خطبة جمعة: الذكرى الأليمة
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، و ما ثقتي و لا اعتزازي إلا بالله. عباد الله أوصيكم و نفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم و أحذركم من عصيانه ومخالفة أمره، واعلموا أن التقوى وقاية و المعصية غواية و أنه من يتقي و يصبر فان الله لا يضيع أجر المحسنين.
أما بعد، أيها الإخوة الكرام، منذ أيام قليلة مضت، مرت بالأمة الإسلامية ذكرى أليمة، غفلت عنها الأمة و تغافلت عنها وسائل الإعلام، مع أنها ذكرى مفصلية في تاريخ الأمة الإسلامية، حيث اقترفت فيها أفظع جريمة شهدها التاريخ و ترتبت عليها عواقب وخيمة و أمور عظيمة أدخلت الأمة في أنفاق مظلمة، وقد كانت الأمة و لا تزال تتجرع المرارة تلو المرارة منذ تلك الذكرى المشؤومة، لذلك كان لا بد من الوقوف عليها و أخذ العبرة منها.
أيها الإخوة الكرام، في صبيحة الثالث من مارس (آذار) من سنة 1924م، هدم الكفار الخلافة الإسلامية على يد اليهودي الكافر المتمسلم عميل الانكليز وصنيعتهم مصطفى كمال أتاتورك. وعلى إثر هدم الخلافة بدت البغضاء من أفواه الانكليز على لسان وزير خارجيتها كروزون أمام مجلس العموم البريطاني الذي احتج على قرار الحكومة البريطانية آنذاك القاضي بانسحاب القوات البريطانية من تركيا فرد مبرراً قرار حكومته قائلا: "القضية أن تركيا قد قضي عليها ولن تقوم لها قائمة لأننا قد قضينا على القوة المعنوية فيها، الخلافة والإسلام".
وهذه القوة المعنوية الني أشار إليها كروزون والمتمثلة في الخلافة والإسلام السياسي هو عين ما بكاه شعراء الخلافة الإسلامية ونوّهوا به وأسفوا عليه أسفا شديدا.
يقول شوقي في قصيدته رثاء البلقان:
يا أخت أندلس عليك سلام ... هوت الخلافة عنك والإسلام
نزل الهلال عن السماء فليتها ... طويت وعم العالمين ظلام
ومن قبلها رثى أبو البقاء الرندي الأندلس الإسلامية بقصيدة مؤثرة جدا، ومما جاء فيها قوله:
أتى على الكل أمر لا مردّ له حتى قضوا فكأنّ القوم ما كانوا
وطار ما كان من ملك ومن ملك كما حكى عن خيال الطيف عثمان
تبكي الحنيفية البيضاء من أسف كما بكى لفراق الأنس هيمان
على ديار من الإسلام خالية قد أقفرت ولها بالكفر عمران
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان
تلك المصيبة آنست ما تقدّمها وما لها مع طول الدهر نسيان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
أيها الإخوة الكرام، لقد فقد المسلمون أمور عظيمة جراء غياب الخلافة الإسلامية. ولا بد والحالة هذه من التنبيه إلى أبرز ما فقدوه لعل إدراك المسلمين لفداحة الخسارة وجسامة المفقود يدفعهم للعمل الجاد لإعادة ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها الطريق الوحيد إلى ذالك ولقد جربوا غيرها من الأفكار والطرق والمناهج فما زادتهم غير تتبيب وصاروا طرائق قددا والعياذ بالله تعالى.
1. فقدت الأمة الإسلامية، الحكم بما أنزل الله وتلك جريمة كبرى أطاحت بكتاب الله وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) من سدة الحكم والمرجعية عند الأمة. وهي مخالفة صريحة لقوله تعالى :{وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك}.
وهذا وحده كاف لإثارة غضب الله علينا، وأن تتحفز ملائكة العذاب لاختطافنا وتتهيأ جهنم لاستقبالنا.
