- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
مفاهيم مغلوطة يُروَّج لها باسم الوسطية أو الاعتدال
(3)
استكمالا لما بدأناه في المقالتين السابقتين من الحديث عن المفاهيم المغلوطة التي روج لها البعض باعتبارها من الإسلام، سنتكلم اليوم عما يروج له بعض منتسبي الإسلام من أفكار مغلوطة كتحريم العمل الحزبي على أساس الإسلام، وفكرة حقوق الإنسان بمفهومها الغربي، والأفكار الواقعية كقولهم خذ وطالب.
4- تحريم العمل الحزبي على أساس الإسلام:
أدرك الغرب من الوهلة الأولى أن المسلمين لن يتوقفوا أبدا حتى يعيدوا الإسلام إلى الحكم مرة ثانية، ولأنه يعلم أن هذا الأمر لا يمكن أن يتم بعمل فردي يقوم به فلان وفلان، وأنه بحاجة لعمل حزبي منظم يقوم به حزب سياسي يقوم على أساس مبدأ الإسلام، فقد هاجم فكرة الحزبية واستعمل لهذا الهجوم نفراً من المسلمين ممن باعوا أنفسهم للشيطان. ورغم أن الغرب اهتم بالعمل الحزبي وبالأحزاب وفتح أمامها المجال واسعا للعمل السياسي، ونظم الحياة السياسية في دوله على أساس التعددية السياسية، إلا أنه منع ذلك في بلاد المسلمين. ولقد رأينا كيف أن الأنظمة السياسية التي نشأت على أعين الغرب في بلادنا بعد هدم الخلافة، سمحت لكل من هب ودب بالعمل السياسي الحزبي القائم على أفكار الكفر كالاشتراكية والوطنية والقومية والعلمانية، ولكنها منعت العمل السياسي على أساس الإسلام وجرمته، إدراكا منها لخطورة هذا العمل على تلك الكيانات المصطنعة العميلة التي أقامها الغرب في بلادنا لمنع وصول الإسلام إلى الحكم. وللرد على من يؤصل لذم الحزبية في الإسلام نقول:
أوّلاً: لا بدّ من معرفة المعنى اللغوي لكلمة حزب؛ فحزب الرجل هم جنده وأصحابه الذين هم على رأيه، فالحزب هو كل فكري شعوري.
ثانيا: أدلّة وجوب إقامة جماعة من المسلمين من القرآن:
قال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾، أي: "ولتكن منكم أيها المؤمنون أمة، أي جماعة يدعون الناس إلى الخير، يعني إلى الإسلام وشرائعه التي شرعها الله لعباده، ويأمرون الناس بالمعروف وينهونهم عن المنكر، ومن الناس الحكام، وهذا قمة العمل السياسي، والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من الأمة متصدية لهذا الشأن، وإن كان ذلك واجبا على كل فرد من الأمة بحسبه".
ويقول الإمام البيضاوي: "مِن لِلتَّبْعِيضِ، لِأنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ مِن فُرُوضِ الكِفايَةِ، ولِأنَّهُ لا يَصْلُحُ لَهُ كُلُّ أحَدٍ إذْ لِلْمُتَصَدِّي لَهُ شُرُوطٌ لا يُشْتَرَطُ فِيها جَمِيعُ الأُمَّةِ كالعِلْمِ بِالأحْكامِ ومَراتِبِ الِاحْتِسابِ وكَيْفِيَّةِ إقامَتِها والتَّمَكُّنِ مِنَ القِيامِ بِها. خاطَبَ الجَمِيعَ وطَلَبَ فِعْلَ بَعْضِهِمْ لِيَدُلَّ عَلى أنَّهُ واجِبٌ عَلى الكُلِّ حَتّى لَوْ تَرَكُوهُ رَأْساً أثِمُوا جَمِيعاً ولَكِنْ يَسْقُطُ بِفِعْلِ بَعْضِهِمْ، وهَكَذا كُلُّ ما هو فَرْضُ كِفايَةٍ"، إذاً هذا أمرٌ واجب بصيغة صريحة بالقرآن، ومن في (منكم) للتبعيض؛ أي جماعة من هذه الأمّة كاملة، وضابط التبعيض هو أنه يمكنك استبدالها بكلمة بعض، وعلى هذا استقر رأي جمهور المفسّرين.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً﴾ [الكهف:12]، والظاهر من الآية أن الحزب الواحد هم الفتية إذ ظنوا لبثهم قليلا. وصفهم الله بالحزب وقد كان راضياً عنهم وهم الذين وقفوا في وجه قوى الكفر آنذاك. وفي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأنفال: 64]، وأيضا قوله تعالى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشعراء: 215]، وقوله عزّ وجلّ: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ [يوسف: 108]، فالآيات هذه وغيرها تدلّ على أنّ دعوة الرسول ﷺ إنما هي دعوة جماعية بدأت منذ المرحلة الأولى بتكوين الحزب / الجماعة / التكتّل.
وفي قوله تعالى: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22]، يقول ابن كثير وغيره في تفسير الآية: النبيّ وصحبه ومن كان منهم ومن عمل عملهم ومن اتّصف بوصفهم. أما القرطبي فيقول: أي من فوّض أمره إلى الله وامتثل أمر رسوله ووالى المسلمون فهو منهم (حزب الله).
