سلسلة تفكيك الخطاب النسوي - 1 - لماذا لا ترفع الحركة النسوية شعار كلنا مسلمات فرنسا؟
- الموافق
- كٌن أول من يعلق!
بسم الله الرحمن الرحيم
تحدثت النيوز وييك عبر نسختها الإلكترونية عن تقرير نيلس موزنيكس "المجلس الأوروبي لحقوق الإنسان" أن 80% من الاعتداءات التي تطال المسلمين في فرنسا في موجة الإسلامافوبيا موجّهة ضد النساء المسلمات وتستهدفهن بشكل خاص. وتشمل هذه الاعتداءات ممارسات متفاوتة في درجة العنف والإساءة؛ منها سحب وتمزيق الحجاب أو النقاب ورمي الضحية بفضلات الكلاب أو قذفهم بالزجاجات من السيّارات المارة أو وصفهن بعبارات بذيئة أو البصق عليهن (2015/2/18م - النسخة الإلكترونية).
وما أن نشر التقرير حتى تنادت الأصوات في فضاءات تويتر متسائلة عن الغياب الكامل لأي ردة فعل من النسويات في فرنسا، ولعل هذه النداءات تثير العجب أكثر من صمت النسويات نفسه. فهل توقع عاقل أن تخرج نساء فرنسا في مسيرة مليونية وهن يحملن شعار # كلنا_مسلمات_فرنسا؟ هل يُنتظر منهن أن ينظرن للهجمة على المرأة المسلمة كهجمة على كل النساء؟ وكيف يُنتظر هذا من الحركات النسوية في فرنسا وهي التي ساندت الحكومة واحتفلت في عام 2004 بحظر الحجاب في المدارس واعتبرت عزل المرأة المسلمة عن المجتمع وتقليل فرصها في التعليم انتصارا للمرأة الفرنسية! تحول الحجاب من زي للمرأة المسلمة إلى زي يختزل كل ما هو سلبي ورجعي، وتوالت الاعتداءات خاصة بعد التغطية الإعلامية المعادية للإسلام والمسلمين، ثم تبع ذلك حظر النقاب في الأماكن العامة في 2011 وما صحبه من ملاحقات وتضييق على المسلمات حتى إن الكثيرات بتن يعشن في عزلة عن المجتمع وتفننت أخريات في سبل نقل الدراسة والعمل للبيت.
لقد ارتبط زي المسلمة سواء أكان خمارا على رأسها أم نقابا تغطي به وجهها، ارتبط بقيم مغايرة لمنظومة الفكر الغربي واعتُبر تحديا صريحا لحضارة الغرب ومكتسباتها. بل إن الصرامة التي نفذ بها قرار حظر النقاب في الأماكن العامة بدا وكأنه محاولة ترويض للمرأة المسلمة حتى تعود لرشدها وتسير في ركب المتحررات، ظانين أن هذه الهجمة الشرسة ستكون بمثابة علاج للمسلمات اللواتي فشل الفكر الغربي في استقطابهن وصمام أمان ضد المد الإسلامي! وقفت الحركة النسوية لتبرر السياسات المعادية للمرأة المسلمة وتستقطب نساء الجالية لتعزز القيم العليا للمجتمع في فرنسا. وبالرغم من الأثر السلبي لحظر النقاب وما كتب في الأمر من تقارير ودراسات إلا أن الحركات النسوية لم تجد حرجا في أن تصرح بأن التزام المسلمة بالأحكام الشرعية هو خيارها وعليها وحدها تحمل نتائج هذا القرار، وأن حماية مكتسبات الحركة النسوية هي قيمة عليا يجب الحفاظ عليها. هذه الحركة النسوية هي ذاتها التي وقفت مساندة للحكومة الفرنسية لدمج الجالية المسلمة قسراً وليس بالإقناع وقدمت الحاجة للاندماج على مناصرة المرأة وحماية حقوقها! لقد بدا واضحاً أن النسوية تُستخدم كجبهة ضد قيم لم يواجهها الغرب بقوة الفكر والحجة وأن شعارات حقوق المرأة لا تعني شيئا إلا في إطار استغلال ملفات ختان الإناث وزواج الصغيرات وتعدد الزوجات.
ثم كيف تنتصر الحركات النسوية لمسلمات فرنسا وهي أدرى الناس بأن النظام لا يكترث لحال المرأة وحقوقها! ولعل أبرز مثال على هذا هو أن المرأة الفرنسية لم تحصل على حق الانتخاب إلا في عام 1945 وعانت طويلا حتى حصلت على هذا الحق، ولا زالت تعاني من هضم الحقوق والاستغلال وهدر الكرامة، وإن فاقد الشيء لا يعطيه.