عن أبى هريرة (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: «إذا أحب الله عبدا نادى جبريل إني قد أحببت فلانا فأحبه فينادى في السماء ثم تنزل له المحبة في أهل الأرض فذالك قوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمان وداً} وإذا أبغض الله عبداً نادى جبريل إني أبغضت فلاناً فينادى في السماء ثم تتنزل له البغضاء في الأرض».
وبما أنه قد ثبت لدينا أن بعض المسلمين قد شارك في تلك الجريمة، وكثير منهم قد سكت ورضي بما جرى وتابع فمن يدرينا أن يكون الله تعالى قد نادى جبريل عليه السلام فقال له إني أبغضت هؤلاء القوم فأبغضهم، فنادى جبريل في السماء بالقرار الإلهي فتحركت الملائكة للتنفيذ فرفعت الحصانة وزالت الحماية ونزعت البركة وقل القطر ورفعت ملائكة النصرة أسلحتها غير عابئة بنداءات الاستغاثة.
هذا طرف من الغضب السماوي ولا يملك أحد أية إحصائية عن حجم السيئات التي سجلت، والخسارة التي حصلت جراء هذا الغضب. أما الغضب الأرضي فأثاره محسومة ونتائجه لا تخطئها عين مبصرة.
إن فقد حكم الله في الأرض ليعتبر بحق الخسارة الفادحة والجريمة الكبيرة، كونه فنح الباب واسعا لارتكاب كافة أنواع الجرائم من قبل الكفار والمسلمين على حد سواء.
فالكفار يقتلون النفوس، وينهبون الثروة، ويغتصبون الحقوق ويصولون ويجولون في بلاد المسلمين لا فرق بين فلسطين والعراق ولا بين اندونيسيا ودارفور وغبرها من بلاد المسلمين.
والمسلمون يرتكبون الجرائم المختلفة مما تؤاخذ على مثلها الشريعة الإسلامية حداً أو قصاصاً أو تعزيراً ولكنهم يفلتون من العقاب كون تلك الجرائم لا تشكل خرقاً للقوانين الوضعية فيكون بذالك سجل الجرائم في ازدياد مستمر مع مرور كل دقيقة من الزمن........
لقد حجب الله نصره عن الصحابة والرسول (صلى الله عليه وسلم) بين أظهرهم في بداية معركة حنين بسبب معصية واحدة وهى الاغترار بأن الكثرة ستجلب النصر.
فما بالكم وسجل المعاصي التي ترتكب في بلاد المسلمين نتيجة غياب حكم الله في الأرض في ازدياد مستمر وهو كفيل بحجب النصر عنا رغم استغاثة المستغيثين. وصدق الله العظيم عندما قال {ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى}.
فالإعراض عن ذكر الله (أي عن شرع الله) تنتج عنه المعيشة الضنك ( أي الشقاء في الدنيا) والعذاب في الآخرة.
لذالك كان على المسلمين أن يعملوا بأقصى سرعة وأكثر طاقة لاسترجاع ما فقدوه بإقامة خلافتهم لأنها السبيل الوحيد لإعادة حكم الله في الأرض.
2. فقد المسلمون الجماعة ووقعوا في الفرقة كما خطط لهم أعداءهم، فبعد هدم الخلافة سقط التاج من رؤوس المسلمين وهدم البنيان الذي كان يؤويهم وانفرط عقد الأمة الإسلامية ومزّقها الكفار إلى عرقيات متعددة وأقاليم متفرقة كي يسهل عليهم الهيمنة عليها وإذلال شعوبها وأكل خيراتها. وتجأر الأمة الإسلامية اليوم وبالأمس مستغيثة في كل مكان ولكن لا جواب، فلا عمر ولا معتصم ولا صلاح الدين.
وإذا كان الرسول (ص) قد قال: «إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية». فإننا نقول كم من القاصيات أكلن مند هدم الخلافة، ففلسطين قاصية والعراق قاصية وكشمير قاصية والقائمة تطول و في ازدياد مستمر.