يقول صاحب السيرة الحلبية وهو يروي آخر كلام بلال بن رباح رضي الله عنه وهو يحتضر، أنه سمع زوجته تقول وا حزناه وا حزناه، فقال وا طرباه، غداً نلقى الأحبّة محمداً وحزبه، فالصحابة أيضا كانوا عارفين بأنهم يعملون في جماعةٍ منظّمة لا مجرّد أفراد متشتتين.
وقال رسول الله ﷺ لأصحابه: «يَقْدُمُ عَلَيْكُمْ غَدًا قَوْمٌ هُمْ أَرَقُّ قُلُوبًا لِلْإِسْلَامِ مِنْكُمْ»، فقدِمَ الأشعريون وفيهم أبو موسى الأشعري، فلمّا دَنَوْا من المدينـة جعلوا يرتجـزون يقولـون (غداً نلقى الأحبّـة، محمّـداً وحِزبه). ومن السنّة قوله ﷺ «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الدِّينِ ظَاهِرِينَ، لِعَدُوِّهِمْ قَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ»، إذا الرسول عليه الصلاة والسلام يتحدّث عن جماعة قائمة في كلّ زمان وهذا معنى قوله (لا تزال)، فهل هذه الطائفة مؤلفة من أفراد متفرّقين؟!
وإذا قيل إن الرسول ﷺ عمل جماعة واحدة فقط، فهل يجوز لنا أن نكوّن أكثر من جماعة؟ وهل أذِن الرسول بوجود جماعة أخرى في وقته؟ نقول: إنه في وقت حياة الرسول من الطبيعيّ جدّاً ألا يوجد اختلافات، فهو المرجع الموحى إليه من الله، وخصوصاً من الصحابة الذين يعيشون حوله، لكنّنا عندما نقرأ وندقق في السيرة نعلم أنه عندما كان يبعث الرسول السرايا والصحابة عندما يبتعدون عن الرسول توجد الخلافات والآراء وكل جماعة تتجمع مع من يوافقها في الرأي. وفي قوله عليه الصلاة والسلام يَوْمَ انْصَرَفَ عَنِ الأَحْزَابِ: «لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الظُّهْرَ إِلاَّ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ»، فَتَخَوَّفَ نَاسٌ فَوْتَ الْوَقْتِ فَصَلُّوا دُونَ بَنِى قُرَيْظَةَ، وَقَالَ آخَرُونَ لاَ نُصَلِّى إِلاَّ حَيْثُ أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَإِنْ فَاتَنَا الْوَقْتُ، قَالَ: فَمَا عَنَّفَ وَاحِداً مِنَ الْفَرِيقَيْنِ... ومن هنا نرى جواز تعدد الجماعات لتعدد الأفهام.
وفي قوله تعالى ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ﴾، لا تعني هذه الآية تحديد العدد بواحدة ولكن المعنى المراد بوجوب وجود واحدة على الأقل، كما في الحديث الشريف «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ» ولا يعني هذا أبدا أنه إذا رأيت أكثر من منكر لا تغيّره.
وقصّة أبي بصير عتبة بن أسيد معروفة لنا جميعا، فبعد أن امتنع بدينه أن يفتن فيه وأفلت من الأسر، قال رسول الله ﷺ: «وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ لَهُ أَحَدٌ». فاجتمع إليه قريب من سبعين رجلا، وجعلوا مهمتهم التي تحزبوا عليها التضييق على قريش.
يقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى وأما (رأس الحزب)؛ فإنه رأس الطائفة التي تتحزب؛ أي تصير حزباً، فإن كانوا مجتمعين على ما أمر الله به ورسوله من غير زيادة ولا نقصان؛ فهم مؤمنون، لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وإن كانوا قد زادوا في ذلك ونقصوا مثل التعصب لمن دخل في حزبهم بالحق والباطل والإعراض عمن لم يدخل في حزبهم، سواء كان على الحق والباطل؛ فهذا من التفرق الذي ذمه الله تعالى ورسوله، فإن الله ورسوله أمرا بالجماعة والائتلاف، ونهيا عن التفرقة والاختلاف، وأمرا بالتعاون على البر والتقوى، ونهيا عن التعاون على الإثم والعدوان. إذا ليس وجود حزب من عدمه هو ما يقال له حلال أم حرام، بل على ماذا اجتمع الحزب.
والآيات التي تقول ﴿مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [الروم: 32]، جميعها آيات ليس محلّها الاجتهادات بل الأصول وتتحدث عن الكفار لا عن المسلمين. فالحزبية الحقة هي الحزبية القائمة على أساس الإسلام وأنها هي الطريق الوحيد الذي يمكن من خلاله إعادة الحكم بالإسلام.
وأما الاستدلال بحديث حذيفة بن اليمان: «... دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا. قَالَ: هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا. قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» فإن هذا الحديث صريح بأن الرسول يأمر المسلم بأن يلزم جماعة المسلمين وأن يلزم إمامهم، ويترك الدعاة الذين هم على أبواب جهنم. فسأله السائل في حالة ألا يكون للمسلمين إمام ولا لهم جماعة ماذا يصنع بالنسبة للدعاة الذين على أبواب جهنم، فحينئذ أمره الرسول أن يعتزل هذه الفرق، لا أن يعتزل المسلمين ولا أن يقعد عن إقامة إمام. والمقصود البعد عن الدعاة المضلين الذين على أبواب جهنم، وهذا لا ينطبق على الدعاة الذين يدعون للإسلام ولإعادة تطبيقه في دولته، بل ينطبق على الأحزاب والفرق الضالة التي تدعو لغير الإسلام كالعلمانية وأخواتها.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حامد عبد العزيز