الخلافة كيف تنعقد - وبِمَن - ج2
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
الخلافة دولة ودار إسلام
إذا كانت الخلافة دولةً، والخليفةُ رئيسَ هذه الدولة، فلا بدّ أن تتوفّر فيها مقوِّمات الدولة في الإسلام. وإنّ كلّ قطر من الأقطار الإسلامية الموجودة في العالم الإسلامي اليوم أهلٌ لأن يُبايِع خليفة، وتنعقدَ به الخلافة، شريطة أن تتوفّر فيه شروط دار الإسلام. فإذا بايع قطرٌ ما، من هذه الأقطار الإسلامية التي تتوفّر فيها شروط دار الإسلام، خليفةً تتوفّرُ فيه شروط الخليفة، بيعةً شرعية بالشروط الشرعية، وانعقدت الخلافة له ببيعةِ مَن تنعقد ببيعتهم الخلافة، فإنه يصبح فرضًا على المسلمين في الأقطار الأخرى أن يبايعوه بيعة طاعة، أي بيعة انقياد، بعد أن انعقدت الخلافة له ببيعة أهل قطره. وعليه فإنه لا بد لانعقاد الخلافة من توفُّرِ شروط تتعلق بالدار التي حصلت فيها البيعة، وبالرجل المبايَع، وبالذين أعطوه بيعة الانعقاد:
أمّا ما يتعلّق بالدار التي حصلت فيها البيعة من الشروط:
1- أن يكون سلطان ذلك القطر سلطانًا ذاتيًّا، يستند إلى المسلمين وحدهم، لا إلى دولة كافرة، أو نفوذ كافر. وأن يكون أمان المسلمين في ذلك القطر بأمان الإسلام، لا بأمان الكفر، أي أن تكون حمايته من الداخل والخارج حماية إسلام من قوّة المسلمين، باعتبارها قوّة إسلامية بحتة.
2- أن يُشرع حالًا بتطبيق الإسلام فيها كاملًا تطبيقًا شاملًا.
وأمّا ما يتعلّق منها بالشخص المبايَع:
1- أن يكون الشخص الـمُبايَع مستكملًا شروط انعقاد الخلافة، وإن لم يكن مستوفيًا شروط الأفضلية، لأنّ العبرة بشروط الانعقاد.
2- أن يبدأ حالًا بمباشرة تطبيق الإسلام كاملًا تطبيقًا انقلابيًا شاملًا، وأن يكون متلبِّسًا بحمل الدعوة الإسلامية.
وأمّا ما يتعلّق بمن أعطَوا بيعة الانعقاد، أي بمن نصّبوا الخليفة: فشرطُهم أن يكونوا جمعًا يتحقَّقُ في نصبهم له رضا المسلمين، بأيّ أمارة مِنْ أمارات التحقق.
فإن استوفت هذه البيعة في ذلك القطر هذه الشروط، فقد وُجدت الخلافة بمبايعة ذلك القطر وحده، وانعقدت به وحده، ولو كان لا يمثّل أكثرَ أهل الحلّ والعقد لأكثر الأُمّة الإسلامية، لأنّ إقامة الخلافة فرض كفاية، والذي يقوم بذلك الفرض على وجهه الصحيح يكون قام بالشيء المفروض.
دار الإسلام:
شروط دار الإسلام هي من الشروط التي لا بدّ من توفُّرها في القطر الذي تُعلن فيه الخلافة. ودار الإسلام: "هي الدار التي تطبَّق فيها أحكام الإسلام ويكون أمانها بأمان الإسلام". فيشترط في دار الإسلام شرطان، أوّلهما: أن تكون الأحكام المطبّقة فيها هي أحكام الإسلام، وثانيهما: أن يكون أمانها بأمان المسلمين.