أيها الإخوة الكرام، اسمعوا ما قاله الجاسوس الانكليزي الخبيث لورانس والذي خطط لما يسمى بالثورة العربية من أولها إلى آخرها: "إن نشاط الحسين (جد ملك الأردن السابق) مهم لنا إذ إنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة وهي تفكيك الرابطة الإسلامية وهزيمة الإمبراطورية العثمانية" ثم يقول "فإذا تمكنا من التحكم بهم فإنهم سيبقون منقسمين سياسياً إلى دويلات تحصد بعضها البعض ولا يمكن لها أن تتوحد".
أيها الإخوة الكرام، هل هناك اعتراف أكثر صراحة ووضوحاً من هذا وهل يجوز لمسلم بعد ذلك أن يحتفل بأعياد الاستقلال (باستقلال هذا البلاد أو ذاك) وأن يرفع رايات دويلات الضرار التي أقامها الكافر المستعمر، إنها جريمة ما بعدها جريمة.
إن الجماعة المطلوبة لا تكون إلا على إمام واحد "وإنه لا إسلام بلا جماعة، ولا جماعة بلا إمارة، ولا إمارة بلا طاعة" كما قال عمر.
أما الصديق أبو بكر رضي الله عنه فقد حذر من غياب الجماعة وحضور الفرقة وتعدد الأمراء، فقال في سقيفة بني ساعدة "وانه لا يحل أن يكون للمسلمين أميران فإنه مهما يكن ذلك ( أي إذا حصل ذلك) يختلف أمرهم وأحكامهم وتتفرّق جماعتهم ويتنازعوا فيما بينهم هنالك (في حالة تعدد الأمراء) تترك السنة وتظهر البدعة وتعظم الفتنة وليس لأحد على ذلك صلاح".
لذا كان لابد من الجدّ في إزالة الحواجز المادية والمعنوية التي تقف حائلا بين المسلمين وتحقيق الجماعة لأنّ الذي يوحّد رأي المسلمين ويجمع كلمتهم ويوحد موقفهم السياسي ويجعل منهم أُمة ترهب عدوّ الله وعدوّهم هي الخلافة الراشدة لا غير، هذه الخلافة هي التي يرتفع مع قيامها قوله تعالى {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا} وتتهاوى معها عروش الباطل عروش الخونة والعملاء، الني يظنون أنها قوية منيعة وهي في حقيقتها أوهن من بيت العنكبوت.
3. الخسارة الثالثة هي فلسطين أرض الإسراء والمعراج أرض المحشر والمنشر، وإنا لنجد ارتباطا واضحاً بين هدم الخلافة العثمانية وبين ضياع فلسطين وقيام دولة يهود عليها فدولة المسخ هذه ما كانت لتوجد على أرض فلسطين لو كانت الخلافة الإسلامية قائمة.
وكلّنا يعرف موقف الخلافة الإسلامية زمن العثمانيين وهي في أشد حالاتها ضعفا وقد رماها الكفار عن قوس واحد.
وكلّنا يذكر قولة السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله وجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فقد قال قولته المشهورة عندما ردّ الوفد اليهودي الذي جاء يفاوضه من أجل بيع فلسطين لهم فقال: "إنّي لا أستطيع أن أتخلى عن شبر واحد من أرض فلسطين فهي ليست ملك يميني.........بل ملك الأمة الإسلامية......... وإذا مزّقت دولة الخلافة يوماً فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن".
وهذا فعلاً ما حدث ففلسطين ضاعت بعد هدم الخلافة ولن يعيدها من جديد إلا دولة الخلافة.
4. ومن الخسائر التي تملأ القلب والألم والحسرة والأسى ضياع مهابة المسلمين التي كانت في قلوب أعدائهم منهم مصداقاً لقوله (صلى الله عليه وسلم): «ولينزعنّ الله من قلوب أعدائكم المهابة منكم» فصار الواحد منهم والحكام في الدرجة الأولى كالعبد إن سبه السيد لم يستطيع العبد أن يسبه وإن ضربه لم يستطيع العبد أن يضربه.
وإنا نتساءل هل بقيت لأمة محمّد (صلى الله عليه وسلم) مهابة في قلوب أي أمة على وجه الأرض مهما كانت ضعيفة أو فقيرة؟ لا، لا نرى ذلك، مع أنه عليه الصلاة والسلام يقول: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» ويقول: «الإسلام يعلوا ولا يعلى عليه».
