتباره نظاما شاملا للحياة. فتبقى النظرة العدائية السابقة لدى الغربيين عن الإسلام مسيطرة على أذهانهم. وقد التفتت الشعوب الغربية إلى الثورات العربية وتابعها البعض باهتمام ولكن وسائل إعلامهم التي تملكها الدولة ويملكها أصحاب رؤوس الأموال الذين يملكون المليارات ويحرمون شعوبهم منها عملت على عدم إبراز تلك الثورات أو تلميعها، ولم تعمل على التركيز عليها خوفا من أن تنتقل العدوى إلى بلادهم وشعوبهم ولم يقم مفكرون منهم بدراستها وعرضها عليهم، إلا أن بعض أخبارها لامست أسماعهم فحاولوا تقليدها وقاموا ببعض من مظاهرها كاحتجاجات وول ستريت وغيرها في أمريكا وأوروبا، ولكنها لم تنضج، والثورات العربية لم تطرح بديلا حتى تلفت نظر الغربيين بل جرى التحايل عليها بإعادة النظام القائم بثوب جديد، وهو النظام الذي ثاروا عليه وأرادوا إسقاطه وهو النظام الغربي الرأسمالي نفسه الذي أقامه المستعمر منذ استعماره لبلاد المسلمين وهدمه لنظام حكمهم نظام الخلافة. فقبل من ركبوا على أكتاف الثائرين بهذا النظام على شرط أن يتوظفوا فيه رؤساء ووزراء ونوابا، فأقسموا الأيمان المغلظة على أن يكونوا مخلصين في المحافظة على النظام القديم الفاشل وأشهدوا الله على الإخلاص لنظام الكفر من جهمورية وديمقراطية ودولة مدنية وفصل سلطات. فكيف يشهدون الله على أن يخلصوا لنظام ما أنزل الله به من سلطان يخالف بل يعادي النظام الذي أنزله الله ويقسموا الأيمان المغلظة على ذلك؟! فالثورات العربية حتى الآن لم تنجح في الإتيان بنظام بديل جديد حتى تلفت نظر الشعوب الغربية التي تبحث عن نظام بديل. وأكثر ما سيجري من تغيير هو وضع بعض المواد التي تظهر أن لها علاقة بالإسلام في الدساتير وأن يجري سن بعض القوانين باعتبار أنها غير مخالفة للشريعة الإسلامية وأن تصل بعض الأحزاب التي تعتبر إسلامية إلى الحكم في ظل النظام الرأسمالي القائم، فتنطلي هذه الحيلة على الشعوب الإسلامية كما فعل الغربيون تماما مع الاشتراكية والاشتراكيين وتحايل عليهم. وبهذا الشكل تظهر ترقيعات إسلامية في الثوب الرأسمالي كما ظهرت الترقيعات الاشتراكية في الثوب الرأسمالي. فالدول الغربية تتقن فن التحايل على شعوبها وعلى شعوب العالم كله، وهذا هو سر بقاء النظام الرأسمالي حتى الآن وإلا كان من الطبيعي أن يسقط من أول أيامه في بداية القرن التاسع عشر عند ظهور وحشيته وجشعه وظلمه، وقد بدأت الأفكار الاشتراكية للحلول محله بعد مرور فترة قصيرة على البدء بتطبيقه. وقد تعرض للانهيار عدة مرات ولم ينقذه سوى مثل هذا التحايل، وهو قبول ترقيعات من غير جنسه في لباسه، ومن ثم يعمل مع الزمن على إزالتها إذا رأى أنها لم تعد صالحة له.


ولذلك كان أخطر شيء على الإسلام أن تؤخذ منه أفكار وتشريعات ويعمل على تطبيقها في ظل النظام الرأسمالي القائم لتكون ترقيعات فيه تديم عمر النظام الرأسمالي مع جعل المسلمين يوافقون على بقائه فوق رؤوسهم ويحافظون عليه بجعلهم يتبنون أفكاره من دولة مدنية ديمقراطية أو علمانية ومنها فكرة فصل السلطات وغير ذلك من الأفكار والنظم وعلى الأخص منها تلك التي تتعلق بالحكم وبالسياسة والاقتصاد. فإذا لم تضرب تلك الأفكار كلها وتنقض نقضا تاما وأن يميز بينها وبين الإسلام وما لم يدع إلى تطبيقه تطبيقا كاملا وتاما في جميع نواحي الحياة مستندا إلى عقيدته ووجهة نظره في الحياة وبعيدا عن النظم الأخرى فلا يمكن أن يكتب النجاح للعاملين على تطبيقه، ولن يكون مثالا للشعوب الأخرى التي تتعطش لنظام جديد ينقذها مما هي فيه ويحررها من ربقة النظام الرأسمالي الاستبدادي.

وسائط

تعليقات الزوَّار

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

عد إلى الأعلى

البلاد الإسلامية

البلاد العربية

البلاد الغربية

روابط أخرى

من أقسام الموقع