يقول الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ماري أرويه المعروف باسم فولتير "أنا لا أتفق مع ما تقوله لكني سأدافع حتى الموت عن حقك في أن تقوله"، كانت هذه إحدى أبرز مقولات فيلسوف عصر التنوير. عبارة اختزلت قيم الدفاع عن حق الآخر في أن يختلف معك فكريا وثقافيا وتجاوزت قائلها لتصبح دلالة على الإنصاف والموضوعية. إلا أن واقع فرنسا منذ عهد فولتير مرورا بتاريخ فرنسا الاستعمارية وفرنسا الحديثة يظهر زيف هذه الشعارات وأن من تناقلها لم يَعِها ولم يكن صادقاً بل سار على أن الفكر الغربي هو عصارة الفكر الإنساني وأرقى ما توصل إليه البشر. وبالرغم من شعارات حرية الرأي والدين إلا أن الرموز الإسلامية، خصوصاً زي المرأة المسلمة كان الاستثناء الأبرز لهذه الحريات لأنها رموز يرون أنها مغايرة ومعادية لهم ولم تنأَ النسويات بأنفسهن عن هذا العداء لبنات جنسهن بل أدلين دلوهن أو باركن الهجمة الشرسة على المرأة المسلمة وأصبحن أدوات للتضييق على المسلمات.
وليت الأمر وقف على تعارض الفكر الليبرالي التحرري الذي تحمله النسويات مع قمع المسلمات بل تجاوز ذلك، لقد بدا واضحا تعارض كراهية النسويات للحجاب والمحجبات وتجاهلهن لمعاناة المسلمات في الغرب مع مزاعم الحراك النسوي الفكري (على اختلاف تياراته) وتبني قضايا المرأة أينما كانت. لطالما رددت النسويات عبارات تدغدغ المشاعر وتجذب نساء الأرض وتشعرهن بأن الحركة النسوية أصبحت لسان المرأة الذي يعبر عن معاناتها ويذود عنها. تقول الكاتبة النسوية الفرنسية إيزابيل ألونسو "ما دامت امرأة واحدة على وجه الأرض تعاني نتيجة التمييز على أساس الجنس فنضال المرأة مشروع والنسوية ضرورية."
عملت النسوية على مناهضة ما أسموه بالمركزية الذكورية (سلطة الرجل) عبر العالم وتناست المناطق الشائكة التي تتعارض فيها المبدئية مع مصالح حماة قضايا الجندر فتحولت لحركة براغماتية تبحث عن بعض المكتسبات. زعمت النسوية أنها تصوغ للمرأة مفاهيم عقلانية مستنيرة تهدف لهدم الهرم الحالي (حيث يهمش الرجل المرأة ويهدر كرامتها) وتركت العنان لمن يستهدفها لأنها أنثى مستضعفة. ادعت النسويات مناصرة المرأة في أصقاع الأرض وفي الوقت ذاته وقفت كشاهد زور وشيطان أخرس أمام اضطهاد نساء فرنسا نفسها في ما يسمى بالضواحي الفرنسية "banlieues" وسوء أحوال المسلمات هناك. وقعت في سلسلة من التناقضات واتسع البون بين الشعارات والمعايشات في أرض الواقع.
إن النسوية قائمة على فكرة وحدة قضية النساء واتحادهن ضد ظلم وقهر الرجال، فأصبح التحرير من قيد الرجل قضية محورية تحارب من أجلها ويدعمها بعض الذين آمنوا بفكرة النسوية من الرجال. الإشكالية في هذه النظرية هي أنها تهمش النظرة الكلية للحياة وتتناسى تباين آراء البشر في القضيا الفكرية والسياسية. هذه النظرة تعارض الواقع وتظهر النساء كوحدة واحدة متجانسة، وتغلب النوع البشري على الفكر والذوق والمشاعر المشتركة بين البشر. إنها جدلية تعتبر المرأة في المستوطنات حليفا للمرأة الفلسطينية التي اغتصب الاحتلال أرضها وأذاقها الويلات لعقود طويلة! تعتبر حرائر الشام الصامدات أمام آلة القمع كنساء الشبيحة اللواتي يقدمن الدعم لبشار وزبانيته! تعتبر النساء من اليمين المتطرف في أوروبا أنصارا لنساء الجاليات المسلمة!
وختاماً نقول، لن ترفع النسويات شعار "كلنا مسلمات فرنسا" لأن التباين العقدي والمبدئي أقوى بكثير من صراع النسويات مع سلطة الرجل أو شعارات حقوق الإنسان التي تطبع بانتقائية وتتبع لأجندات دولية.. لن تهّب النسويات لحماية المسلمات في فرنسا لأنه لا يمكن أن نفصل الفكر النسوي عن البيئة التي نشأ وترعرع فيها وستظل الحركات النسوية ودعاتها خاضعين لهيمنة الرجل الغربي وفكره ولمنظومة القيم المجتمعية الغربية التي تخالف وتهمش غيرها من منظومات فكرية وعقدية. ولا سبيل لهن ولغيرهن للتحرر ومناصرة الإنسان وقضاياه الحيوية إلا بشيء من التجرد من القوالب الموجودة والبحث في أصل المنظومة الفكرية التي يتبعونها وأن يكون ذلك إحقاقاً للحق وبحثاً لإجابات تقنع العقل وتتوافق مع الفطرة السليمة.
وخاتمة الختام، إننا بصفتنا مسلمات نُكْبِرُ صبر مسلمات فرنسا وغيرها من بلاد الغرب ونعتز بتمسكهن بدينهن ونسأل الله العلي القدير أن يحفظهن ويعينهن ويعمي عنهن كل حاقد متربص، ونسألك يا ذا الجلال والإكرام أن هذا حال ذراري المسلمين، اللهم يسر لأمتنا أمر رشد واعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
يقول الحبيب المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه: «يأتي على الناس زمان الصابر فيهم على دينه كالقابض على الجمر».
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
هدى محمد - أم يحيى