إن المؤمن المخلص الصادق عندما يرى جال المسلمين اليوم بعد غياب سلطان الإسلام الحارس الذي يتقى به حين يرى ذلك يتميّز من الغيظ على كل مسلم لا يعمل للتغير ويرضى بعيش الذل والهوان وهو قد رأى بعينيه وسمع بأذنيه وأدرك بحواسه جميعها أن العزّة والمهابة والقوّة والسيادة لا تكون إلا بسلطان الإسلام ودولة الإسلام، ورحم الله عمر القائل: "أيها الناس كنتم أذلّ النّاس فأعزكم الله بالإسلام ومهما ابتغيتم العزة من غيره أذلكم الله". وأضرب لكم مثالا واحداً على المهابة التي كانت للمسلمين في كل شيء، والمثال الذي سأذكره هو كيف كان يدير المسلمون المفاوضات مع الكفار.
"لقي عمرو بن العاص أحد بطارقة الروم في فلسطين، فقال البطريق: ما الذي جاء بكم فقد كانت الآباء اقتسمت الأرض فصارّ لكم ما يليكم وصار لنا ما يلينا. وقد عرفنا أنكم إنما أخرجكم من بلادكم الجهد وسنأمر لكم بمعروف وتنصرفوا.
فقال له عمرو: أما القسمة التي تحدّثت عنها فإنها كانت قسمة شططا، ونحن نريد أن نتراضى فتكون قسمة معتدلة لنأخذ نصف ما في أيديكم من الأنهار والعمارة ونعطيكم نصف ما بأيدينا من الشوك والحجارة ونحن لا نفارقكم حتى نصيّركم عبيداً أو تقتلوننا.
فالفت البطريق إلى أصحابه وقال : ( صدقوا). ثم افترقا ثم لحق بهم المسلمون حتى طووهم عن فلسطين والأردن".
أقول ما تسمعون و أستغفر الله العظيم لي و لكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين و على اله و صحبه اجمعين وبعد، هذا غيض من فيض مما خسره المسلمون ويخسرونه في كل يوم في غياب دولتهم وإمامهم، ولقد بدا أن الخلافة فوق كونها ضرورة شرعية يجب علينا إيجادها فهي حاجة ملحة للمسلمين، وهي كذلك حاجة إنسانية للبشرية جمعاء، {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}.
إن تاريخ الثالث من مارس يجب أن يمحى وتمحى كل آثاره من حياة المسلمين، فالأمم الحية هي التي تعمل على تدوين أيام العزّ لا على تدوين أيام القهر والذل، والأمة الإسلامية وإن احتفظت بهذا التاريخ في ذاكرتها فلكي تمحوه لا لتخلده، ولكي تنطلق منه لإيجاد تاريخ جديد بعودة الخلافة من جديد بإذن الله تعالى مصداقا لقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا عاضا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون ملكا جبريا، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم سكت» أخرجه الإمام أحمد بسند صحيح عن حذيفة.
أيها الإخوة الكرام، إن الله و ملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين امنوا صلوا عليه و سلموا تسليما. اللهم صلي و سلم و بارك على سيدنا و حبيبنا و نور قلوبنا محمد و على اله و صحبه أجمعين، اللهم نسألك إيمانا لا يتزعزع و شجاعة لا تلين و إرادة لا تقهر و عزما لا يفل و أعصابا لا تضطرب، اللهم ثبتنا على دينك و حمل دعوتك إلى أن نلقاك، اللهم كن لنا السند و المعين، اللهم آزرنا بأتقياء المؤمنين، اللهم نسألك خلافة راشدة تعز بها الإسلام و أهله و تذل بها النفاق و أهله و تجعلنا فيها من القادة إلى سبيلك، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تمتنا قبل أن نشهد ذلك اليوم العظيم، اللهم اجعله منا قريبا يا ارحم الراحمين.
و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
د. سعيد بن حسين