أمّا الدليل على الشرط الأول، فقد روى ابن إسحق أنّه صلّى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه في مكّة: (إنّ الله عزّ وجل جعل لكم إخوانًا ودارًا تأمنون بها)، وهذه الدار هي دار الهجرة، وفي حديث عائشة عند البخاري أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: (قد أُرِيتُ دارَ هجرتِكم). وبدليل أنّه عليه الصلاة والسلام لم يهاجر إلى المدينة هو وأصحابه حتّى اطمأنّ إلى وجود الأمان والمنَعة، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادٍ قَوِيّ عَنْ الشَّعْبِيّ، وَوَصَلَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي مُوسَى الْأَنْصَارِيّ قَالَ: (اِنْطَلَقَ رَسُولُ اللَّه عليه الصلاة والسلام مَعَهُ الْعَبَّاس عَمّه إِلَى السَّبْعِينَ مِنْ الْأَنْصَار عِنْد الْعَقَبَة فَقَالَ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ - يَعْنِي أَسْعَد بْن زُرَارَة - سَلْ يَا مُحَمَّد لِرَبِّك وَلِنَفْسِك مَا شِئْت، ثُمَّ أَخْبِرْنَا مَا لَنَا مِنَ الثَّوَاب. قَالَ: أَسْأَلكُمْ لِرَبِّي أَنْ تَعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَسْأَلكُمْ لِنَفْسِي وَلِأَصْحَابِي أَنْ تُؤْوُونَا وَتَنْصُرُونَا وَتَمْنَعُونَا مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسكُمْ، قَالُوا: فَمَا لَنَا؟ قَالَ: الْجَنَّة. قَالُوا: ذَلِكَ لَك). وبدليل ما رواه أحمد عن كعب بن مالك بإسناد صحيح وفيه أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم وأبناءكم. قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحقّ لنمنعنَّك ممّا نمنع منه أُزُرَنا، فبايِعنا يا رسول الله، فنحن أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابرًا عن كابر). وفي رواية صحيحة عند أحمد عن جابر أنّه عليه الصلاة والسلام قال في بيعة العقبة: (...وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدِمتُ عليكم ممّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنّة...). وفي دلائل النبوّة للبيهقي بإسناد جيّد قويّ عن عبادة بن الصامت قال: (وعلى أن ننصر رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قدم علينا يثرب ممّا نمنع أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنّة...). وقد كان عليه الصلاة والسلام يرفض الهجرة إلى أيّ مكان ليس فيه أمان ولا منعة. فحين عرض عليه بنو شيبان الذين تقع ديارهم بين بلاد العرب وبلاد فارس أن ينصروه ممّا يلي مياه العرب دون ما يلي فارس رفض عرضهم، ففي رواية البيهقي بإسناد حسن عن عليّ يروي الحوار بينهم وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام أنّ متحدِّثهم قال له: (فأمّا ما كان من أنهار كسرى فذنب صاحبه غير مغفور وعذره غير مقبول، وأمّا ما كان ممّا يلي مياه العرب فذنب صاحبه مغفور وعذره مقبول، وإنّا إنّما نزلنا على عهدٍ أَخَذَه علينا أن لا نُحدِثَ حدَثًا ولا نؤويَ محدِثًا وإنّي أرى أنّ هذا الأمر الذي تدعونا إليه يا قرشي ممّا يكره الملوك، فإن أحببتَ أن نؤويَكَ وننصرَك ممّا يلي مياه العرب فعلنا). فقال لهم رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما أسأتم في الردّ إذ أفصحتم بالصدق، وإنّ دين الله لن ينصرَه إلّا من حاطه من جميع جوانبه).
وأما دليل الشرط الثاني، فقد روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: (دعانا النبيّ عليه الصلاة والسلام فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشَطِنا ومَكرهِنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا نُنازعَ الأمرَ أهلَه، إلّا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان). والسمع والطاعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام تكون في أمره ونهيه، أي في إجراء الأحكام. وبدليل ما رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وأبو عبيد في الأموال عند عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: (والهجرة هجرتان هجرة الحاضر والبادي، فأمّا البادي فيطيع إذا أُمر ويُجيب إذا دُعي، وأمّا الحاضر فأعظَمُهُما بَلِيَّة وأعظمُهما أجرًا). ووجه الاستدلال واضح في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (فيطيع إذا أُمرَ ويُجيب إذا دُعي)، لأنّ البادية كانت دار إسلام وإن لم تكن دارَ هجرة. وبدليل حديث واثلة بن الأسقع عند الطبراني، قال الهيثمي بإسناد رجاله ثقات أنّ رسول الله عليه الصلاة والسلام قال له: (وهجرة البادية أن ترجع إلى باديتك، وعليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك وأَثَرَة عليك...).
وقد ورد من نصوص السيرة ما يتضمن دلالة على الشرطين معًا. ففي هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ووصوله إليها، روى أحمد بإسناد صحيح عن أنس قال: (إنّي لأسعى في الغلمان يقولون جاء محمّد، فأسعى فلا أرى شيئًا. ثمّ يقولون: جاء محمّد، فأسعى فلا أرى شيئًا. قال: حتّى جاء رسول الله عليه الصلاة والسلام وصاحبه أبو بكر، فكنّا في بعض حِرار المدينة، ثمّ بعثا رجلًا من أهل المدينة ليُؤذِن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتّى انتهوا إليهما. فقالت الأنصار: انطلقا آمنَين مطاعَين. فأقبل رسول الله عليه الصلاة والسلام وصاحبه بين أظهرهم. فخرج أهل المدينة، حتّى إنّ العواتق لَفوقَ البيوت يتراءَينه يَقُلن أيُّهُم هو أيُّهم هو؟). وفي هذا الحديث دليل على الشرطين معًا الأمان وإجراء الحكم، أمّا الأمان ففي وجود خمسمائة من الأنصار يقولون انطلقا آمنَين، وقد أقرّهم عليه الصلاة والسلام على قولهم. كما أقرّهم على قولهم مطاعَين. وبذلك توفَّر الأمان والطاعة في دار الهجرة. ولولا توفُّرهما ما هاجر عليه الصلاة والسلام. وهذان الشرطان، أي توفير الأمان والطاعة في إجراء الأحكام قد بايع عليهما الأنصار في العقبة، روى البيهقي بإسناد قويّ عن عبادة بن الصامت قال: (...إنّا بايعنا رسول الله عليه الصلاة والسلام على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم، وعلى أن ننصر رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قدم علينا يثرب ممّا نمنع أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنّة. فهذه بيعة رسول الله عليه الصلاة والسلام التي بايعناه عليه). فإجراء الحكم واضح في قوله: (بايعنا رسول الله عليه الصلاة والسلام إذا قدم علينا يثربَ ممّا نمنع أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا).
وقد كان هذا المعنى واضحًا في الكتاب الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهودَ وعاهدهم. وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة. وهذا الكتاب من رواية ابن إسحق وسُمِّي الصحيفة. وفيه: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمّد النبيّ عليه الصلاة والسلام بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أنّهم أمّة واحدة من دون الناس... وإنّ المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس... وإنّ على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإنّ بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة... وإنّه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يُـخاف فسادُه، فإنّ مردَّه إلى الله عزّ وجلّ وإلى محمّد رسول الله عليه الصلاة والسلام...).
ومما يشهد لهذا التعريف لدار الإسلام والشروط التي أوردناها قول الله تعالى: ﴿الذِينَ إِن مَكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَلَاةَ وَآتَوُا الزَكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور﴾. قال أمير المؤمنين عثمان بن عفّان رضي الله عنه: (فينا نزلت، فأُخرِجنا من ديارنا بغير حق، إلا أن قلنا ربنا الله، ثم مُكِّنّا في الأرض، فأقمنا الصلاة، وآتينا الزكاة، وأمرنا بالمعروف، ونهينا عن المنكر، ولله عاقبة الأمور).
هذا هو واقع دار الإسلام وتعريفه وشروطه، وهذه الأدلّة التي أسلفناها هي الأدلّة عليه. فهل تنطبق شروط دار الإسلام على الواقع الذي أَعلن فيه (تنظيمُ الدولة) البيعةَ والخلافة؟
بالنظر إلى واقع هذا التنظيم نرى أنّه لا سلطان له على سوريا ولا على العراق، وأنّه لم يحقّق الأمن والأمان في الداخل، ولا في الخارج، حتّى إنّ الذي بايعوه خليفة لا يستطيع استقبال الوفود لإعطائه البيعة، بل بقي حاله مختفيًا كحاله قبل إعلان الدولة! وهذا مخالف لما كان عليه رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد جاز له صلوات الله وسلامه عليه قبل الدولة أن يختفي في غار ثور، ولكنّه عليه الصلاة والسلام بعد الدولة كان يرعى الشؤون، ويقود الجيش، ويقضي بين الخصوم، ويرسل الرسل، ويستقبلهم علنًا دون خفاء، فقبل الدولة يختلف عمّا بعدها... وهكذا فإعلان التنظيم للخلافة هو لغو لا مضمون له، فهو كالذين سبقوه في إعلان الخلافة دون حقائق على الأرض ولا مقوِّمات، بل لإشباع شيء في أنفسهم، فذاك الذي أعلن نفسه خليفة، وذاك الذي أعلن أنّه المهدي... دون مقوِّمات ولا سلطان ولا أمن ولا أمان!...يتبع
أعدها: الأستاذ أحمد القصص
رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
في الخامس عشر من رمضان المبارك 1435هـ